“يعني يوم الحادي عشر من شهر رمضان الكريم الكثير بالنسبة الصحفي المتقاعد منصور سعيد لأنه يوافق دور قبيلته في الإشراف على تقليد رمضاني عريق، تنفرد به مدينة زوارا (110 كلم غرب طرابلس).

يوم فرح

يُعرف هذا التقليد عند السكان المحليين باسم “ادّولت”، وهو عبارة عن وجبة البازين الليبية التقليدية يطبخ معها نوع خاص من القرع (تاقرومت) الذي تشتهر به مدينة زوارا الحدودية مع دولة تونس، ويصاحبها عادة “القديد” وهو لحم مجفف ومملح أو القرقوش “ايكر كوشن” وهو أيضا عبارة عن قديد مجفف ومقطع إلى قطع صغيرة مقلية في الزيت والشحوم الحيوانية، وفي بعض الأحيان تُعد باللحم الطازج وذلك حسب المقدرة والظروف المادية، حيث تُعد هذه الوجبات في صحون من الخشب “تزودا امقشقوش” أو في صحون من الخزف “تيمعجنت” وتوضع في المسجد الكبير، باعتباره المسجد الوحيد في المدينة قبل أن يصبح لكل قبيلة مسجدها الخاص بها.

يقول سعيد إن يوم إعداد “أدولت” هو يوم فرح بالنسبة لهم، حيث يجتمع المصلون و الغرباء وعابرو السبيل حول هذه الموائد في أجواء رمضانية جميلة، وحتى وقت قريب من الآن كان يجتمع معهم المعتمرون القادمون من تونس والجزائر والمغرب القاصدين بيت الله الحرام برا.

هذا التقليد حسب سعيد لا يتوقف طيلة الشهر الكريم في مسجد “ايند قزول” الذي كان يجاور بيتهم في مركز المدينة، ويجد شبهاً كبيراً بينه وبين الخيام الرمضانية وموائد الرحمن المنتشرة اليوم، “ولا أستبعد أن تكون فكرة موائد الرحمن مستمدة منه” حسب قوله.

أصل التسمية

لا يوجد مصدر مكتوب يشير إلى سبب تسمية هذا التقليد، ولكن حسب الروايات الشفوية لكبار السن والمهتمين بالثقافة الأمازيغية فإن هناك احتمالين يمكن من خلالهما معرفة سبب هذه التسمية، الأول هو أن ادّولت كلمة أمازيغية تشير إلى رمزية الزعامة للقبيلة التي تستلم الدور، وتتحمل مسؤوليته خلال الأيام المخصصة لها، أو أنه تحريف لكلمة الدالة بمعنى الدور “ادالت” وهي من المفردات الأمازيغية التي أصبحت من ضمن الدارجة الليبية، لأنه لا وجود في اللغة العربية لكلمة الدالة بمعنى “الدور”، والكلمتان “ادّولت والدّالت” مشتقتان من الجذر “اذّول” الذي يعني “الرجوع” في اللغة العربية، وتبقى هذه الاستنتاجات مجرد اجتهاد في غياب المراجع المكتوبة.

أما الدكتور اسماعيل ميلود أستاذ اللغة العربية بجامعة طرابلس والكاتب بصحيفة طرابلس فيرى أن المعنى الدﻻلي لكلمة “أدولت” في اﻷمازيغية ﻻ يعني الزعامة بقدر ما تعني التداول أي التناوب والتمرير، واستمدت معناها من قدسية وفضيلة شهر رمضان في التسارع إلى المكرمات وفعل الخير والتواد والتراحم بين الناس، ويتابع “كانت القبائل في زوارا تتسارع إلى الفضائل في هذا الشهر، فتداولوا طيلة أيامه أي تقاسموا فضائله بينهم في حب الخير وتخفيف آﻻم ومعاناة الغرباء وعابري السبيل”.

الغرض هو “الضيافة”

يختلف نجمي بن شعبان المهتم بتدوين تاريخ زوارا مع ما يُتداول من روايات حول أسباب وأهداف هذا التقليد، فهو يعتقد أنه يوم احتفالي تحييه كل قبيلة بمناسبة ذكرى استقرارها في المنطقة، كانت تطعم فيه بقية القبائل الأخرى وحسب اعتقاده هو ليس يوماً مخصصاً لإطعام الفقراء أوعابري السبيل.

أما يوسف حلمي المهتم بتدوين عادات وتقاليد المدينة فيعتقد أن الغرض من هذا التقليد هو ضيافة قوافل الحجاج القادمين من تونس والمغرب والجزائر المسافرين برا في ذلك الوقت على ظهور الإبل، والتي تستغرق مدة سفرهم شهوراً، ما يجعل زوارا الحدودية مع تونس إحدى أهم محطاتهم للراحة، ويتزامن وصولهم مع أواخر شهر شعبان وتستمر في الراحة والعبور طيلة شهر رمضان، فتأخذ كل قبيلة دورها في الضيافة في نفس اليوم الذي يصادف ذكرى استقرارها في المنطقة.

بينما يرى الدكتور شوقي إبراهيم أستاذ التاريخ القديم وعميد كلية الآداب بزوارا أن بداية هذا التقليد كان لإطعام المعتكفين فى المساجد والمتعبدين فى رمضان وعابري السبيل، وقد انبثق عن نظام “العزابة”، والعزابة يردف “إبراهيم” هم هيئة تتكون من رجال العلم وحملة القرآن الكريم المشهود لهم بالورع والصدق، يعملون وفقاً لضوابط معينة للإشراف الكامل على شؤون المجتمع الإباضي الدينية والاجتماعية والسياسية وخصوصاً في حالة غياب الدولة، ويمثلها الإمام ومقرها المسجد، وكان هذا النظام سائداً إلى وقت قريب في جزيرة “جربة” التونسية وزوارا وجبل نفوسة بليبيا، وما يزال له وجود في قرى ومدن وادي ميزاب بالجزائر بحسب إبراهيم.

مراحل “أدولت”

اتفق كل من شعبان وحلمي والدكتور شوقي أن هذا التقليد قد مر بعدة مراحل قبل أن يتحور بعد توقف قوافل الحجاج الذين أصبحوا يسافرون جواً إلى استضافة عابري السبيل والغرباء وبعض المصلين من أهل المدينة، فقد اقتصر إعداده على مستوى عائلي في رمزية لعادة لها جذور تاريخية اختصت بها المدينة، وعُرفت بها قديماً عند عابري السبيل والقاصدين لبيت الله الحرام.

أما ما تبقى اليوم من هذا التقليد الذي بدأ يتلاشى ككل العادات الرمضانية القديمة هو حرص سكان مدينة زوارا على إعداد وجبة البازين بـ”القرعة” في يوم محدد من أيام الشهر الكريم، حتى لا تندثر عند الأجيال المتلاحقة، ويشكل هذا الحرص رمزية يتذكرون بها ماضياً عريقاً يشدهم إلى عادات وتقاليد تمارس في حياتهم اليومية، دون “كيف ولماذا ومتى” وما المغزى من وراء ممارستها، وما أكثر هذه العادات والتقاليد في مجتمعات الشعوب الأصلية.