بين لافتات شوارع وأسماء ميادين، تحتضن المدينة آثار الهزيمة التي مرّ عليها خمسين عامًا.

خلال تتبع حكايات نساها الناس عن هزيمة يونيو/حزيران 1967. لا تزال آثارها حاضرة في القاهرة رغم السنوات الخمسين التي شهدت حربًا بعدها بست سنوات. فكرة الهزيمة لها الحضور الأكبر والأقوى، وربما الأكثر درامية.

يمر الزمن، تعدّل القاهرة من أسماء شوارعها، تلك التي مرّت بها القوات الحربية نحو سيناء قبل خمسين عامًا وبالتحديد في مايو/ أيار 1967. بعد إعلان قائد الجيش عبد الحكيم عامر التعبئة القصوى للقوات جيش صباح 14 مايو.

مرّت العربات والدبابات العسكرية في شوارع العاصمة المصرية وسط زحام السيارات وذروة المرور. سميت العديد من الشوارع بتسميات تحيل إلى الزمن الجديد إشارات لإعادة تشكيل المدينة على يد الحُكام الجدد ضباط يوليو. أسس شارع صلاح سالم، المنسوب لأحد ضباط ثورة الجيش 1952، ليكون مؤديًا إلى المطار وأحدث أحياء القاهرة من وسط العاصمة عابرًا بين سفح هضبة المقطم والقلعة وما يحيط بها من أحياء تاريخية. وشوارع أخرى حمَلت أسماء الضباط، داخل واحد من هذه الشوارع تختبئ حكاية الصاروخ القاهر.

 

أين مقبرة الصاروخ؟

يقع “القاهر” بين جسر كبير وخطَيْن أحدهما للقطار والآخر لمترو الأنفاق في محافطة الجيزة. يجاور الشارع الضيق كوبري الملك فيصل بالجيزة، ويربط بين منطقة بين السرايات وكليات جامعة القاهرة التي تصب سياراتها في شارع السودان، الذي يضيق ليكون شارعًا ملتويًا يحمل اسم واحد من منتجات مشروع مصري قديم لتصنيع الصواريخ.

ينتهي هذا الشارع عند المناطق السكنية المُزدحمة بكثافة حول شارعي فيصل والهرم الرئيسين. لم يعد اسم “الصاروخ القاهر” مُستخدمًا، بعدما صار الاسم الرسمي: الشهيد جمال الدين عفيفي.

لم يعد المارة يتذكرون الاسم القديم للشارع الضيق الذي ينحني انحناءات حادة في أكثر من نقطة ليكون مساره مشابها للثعبان. أوله شارع السودان وآخره ميدان الجيزة وزحامه، يمر هذا الشارع خلف شركة الشرقية للدخان، المُصنِّعة لأغلب أنواع السجائر المحلية والعلامات التجارية الدولية. وعند نهايته، إذا انحرف المارة يمينًا، سيكونون في الطريق نحو نفقٍ يؤدي إلى شارع الهرم، الذي تستقر به الأهرامات الثلاثة، على بعد 11 كيلومترًا.

على لافتة معدنية زرقاء دُفنت حكاية قديمة تعود لأكثر من 60 عامًا، ربما يكون المارة بالشارع وأسفل لافتته قد نسوها. لم يعد أحد يتذكر دلالة هذا الاسم الصاروخي.

يعود أصل التسمية إلى صاروخَين صُنَعا في مصر وتنامت الدعاية الحكومية بشأنهما. بدأ المشروع قبل الهزيمة بعشر سنوات. في العام 1957 أسست مصر لمشروع الصواريخ بالتعاون بين الجيش وكلية الهندسة وعدد من العلماء الألمان من ضمنهم فولجانج بيلز.

وقد بدأ المشروع بانتاج صاروخ القاهر أولًا، ثم تلاه الظافر.

 

عصر الفضاء

في مقطع فيديو يجسد حفل للتجربة الأولى لإطلاق الصواريخ المصرية ظهر جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة وقتها، في نقطة غير مسكونة من صحراء القاهرة.  في الفيديو حضر الحفل أيضًا عبد الحكيم عامر قائد الجيش إلى جانب رئيس أركانه وعدد من قيادات القوات وبعض رجال الحكومة.

