يأسر جمال البحيرة الواقعة تحت جسر واد الذّيب العملاق أعين النّاظرين، إذ يخترق هذا المعلم الهندسيّ جبلين شامخين مشكّلا لوحة فنية رائعة. إنّه المجمّع المائي الضّخم لبني هارون بامتداد ضفافه على مدى 35 كلم و حوافه الّتي زادت اخضرارا بتمييهه بدءا من العام 2003. و ما الازدحام الّذي يحدثه مستعملو الطّريق من أجل أخذ صور تذكارية على الجسر ذو 700 متر أو ببساطة من أجل الاستمتاع بالمنظر الخلّاب لبحيرة تخزين السّدّ الواقعة  على مجرى ثلاثة وديان ( الوادي الكبير ، وادي الرمال و واد النجاء) و على طول جبال الأطلسي، إلا أحد مظاهر الجلبة الّتي أحدثها هذا الانجاز. فهدوء المنطقة بعيدا عن الطّريق و الجسر العابر للسّدّ، يجذب عديد هواة التّخييم بالجبال والباحثين عن السّكينة. كما نشأ بدخول السّدّ حيّز الخدمة ناد للرّياضات المائية. ممّا ضاعف عدد زوّار بني هارون الّتي كان قبل ذلك حمّامها الطّبيعي و شوائها اللّذيذ مقصدا لسكّان الشّرق الجزائريّ.

في الواقع، شيّد سدّ بني هارون بولاية ميلة، الّذي يقعّ على بعد 400 كلم شرق الجزائر العاصمة و الّذي يعتبر أكبر المنشآت المائيّة بالجزائر، على مدار أكثر من ثلاثين سنة. إذ توقفت الأشغال به عدّة مرّات.

سنوات الإنجاز

راودت فكرة إنجاز هذا المجمّع المسؤولين في الدّولة الجزائريّة سنوات قليلة فقط من استعادة الاستقلال. و بدأت الدّراسات المتعلّقة به في عام 1969 مع إطلاق شركة سوناطراك لدراسة عامّة للموارد المائيّة السّطحية اُنتدب من أجلها المكتب الأمريكي للاستشارات “بيت هيدروتكنيك كوربوريشن”. في عام 1976، تقرّر إنجاز الدّراسات الأوّلية لمشروع سدّ بني هارون وفاز بالصّفقة مكتب دراسات أمريكي آخر، “هرزه” الّذي كلّف في 1983 بالقيام بالدّراسات التّفصيلية والّتي دامت حتّى سنة 1986. تزامنا مع ذلك، وبالتّحديد في 1985، أُطلقت مناقصة دوليّة لتأهيل شركات الإنجاز شاركت فيها اثنتان وخمسون شركة اختيرت منها اثنتان وعشرون. و مع انتهاء الدّراسات، كلّفت الشّركة البريطانية “بلفور بيتي” بالإنجاز قبل أن يتمّ فسخ عقدها بعد عام واحد (في 1987) من طرف لجنة التّوازنات الكبرى برئاسة الوزير الأوّل في ذلك الوقت، عبد الحميد براهيمي، والتّعاقد في 1988 مع الشّركة الصّينيّة “CWE”. لكنّ لم تعمّر هذه العلاقة التّعاقديّة كذلك و تمّ إنهائها بالتّراضي عام 1992 بسبب عدم تقدّم الأشغال واللّجوء إلى الشّركة الإسبانية “دراقادوس” الّتي أنهت الإنجاز بعد بداية صعبة تخلّلها فسخ العقد في شهر ماي 1996 إذ لم تسمح الظروف الأمنية للبلد آنذاك بالانطلاق في الأشغال أصلا والّتي انطلقت فعليا في أكتوبر من نفس السّنة (1996) بعد اتّفاق بين الطّرفين. وفي نفس السّنة، كلّف مكتب الدّراسات البلجيكيّ “بيت تراكتبل” بالدّراسات المتعلّقة بتحويل مياه السّدّ. انتهت به الأشغال في 2002، تاريخ البدء في وضع القنوات و المضخّات من أجل تحويل مياهه الّتي أُوصلت في الوهلة الأولى إلى قسنطينة و ميلة، الولايتان اللتّان يشرب منها سكّانهما منذ 2007. كما انتهت مؤخّرا أشغال التّحويل باتّجاه باتنة، تجري الأشغال على قدم و ساق باتّجاه خنشلة وأمّ البواقي و جيجل.

