في كل مرة تقترب الأسئلة من هذه المنطقة الشائكة تسيطر الحيرة علينا. كيف يرد الأبوان على سؤال ابنهما، لأول مرة، في أي بلد نعيش؟

كنّا نجيب: “في مصر”. لكن الأسئلة لم تتوقف بعدها.

كان يعود كل فترة بأسئلة جديدة عن المكان الذي نعيش فيه. للدقة لم يكن الموضوع يشغله بشكلٍ ملحٍ ليسأل أسئلة متتالية حول الأمر، بل كان مثل كل الأطفال يتسلى بالمعرفة وطرح الأسئلة بينما ننشغل نحن بشكل جاد وبحثي ومعرفي بكل أسئلة الطفل العفوية.

في البداية أحضرنا خريطة وبدأنا نقدمها هكذا: مصر بلد على خريطة. بشكل مجرد قدمنا الوطن، مكان نسكنه. لكن لعبة الأسئلة عن البلد المرسوم في خريطة لم تتوقف من جانبه. بدأت تُشكل تساؤلات بشأن الكلام عن البلد أو للدقة كيفى نحكي عن مصر للمصريين الجدد من صغار السن؟ ما التاريخ الذي يجب أن نبدأ بحكيه لأطفالنا؟ وهل يجب أن نقدم نحن هذه الحكاية أم نترك هذه المهمة للمؤسسات التعليمية؟

ما دور مؤسسات مثل المدرسة والدولة في تقديم هذه المعرفة مقابل لعبة الآباء مع أولادهم وتفاعل المجتمع مع عضوه الجديد لدمجه؟ هل تتكامل هذه الأدوار لزرع فكرة ذهنية مثل الانتماء للوطن داخل رأس الطفل هل تحتكر الدولة هذا الدور حكي تاريخ البلد؟ وكيف يحدث صراع  بين كلٍ من الأسرة والمجتمع والمدرسة والدولة لفرض مفهوم محدد ورفض مفاهيم أخرى؟

يهتف بحياة الرئيس.. ينكره وجوده

تكشف لنا دراسة القومية والتجانس في المناهج الدارسية المعاصرة، التي نشرتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن مناهج التاريخ الدراسية في المرحلة الثانوية قد تغيّرت خمس مرات في الفترة من 1986 إلى 2007، بينما لم يُمس المنهج قبل الثمانينات، السنة الخامسة لتولي محمد حسني مبارك رئاسة الجمهورية. عدّلت وزارة التعليم منهجها لتاريخ البلاد في عهد مبارك، لكن بعد الثورة عليه عُدّل منهج التاريخ، للمصادفة، خمس مرات كذلك. في حين ظل منهج التاريخ ثابتًا من الستينيات لمدة 20 عامًا، لتدرسه أجيال وراء أجيال. حسنا نحن نعيش الآن فترة سيولة فيما تحكيه الدولة، بشكل رسمي، عن تاريخ البلد. نشهد لحظات تعدّيل التاريخ الرسمي للصغار.

وقد أشارت الدراسة، والتي أعدتها فريدة مقار ومعتز عطا الله، إلى أن عهدا محمد حسني مبارك وكل ما يمت بالثورة عليه كان قد حُذفا من مناهج التاريخ في العاميَن الدراسيَين 2012 \ 2013 و2013 \ 2014. وهو ما تراجعت عنه وزارة التعليم في المناهج الدراسية في 2015. كما خصصت مناهج التاريخ والتربية الوطنية أجزاء منها لثورة 2011، فقد شمّلت الوحدة الدراسية الثامنة بمنهج التاريخ للصف الثالث الثانوي، آخر سنوات التعليم ما قبل الجامعي، فصل بعنوان” ثورتي 25 يناير و30 يونيو”.

