نتيجة لعجز الجهات المعنية بالإمداد المائي عن إيصال الماء الصالح للاستخدام لكافة مناطق مدينة طرابلس انتشرت ظاهرة حفر الآبار المنزلية في العاصمة وضواحيها، فأصبح كل مواطن يسعى لحفر بئر داخل بيته وحتى سكان العمارات يجتمعون على حفر بئر مشتركة تغذيهم بالمياه، وتزداد هذه الظاهرة مع دخول فصل الصيف حيث تزيد الحاجة لاستهلاك المياه.

يقول محمد الفرجاني وهو سائق سيارة حاملة لحفارة آبار – تسمى بالعامية “صوندة” – إنه عقب 2011 ازداد الطلب بشكل كبير جداً على حفر الآبار المنزلية “بالكاد يمضي يوم واحد لا أتلقى فيه طلباً جديداً  لحفر بئر”، وصحب هذا الارتفاع في الطلب ارتفاع في تكلفة الحفر ليصل إلى خمسة آلاف دينار بعد أن كان في السنوات السابقة لا يتجاوز ألفي دينار ليبي.

مياه ملوثة

يسعى الجميع لحل مشكلة انقطاع المياه لا سيما والتهديدات تتكرر من قبائل الجنوب بقطع المياه عن الساحل وخاصة العاصمة لتحقيق أهداف سياسية أو لكسب الصراعات، ولكن هل المياه التي يتم استخراجها من هذه الآبار العشوائية صالحة تماماً للاستخدام؟

حسب سليمان الباروني وهو مستشار فني بالهيئة العامة للمياه، فإن تحاليل بعض عينات المياه المجمعة من الآبار المنزلية المحفورة بمناطق متفرقة من مدينة طرابلس أثبتت وجود جراثيم قولونية “تتجاوز بكثير الحد المسموح به في مياه الشرب وهو (3 جرثومة لكل 100 ملليلتر ماء) محدد بالمواصفات القياسية لمياه الشرب المحلية والدولية”، وهذه الجراثيم حسب كلامه تسبب أمراضاً  كثيرة مثل التهابات المعدة والأمعاء والحمى التيفودية والكوليرا وأمراض جلدية وغيرها.

بالإضافة إلى ذلك يشير الباروني إلى أن حفر الآبار دون الحصول على التراخيص من الجهات المختصة يعتبر انتهاكا للتشريعات والقوانين المنظمة لاستغلال وحماية مصادر المياه، كما أن حفرها وتجهيزها دون إشراف الجهات المختصة “يتسبب في حدوث تلوث إما مباشرةً من السطح أو عن طريق فتح الطبقات المائية المحتوية على مياه غير صالحة للاستعمال مع الطبقات المحتوية على مياه صالحة، كما أنه يساهم في هدر واستنزاف المياه الجوفية”.

لا نملك حلاً

يذهب الباروني بعيداً في تحذيره للمواطنين من هذا الفعل حيث يؤكد أن هناك مناطق كاملة مثل عين زارة والفرناج (جنوب طرابلس) ثبت بأن المياه فيها تحتوي على نسب كبيرة من الأمونيا والنترات – أي أنها ملوثة بمياه الصرف الصحي –، ولكنه مع ذلك لا يلوم المواطن الذي “يحاول إيجاد حلول لمشاكل كان الأجدر بالدولة أن تصنفها من أولوياتها، وقد تكون تلك الحلول على حساب صحته وصحة أولاده” يؤكد الباروني.

وزير الموارد المائية ناجي السيد لا يرى في هذه الآبار أية مخاطر على البنية التحتية، فهي حسب وصفه “آبار سطحية لا تصل للمياه الجوفية”، ولكنه لا ينفي احتواءها على “تلوث جرثومي فيروسي إضافة للملوثات الثقيلة من المخلفات الصناعية والغذائية كالزيوت النباتية والرصاص ونواتج عوادم السيارات وغيرها، وذلك لأن عمق هذه الآبار لا يتعدى 15 متراً في حين عمق البئر المثالي يجب أن يتراوح بين 150 – 600 متر، ما يجعل هذه المياه قطعاً غير صالحة للاستهلاك” يؤكد الوزير.

ولكنه في ذات الوقت يقرّ بأنه لا يملك حلاً لهذه المشكلة في الوقت الراهن بسبب “تغليب كفة السلاح وانعدام الميزانية وغلاء الأسعار الذي طال كل شيء، نحن عاجزون حتى عن توفير القرطاسية لمكاتبنا فكيف نحل مشكلة المياه بالعاصمة، لدينا مقترحات وتصورات جاهزة للتنفيذ بمجرد تحسن الأوضاع قليلاً” يقول ناجي.