بلغت تكلفة إنجاز هذا السدّ 3 مليار دولار، إذ استلزم تشييده 1.8 مليون متر مكعّب من الخرسانة، فعرض قاعدة حائطه -الممتدّ على مسافة 710 مترا- 93 متر وعرض قمته 8 أمتار وارتفاعه 120 متر. ومساحة بحيرة تخزينه حوالي 37 كلم مربّع فيما تبلغ طاقة استيعابه المليار متر مكعب من المياه (وصل إلى 980 مليون مثر مكعّب في جانفي 2017)، و هو ما يمثّل خمس ما هو مخزّن في باقي السّدود المنتشرة عبر البلد. وقد حدث جدل  حول نوعية الإنجاز لدى تسلّم هذا السّدّ من طرف السّلطات العموميّة في 2007 بسبب بعض التّسرّبات الّتي وقعت في البداية. من لا يتذكّر تأنيب رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة لوزير الموارد المائيّة آنذاك عبد المالك سلال بمناسبة تدشين السّدّ؟ فقد نقل التّلفزيون العموميّ في نشرته الرّئيسية غضب الرئيس بقوله لسلال :”لا يحقّ لأحد اللّعب بثلاث مليارات دولار” في صورة أصبحت محلّ حديث العامّ و الخاصّ. لكن بدا هذا التّوبيخ مبالغا فيه بعض الشّيء مقارنة بالشّروحات الّتي قدّمها المهندسون القائمون على تسيير السّدّ. فقد أوردت صحيفة “لو سوار دالجيري” النّاطقة بالفرنسيّة في ربورتاج خصّصته لهذه المنشأة و هذا على لسان إطار بالوكالة الوطنية للسّدود و التّحويلات أنّ تلك التّسرّبات المشار إليها ناتجة عن “مشاكل ضغطية عادية” تمّ التّحكم فيها، و أنّ مثل هاته المنشآت “لا تصبح عملية مائة في المائة إلّا بعد سنتين على الأقلّ من دخولها الخدمة“.

الأكيد اليوم أنّ السّدّ يعمل بطريقة عادية و قد أحدث تحوّلات عميقة بالمنطقة على عديد الأصعدة.

مكونات السد

الملفت للانتباه أن مياه سدّ بني هارون لا توزّع من الجهة السّفلى، وإنما من النّاحية العليا، إذ أشرفت الشّركة الفرنسيّة “ألستوم” على وضع مضخّة عملاقة هندست خصّيصا كنموذج وحيد من أجل هذه المنشأة بكلفة قدرها 110 مليون أورو. و يمكن لهذه المضخّة الّتي تشتغل بمحرّكين قوّة دفعهما 136000  حصان للواحد، أن تضخّ حوالي 23 مترا مكعّب في الثّانية. تتواجد هذه المضخّة داخل بئر عمقها 80 مترو سمك حيطانها 2.5 متر وتغذّيها بالكهرباء محطّة توليد طاقتها 220000 فولط أي ما يعادل حاجيات ثلاث مدن بحجم مدينة ميلة-مقر الولاية الّتي يتواجد بها السّدّ- من الطّاقة الكهربائيّة. يزن صمّامها 46 طنّ وهي مجهزّة بمحوّل كهربائي مزيل للضّغط يخفّفه إلى 13800 فولط من أجل المحرّكات كما يدعم محطّة الطّاقة مولّد كهربائي قدرته 6600 فولط يضمن حماية نظام المضخّة في حالة انقطاع الكهرباء. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ كلّ مكوّنات السّدّ (الحائط ، الجسر و المضخّة ) تخضع لرقابة آلية يومية عن طريق أجهزة إلكترونية تتكفّل بها فرقة تقنيّة مختصّة من المهندسين  و التّقنيين تقوم بتحيين و أرشفة كلّ المعلومات. لكنّ أهمّ خاصية للمضخّة الّتي وضعتها شركة “ألستوم” تكمن في نظام “تزييت” أجزائها (الدّعامة، المحور، الصمّام…) الّذي يعمل بالماء ممّا  ينقص من خطر التّلوث بالزّيت و الشّحوم. ركّبت أجزاء المضخّة في عين المكان و يسهر على تشغيلها مهندسو شركة “ألستوم” بموجب عقد مدّته عشر سنوات من بين بنوده تكوين مهندسين جزائريين من أجل إدارة المضخّة وهو يشرف على نهايته.