وبالمقابل إذا تأمّلنا مناهج وزارة التربية والتعليم، سنجد أن منهجَي التاريخ والتربية الوطنية تغيّرا خمس مرات منذ 2011 حتى الآن. كان التعدّيل الأول في مارس/ أذار، بعد شهر من الثورة على مبارك، فحُذف فصل من مادة التاريخ لأنه كان يتناول عهد الرئيس الأسبق بشكل دعائي، حسب تصريحات وزارة التعليم وقتها. وفي 2015 عُدّل منهج التربية الوطنية، في المرحلة الثانوية، وصارت الدروس المستفادة من ثورة 25 يناير تتشابه مع كافة احتجاجات المصريين منذ الفراعنة حتى 30 يونيو. تصوّر ربما يكون من الصعب تخيله لأن أي احتجاج لا يتشابه مع آخر.

يضع التاريخ المدرسي ضوابط للاحتجاج، تكون أغلبها ضد الاحتلال والفساد والانحلال، في حين يعد احتجاج 2011 مختلفًا مقارنة بتاريخ المصريين مع الاحتجاج. فقد شهد مطالبة بحكم ديمقراطي وكرامة وعدالة اجتماعية.

في التاريخ المدرسي يتحوّل الحديث عن 25 يناير من كونها ثورة إلى مسار منحرف كان الإخوان المسلمون سببًا في حدوثه، لتكون أحداث 30 يونيو “ثورة تصحيح” لمسار منحرف.

بينما تدرس وزارة التعليم، حاليًا، ألا تحتوي مناهجها أي ذِكر للأحداث السياسية التي مرّت بها البلاد خلال الست سنوات الماضية حتى تأخذ هذه الأحداث وقتَا كافيًا من الدراسة والتحليل.

بالعودة إلى دراسة مقار وعطا الله سنجد أنها تشير إلى سعي المناهج الدراسية لتأسيس سردية قومية، وتوضح الدراسة أن هذه السردية: “تعمل على تأسيس علاقة قوية بين المواطن والدولة. وفي غالبية الخطابات القومية نرى محاولة واضحة لخلق مواطنين مطيعين يتقيدون بهياكل القوة القائمة ولا يضعون السلطة في موضع المساءلة”.

هل الأمة خيال؟

يحدد موقع الإلكتروني لمركز تطوير المناهج الدراسية التابع لوزارة التعليم أن من أهداف التعليم أن يصبح الطلاب مواطنين مؤمنين بقيم المتجتمع. ينتج المركز المناهج الدراسية للطلاب، وينظم مسابقات للمؤلفين لتأليف الكتب التعليمية حسب ضوابط تنشر في أكثر من دليل من ضمنها الدليل المرجعي للقضايا العالمية والمهارات الحياتية في المناهج الدراسية. سنجد في الدليل السابق إشارة إلى أن  الطلاب يجب أن يحرصوا على المصالح القومية والدستورية من أجل حياة ديمقراطية وسلام اجتماعي يضمن حياة كريمة لأفراد المجتمع.

وترسخ ضوابط الدليل وأهداف الوزارة كذلك لأفكار مثل وحدة مصر منذ حكم مينا نارمر، الذي وحد الشمال والجنوب، لتصبح مصر بلدًا واحدًا في العصر الفرعوني. ومن حينها يقف الشعب صفًا واحدًا أمام العدو دون أن يتغير هذا الاصطفاف مهما تغيّر الآخر. سواء كان العدو الهكسوس أو الفرنسيين أو البريطانيين أو الإسرائيليين. ولا يتحقق الانتصار إلا باتحاد أبناء الأمة.

وفي المقابل تركز دراسة مقار/ عطا الله على ما يفرضه الخطاب القومي بشأن واحدية شعب بأسره. وتختفي الاختلافات بين الجماعات العرقية والأقليات. وهو ما يكرس لفكرة الأمة، التي تتطلب تخيل جماعة من البشر يشتركون في عامل أو أكثر، وتحضر القومية لتكون الوعي الذاتي للأمة أو الأيديولوجية السياسية المرتبطة بالانتماء لهذه الجماعة البشرية.

تتمتع الدولة بالحق في ترويج هويتها القومية بحسب اتفاقية حقوق الطفل، ومع ذلك فإن الحاجة تظل قائمة إلى مناهج تحافظ على التوازن بين الترويج للقومية من جانب وإعلاء قيم التسامح والتقبل والتنوع من جانب آخر. ويكمن الخطر في حذف سرديات واستبعاد جماعات والتشديد المفرط على القومية الفائقة، حسبما جاء في الدراسة. وتشير إلى اعتماد المناهج على الحتمية التاريخية في تناول الأحداث.