خلل إداري

ما يعتقده أحمد الكردي رئيس جمعية حماية المستهلك هو أن هذه الآبار تضر بالمياه الجوفية بالتأكيد، وخاصة تلك التي تتواجد في الطبقات السطحية من الأرض، “حيث تجعلها أكثر عرضة للتلوث من مصادر عديدة منها مواقع التخلص من القمامة وتسريب المياه الملوثة من المزارع والمحملة بالمبيدات والأسمدة الكيميائية ومواقع التخلص من المجاري، ونظراً لانها معزولة عن الأكسجين الجوي فإن قدرتها على التنقية الذاتية منخفضة للغاية” يوضح الكردي.

لا يرى الكردي أفقاً لتطور الأوضاع بسبب تضارب اختصاصات الجهات الحكومية المعنية بموضوع المياه وانفصال كل منها عن الأخرى وعدم وجود تنسيق بينها، حيث هناك الهيئة العامة للموارد المائية والشركة العامة للمياه والصرف الصحي وشركة الخدمات المائية وكلها “تعمل بمعزل عن بعضها ناهيك عن غياب القدرات والكفاءات المختصة وضياعها بين هذه الإدارات كافة” حسب الكردي.

الوضع قبل النهر

في الماضي كان يتم تزويد مدينة طرابلس بالمياه الصالحة للشرب والاستخدمات المنزلية من خلال حقول آبار المياه ومحطات الضخ العامة بالإضافة إلى آبار التقاسيم الموزعة على التجمعات السكانية بمناطق متفرقة من مدينة طرابلس، حيث كانت هناك 216 بئراً تزود المدينة في سنة 1977، ثم وصل العدد إلى 344 بئراً في سنة 1995، قال وزير الموارد المائية لـ”مراسلون” أن جلها تم ردمها لوقوعها في أراضٍ كانت مملوكة لمواطنين تم تعويضهم عنها في عهد النظام السابق، “لكنهم رجعوا الآن يطلبون تعويضات أخرى بعد أن استولوا عليها بقوة السلاح، رغم أن ما حصلوا عليه من تعويضات قبل الثورة مضاعفة لحقوقهم الحقيقية”.

غير أن استنزاف المياه الجوفية بمناطق سهل الجفارة أدى إلى تداخلها مع مياه البحر في المناطق الساحلية من المدينة، ونتج عنه أيضاً زيادة ملوحة المياه بحقول آبار المياه وآبار التقاسيم التي كانت تزود طرابلس بالمياه الصالحة للاستخدامات المنزلية، وحسب ناجي فإن ملوحة المياه في السبعينيات كانت تتراوح ما بين 400 إلى 800 مليجرام/لتر، وتجاوزت 3000 مليجرام/لتر ووصلت في بعض المناطق إلى أكثر من 10000 مليجرام/لتر في سنة 1995.

هذا ويقدر الوزير استهلاك الفرد من المياه في طرابلس بحوالي 235 لتر/فرد/يوم في سنة 1977، ثم بدأ هذا المعدل في التناقص التدريجي نتيجة تدهور نوعية المياه حتى وصل إلى 83 لتر/فرد/اليوم في سنة 1994، ونتج عن ذلك عجز في الإمداد المائي أدى إلى انقطاع المياه لفترات طويلة.

النهر الصناعي

تبعها عقب ذلك تدخل مشروع النهر الصناعي والذي يغذي العاصمة بما مقداره 510.000 ألف لتر/اليوم، والذي بدوره لم يسلم من مخاطر عدة جعلت منه هو الآخر عرضة للتوقف، أبرزها تذبذب التيار الكهربائي وكثرة التعدي على المسارات من قبل سكان المناطق التي لا يتم تزويدها بمياه النهر، الأمر الذي يؤدي لأعطال مفاجئة بالمنظومة وتوقف الإمداد المائي، “ناهيك عن تهديدات بعض القبائل من الجنوب الذين يتخذون من هذه المسارات كفة قوية لمساومة الدولة والجهات المسؤولة ببعض مطالبهم”.

الحل الأمثل حسب ناجي والذي يتطلب ظروفاً ملائمة لتطبيقه يكمن في إعادة بناء واستكمال وصيانة شبكات توزيع المياه، وتوفير المضخات ومحطات الضخ والخزانات اللازمة لذلك، والاتجاه لتحلية مياه البحر وذلك بتنفيذ المحطة المقترحة لتزويد مدينة طرابلس بمياه الشرب والتي تصل قدرتها الإنتاجية إلى 500.000  متر مكعب/اليوم، وكذلك إعداد المخططات والخطوات الاستثنائية والبدائل اللازمة لمواجهة الأزمات الناتجة عن نقص الإمداد المائي.

كذلك حل المشاكل الناجمة عن الأعطال المفاجئة بمحطات الضخ وانقطاع الكهرباء خاصة فيما يتعلق بمياه النهر الصناعي، وإنشاء حقول من آبار المياه يتم اختيار مواقعها من قبل الجهات المختصة كبديل، أو دعم الإمداد المائي من مشروع النهر الصناعي، إضافة إلى حماية الموارد المائية من التلوث الناتج عن مياه الصرف الصحي غير المعالجة والاهتمام بمكبات القمامة وصرف مخلفات المصانع ومحطات الوقود.