ويتكوّن هذا المجمّع المائي من محطّات تصفية على طول المجاري الّتي تغذّيه كمحطّة حامة بوزيان الّتي تنقّي مياه الصَّرف الصرف الصحي لمدن قسنطينة، الخروب، المدينة الجديدة علي منجلي، حامة بوزيان، زيغود يوسف و80 في المائة من مياه الصرف الصحي لمدينة ديدوش مراد والتي تصبّ في وادي الرّمال أحد أهمّ المجاري الّتي تغذّي السّدّ. و كذلك من محطّات لمعالجة المياه المخزّنة فيه قبل توزيعها كمحطّة سيدي خليفة بولاية ميلة الّتي تسيّرها “الجزائرية للمياه” بالتّعاون مع المجمّع الفرنسيّ التّركي  Enka-Degremont.

الوجه الجديد للمنطقة

يموّن سدّ بني هارون اليوم ولاية قسنطينة بجميع بلدياتها، نصف بلديات ولاية ميلة، وبعض بلديات ولاية باتنة بالماء ، كما تجري الأشغال لتمديد قنواته إلى غاية ولايتي  أم البواقي و خنشلة و بعض بلديات ولاية جيجل، فالهدف المنشود هو تغطية حاجيات 6 ملايين نسمة للولايات المذكورة بالماء الشّروب في آفاق سنة، 2020 موازاة مع سقي ما يقارب 40 ألف هكتار من الأراضي الفلاحيّة. و الملاحظ أنّ مساحة الأراضي الزراعية المسقية زادت بولايتي ميلة و باتنة كما سمح توفّر المياه بزراعة بعض المحاصيل أكثر من مرّة في السّنة. و أعطى هذا المجمّع المائي المنطقة بعدا سياحيا وترفيهيا إضافة إلى تزويد السّاكنة والفلّاحين بالماء. إذ بنيت قاعدة للرّياضات المائية على ضفاف السّدّ هيئت لاستقبال الزّوارق الشّراعيّة. كما تقرّر تخصيص أرضية محاذية للسّدّ من أجل إنجاز مخيّم إيواء يتّسع ل300 سرير و أخرى في الضفّة المطلّة على منطقة “الشيغارة” من أجل إنجاز حظيرة للتّسلية الموسومة ب “الشيغارة لاند”. و دأبت إدارة السّدّ على تنظيم فعاليات اليوم العالمي للماء كلّ سنة مؤسّسة بذلك ما يعرف اليوم بمهرجان الماء الّذي تبرمج فيه نشاطات كثيرة كتظاهرة الصّيد التّرفيهي و الرّياضيّ يشارك فيها مئات الصّيادين من مختلف ربوع البلد وبطولة القوارب الشّراعية و استعراض رياضة التّجديف. كما تشرف الحماية المدنية على خرجات بالقوارب لفائدة السّوّاح وقد سبق و احتضنت المنطقة، في سنة 2014، نزهة دولية للمشي شارك فيها ممثّلون عن اثنتين و عشرين دولة من أجل تشجيع السّياحة الجبليّة في محيط السّدّ الذي أصبح متنفّسا لسكّان المنطقة بامتياز و كذلك  محجّا  لعرسانها الّذين يقصدونه أسبوعيا بمواكب سياراتهم لالتقاط صور للذّكرى في ظاهرة اجتماعية جديدة و موقفا لمستعملي الطريق المؤدّي إلى جيجل، خاصّة في فصل الصّيف  إذ يتضاعف زوّار هذه المنطقة السّاحلية الّتي تستقطب المصطافين بالملايين.