جنوب ليبيا المعروف بفزان لصيق منذ الأزل بفكرة الكيان الليبي. إنه في الأصل مصدر الحضارة الليبية القديمة المعروفة بالحضارة الجرمنتية الكبرى أو مملكة غارامانتس التي اعتبرها البروفيسور ديفيد جي ماتنجلي أستاذ الآثار بجامعة ليستر البريطانية تشكل أول حضارة متقدمة جداً ومزدهرة في ليبيا ومستقلة عن الحضارات السائدة في منطقة حوض البحر المتوسط وأول دولة كبرى في الصحراء الوسطى وقد امتد تأثيرها الحضاري في أنحاء الصحراء الكبرى. وفيها ابتكر الجرمنتيون رموز الكتابة الليبية قبل 2000 سنة وأول من صنع العربات التي تجرها الخيول.

لقد تمكنت بعثة العلماء البريطانيين بقيادة البروفيسور ديفيد جي ماتنجلي وبمساعدة الأقمار الاصطناعية من تحديد أكثر من 100 موقع أثري يمثل قلاعاً وحصوناً وقرى ومدناً بأسوار عالية لمملكة مدفونة تحت الرمال، ولم تتمكن البعثة من العودة لاستكمال استكشافاتها بسبب الاحتراب الأهلي الذي اجتاح البلاد.

لقد عرفت تلك الحضارة كما يقول البروفيسور ماتنجلي بناء القنوات لجر المياه الجوفية من خلال نظام الفجّارات foggaras بواسطة عشرات ألوف العمال الذين صنعوا شبكة ري تنقل المياه المضغوطة تحت الرمال لتصب في خزانات فوق سطح الأرض حيث استخدمت المياه في زراعة القمح والشعير والزيتون والعنب والقطن والكروم والتبغ والذرة.

وقد اعتبر ماتنجلي تقنية الشبكة المائية التي أنجزها الجرمنت نهراً صناعياً كما هو النهر الصناعي الموجود الآن بتقنية العصر الحديث. ويقال أن القذافي الذي اعتبر نفسه مبتكر فكرة “النهر الصناعي العظيم” انزعج جداً عندما علم المقارنة بين نهره ونهر الجرمنت التي أوردها البروفيسور ماتنجلي في محاضرته بمدينة طرابلس.

ورغم وجود مملكة غارامانتس في قلب الصحراء إلا أنها كانت مركزاً مزدهراً للتبادل التجاري والثقافي بين حضارات شمال ليبيا (الفينيقيين، الإغريق، الرومان) وأفريقيا.

وقد تم اكتشاف كتابات هيروغليفية على صخرة ضخمة ورسوم لأشكال فرعونية في دواخل الصحراء الليبية على بعد 700 كيلومتر عن وادي النيل كدليل للتواصل مع الحضارة الفرعونية غالباً عن طريق السودان. وفي منطقة جبال أكاكوس تم اكتشاف أقدم مومياء في العالم يُقدر عمرها بأكثر من 5500 عام أي قبل أن يعرف الفراعنة المصريون التحنيط بألف وخمسمائة عام. وهي موجودة في متحف السراي الحمراء بطرابلس وتُعرف باسم “وانموهيجاج”.

ولا تزال الرسومات الملونة المذهلة على الصخور البركانية شاهدة كسجل تاريخي ـ ثقافي، يصور طرائق حياة أصحاب تلك الحضارة القديمة وتفكيرهم. آلاف الرسومات تعود إلى ما قبل اثني عشر ألف سنة على أقل تقدير وتنتشر على صخور سلسلة جبال تاسيلي وكهوفها الواقعة بين الحدود الليبية الجزائرية في منطقة “جبارين” متشكلة من صخور بركانية ورملية متحجرة تعرف باسم “الغابات الحجرية”. تضم حسب وصف العالم هنري لوت الذي درس تلك الرسومات أشكالا بالحجوم الطبيعية وبالألوان لرماة نبال ذوي عضلات وسيقان قوية متوترة وقطط هائلة ومشاهد كثيرة فيها ماشية وعربات حربية وغيرها.

والشاهد أنه ليس معروفاً بشكل علمي كيف اندثرت تلك الحضارة وما في حوزتنا هو تفسير أسطوري ذي مغزى شعري في رواية هيرودوت الذي ذكر أنه حدث في تاسيلي أن جففت الرياح الآتية من الصحراء جميع الآبار فتشاور الناس فيما بينهم ماذا يصنعون. ثم زحفوا كتلة واحدة يشنون الحرب على الرياح الجنوبية لكنهم حينما توغلوا في الصحراء اكتسحتهم رياح السموم ودفنتهم جميعاً في رمالها.

أحفاد أسلاف تلك المملكة المفقودة لا يزالون موجودين في الجنوب الليبي اليوم (فزان)، ولم تنقرض لغتهم القديمة من لسانهم مثل قبائل الطوارق والتبو ويتعايشون مع القبائل العربية القادمة من الشمال.

ولأن فزان إقليم صحراوي قاحل يضم ثمانية منخفضات كبرى وواحات عديدة، ظل نائياً ومهمشاً عن مركز السلطة أو الدولة في الشمال إلا من حيث هو ممر تجاري للقوافل بين الشمال والصحراء الكبرى وممر للثقافات العربية / الإسلامية / الأفريقية.

ونذكر هنا مرزق التي كانت عبر التاريخ نقطة التقاء وترابط بين ثقافة الأمازيغ والعرب في الشمال، وثقافة الطوارق والأفارقة في الجنوب ، ومن هذا التلاقح الحضاري تتشكل اليوم مكونات الهوية الثقافية الوطنية للشعب الليبي.