كان حريق القاهرة في يناير/ كانون ثاني 1952 سببًا لقيام ثورة في يوليو 1952، حسب التاريخ المدرسي لتحذف ستة أشهر بين الحدثيَن دون ذِكر لما جرى فيها. وقد نجد تبسيطًا  مُخلًا عبر وضع ثنائيات مثل المقابلة بين الفترة الليبرالية خلال الفترة الملكية والخطاب القومي الخاص بفترة تأسيس الجمهورية.

من جانبها تتحدث الباحثة في مجال التاريخ الحديث ملك لبيب، والمتخصصة في الإحصاء خلال فترة الاحتلال البريطاني لمصر، والذي كان موضوع أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه، والتي حصلت عليها من جامعة إكس جنوب فرنسا، حول تناول المنهاج الدراسية المصرية للتاريخ. تعتبر ملك أن التاريخ يقدم بشكل خطي. وتوضح ذلك بقولها: ” الأحداث تؤدي لبعضها البعض، والتاريخ بُني على رواية مؤسسة لصناعة تصور وطني عن تاريخ البلد، الذي يدرس باعتباره حكايات عن شخصيات، والأحداث فيه انجازات للقادة والحراك يأتي من جانب القيادة السياسية”.

مصادر أخرى

شاركت مَلَك، مؤخرًا، في ورشة ضمت طلاب من المرحلة الثانوية بمدارس محافظة المنيا، بصعيد مصر. الورشة كانت ضمن مبادرة مبتدأ التعليمية لتقديم العلوم الاجتماعية والإنسانيات النقدية بطريقة مختلفة للطلاب من سن 14 إلى 17 في شكل ورش عمل. بهدف خلق مجتمع من المهتمين والناشطين في العلوم الاجتماعية بين أوساط الشباب في المرحلة الثانوية في المدارس المصرية. وخلال ورشة المنيا كان الهدف تقديم الصعيد من خلال علاقته بفكرة الهامش والمركز.

وكان الهدف تقديم تصوّر مختلف للطلاب عن التاريخ وتفكيك الفهم الضيق لقرائته، وذلك عبَر كشف مصادر أخرى للبحث أو التركيز على دراسة فئات أخرى في المجتمع في العصور القديمة. وهو ما توضحه ملك بقولها: ” حوّلنا الكتاب من وسيلة معرفة إلى مثار للتساؤل. أن التاريخ ليس معلومات حقيقية وإنما رؤى تختلف حسب مناهج البحث”.

خلال الورشة تحدّثت ملك، والمشاركين الآخرين في الورشة، مع طلاب المنيا عن الصعيد، بوصفه كان مركزًا في وقت سابق. وذلك عبر تقديم كتابات ومصادر أخرى إلى جانب كتاب التاريخ المدرسي مثل كتابات الجبرتي أو ما رُوى عن شيخ العرب همام، ودراسات زينب أبو المجد، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة أوبرلين بالولايات المتحدة الأمريكية، وكتابات الرحالة J.A.St.Johan، الذي  كان قد جاء إلى قنا في 1820. وقد أكدت المصادر الأخرى للطلاب أن الصعيد لم يكن هامشًا، بل مركزًا في السابق.

كما تفاجأ الطلاب من تاريخ المكان الذي يعيشونه فيه خاصة عندما قرأوا عن ثورات الصعيد وتمرد أهله على حكم محمد علي، حسبما أكدت مَلَك. كان نقاش وجدل الورشة مهمًا بالنسبة للمتخصصين في العلوم الاجتماعية لأن المناهج الدراسية موجهة ومنحازة للغاية، وقد وجدت لبيب فرصة لبحث تساؤلات مثل هل توجد موضوعية تاريخية؟ وهل توجد معلومات مؤكدة أم رؤى مختلفة للتاريخ؟

 

تصوير: صبري خالد