ظلل الرئيس بين عينيه ناظرًا إلى السماء مرتين بينما انطلق أول صاروخان عربيان. أحدهما ظافر والآخر قاهر. لم يمسك جمال بمنظارٍ أو نظارة مُعظمِّة، بل كان يتطلع إلى السماء واضعًا نظارته الشمسية وعبر ظل يدييه يتأمّل أربع عمليات انطلاق. كان ذلك الحفل في 22 يوليو 1962.

تحدث المذيع/ مُقدِّم الحفل في الخلفية: “هكذا اجتازت بلادنا في عشر سنوات عصر البخار وعصر الكهرباء لتسير مع العالم من حولها في عصر الفضاء وبعد عشر سنوات بنينا من الجهد والعرق والإصرار صرحًا شامخًا من العزة لشعبنا الذي حطم قيوده وانطلق”.

في اليوم التالي لهذا الحفل نشرت جريدة “الأخبار”، بمناسبة مرور عشر سنوات على ذكرى ثورة يوليو/ تموز، أن الصاروخ – القاهر- قد يُصيب تل أبيب، و يمثلا تهديدًا لإسرائيل، ويصل مداه إلى 200 كيلومترًا.

كانت فقرة الصواريخ ثابتة في كل العروض العسكرية قبل الهزيمة، لكن بعد خمس سنوات لم تنطلق في  السماء الصواريخ المصرية ردًا على الضربة الجوية الإسرائيليلة لمطارات القوات الجوية صباح 5 يونيو/ حزيران 1967.

يكشف سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان الجيش السابق، في مذكراته “حرب أكتوبر” ( أول طبعة مصرية للكتاب كانت بعد وفاة المؤلف، 2011 ) عن حكايته مع الصاروخين، وقد كَتَبَ: ” كانت عدة صواريخ منها (القاهر والظافر) ترقد راكدة في المخازن. لقد كانت عيوبها كثيرة وفؤائدهما قليلة. ولكني قررت أن استفيد منهما بقدر ما تسمح به خصائصهما”. كما أكد أن مدى الصاروخ الظافر، لم يكن يتجاوز ثمانية كيلومترات فقط، وليس 200 كيلومترًا حسبما روجت الدعاية قبل الهزيمة.

كانت مشكلة الصاروخين تكمن في صعوبة التوجيه نحو الهدف بدقة بسبب ضخامة حجم الأول، والذي كان وزنه 20 طنًا بينما يقل حجم الظافر إلى 4 أطنان، لكن كان يعتمد على توجيه ميكانيكي، هو الآخر، فلا يمكن توجيهه بعد الانطلاق، مما يولد احتمالية كبيرة لحدوث أخطاء. قبل رئاسة الشاذلي لأركان الجيش المصري دخل الصاروخان بمحاولة لدمجهما في نظام صاروخي واحد حمل اسم الرائد، لم ينل شهرة مكونَيه الأساسيين.

 

التين والزيتون

وصف الشاذلي، في مذكراته، الظافر بـ “الأخ الأصغر للقاهر”.  كان أصغر حجمًا وأقصر مدى. وقد قامت الكلية الفنية العسكرية بتطويره بحيث يمكن إطلاق 4 قذائف دفعة واحدة، ويضيف موضحًا: “لقد كان أكثر دقة من القاهر، ولكنه مع ذلك لا يمكن اعتباره بين الأسلحة الدقيقة”.

غيّر الشاذلي اسمي الصاروخَيْن ليكون الظافر: “الزيتون”، أما القاهر فصار: “التين”. كانت نتائج “الظافر/ الزيتون” في العمليات الحربية خلال حرب 1973 أفضل من أخيه القاهر/التين، حسبما جاء بالمذكرات.

رغم أن الصاروخان كانا تأثيرهما ضعيفًا، بخلاف أثرهما الدعائي، وقوتهما غير مجدية إلا أن ذلك لم يمنع دخولهما في مستوى جديد من الإيحاءات البلاغية. بدلًا من حلم دخول عصر الفضاء صارا يحملان استعارة التسمية القرآنية لشبه جزيرة سيناء. ومثلما غيّر الشاذلي الاسم تم تغيير اسم الشارع ليكون جمال الدين عفيفي. لكن حكايات الهزيمة، التي مرّ عليها 50 عامًا لازالت حاضرة في أماكن أخرى.