بعد أكثر من خمسين عامًا لا يزال أثر الهزيمة حاضرًا. ليس الأثر الخاص بهزيمة عسكرية، بل يتجسد بأشكال أخرى.

يتشكل في مزيج يجمع بين الحزن واليأس والنميمة السياسية وجلد الذات والسخرية. كأن المصري لا يستعيد هزيمة حربية، مرّ خمسون عامًا عليها، بقدر ما يعيشها.

تشكلت، خلال خمسة عقود، أفكارًا ومشاعر وحكايات صنعت ثقافة وثِقل لا يزالا مؤثرين على أجيال من المصريين. ربما يكون الأثر المباشر والأكبر متجسدًا في الجيل الذي عايش وقائع وملابسات يونيو/ حزيران، لكن هذه الثقافة تتجاوز، في تأثيرها، مَن جاؤوا بعد هذا الجيل بجيلين.

حتى الآن يبدو من الصعب الوصول إلى رواية متماسكة ومنطقية بشأن احتلال إسرائيل لشبه جزيرة سيناء المصرية، التي حُررت بعد حربٍ ومسارٍ تفاوضي، وأجزاء من الجولان السوري المحتل حتى الآن.

لا تتوافر لدينا وثائق تمكنّا من تحليل الوقائع التي جرت قبل خمسين عامًا من الجانب المصري والسوري على حد سواء. بينما قدم الأدب، والفن كذلك، محاولات عديدة لفهم الهزيمة، وأخرى لتجاوزها. فقد جسدا، معًا، آثارًا أبعد وأكثر عمقًا بشأن ستة أيام دموية في صيف 1967.

 

انحياز للرمزية والفوضى

ساهم الأدب في انتاج السردية الأكبر في هذه الصدد، فقد عكَفَ كُتّابه على شحن نصوصهم برموز عن أجواء الهزيمة، وتبعاتها. كل إخفاق في حياة بطل، داخل نص أدبي، يمكن تفسيره كإشارة إلى فشل مصر في 1967. تنامت الإحالات داخل الأعمال ليكون الشعور العام هو الهزيمة أو أن الأخيرة كانت سببًا في حدوث هذا الحدث الدرامي/ الفني.. هكذا شَكَلَ الكلام عن رمزية 5 يونيو/حزيران 1967 مجازًا قويًا لتصبح ثقافتنا موصومة بفكرة الهزيمة.

من جانبه يؤكد الروائي محمود الورداني أن “يونيو” كانت زلزالًا كبيرًا هزّ البلاد. في حين ركزت الدولة على تفسير الهزيمة من خلال حكايات هامشية عن فشل عبد الحكيم عامر والأسباب المؤدية للهزيمة.

لكن هذا الزلزال لم تظهر آثاره وقتها، بل بعدها بسنوات. ويقول: “أخذت زمنًا طويلًا حتى تتجسد توابع هذا الزلزال الكبير، وكان أول بشائره صدور مجلة جاليرى 68. تغيّرت البلاد. تحرر الكُتّاب من سطوة الحكومة على النشر والنشاط الثقافي”.

قبل الهزيمة كانت كافة الأنشطة السياسية والثقافية تحت تحكم الدولة الكامل، لدرجة جعلت من خروج تجارب مثل جاليري 68 معجزة أو جنونًا، حسب تعبير الورداني.

خفت القبضة الأمنية والرقابة كذلك على الأنشطة السياسية والثقافية. نُظمتْ مظاهرات، دون توجيه حكومي لأول مرة منذ ثورة ضباط الجيش. كان هناك “رد فوضوي” يتشكل بعيدًا عن الحكومة، وكأنه استيعاب متأخر للهزيمة، ويوضح الورداني:”شرح وكشف أسباب ما جرى تمّ عبر الجنون والنزق والغضب والحلم والثورة، هكذا صنع جيلنا رده”.

 

تجميد الزمن

من جانبه يعتبر الروائي أحمد الفخراني (1981) أن حالة التوقف عند هزيمة يونيو 1967 كان لها ما يبررها، حيث يقول لـ (مراسلون): “أرى المجتمع المصري كله هناك. طموح عظيم، وخيبة أمل كبيرة. هل توقفت الهزائم، وهل توقف رفع سقف الطموح من قِبل مستبدين متعاقبين دون أي شيء يغطي الهزائم المتتالية سوى اللغة الخطابية والأغاني الوطنية الهزيلة!؟”.

يرى الفخراني من خلال تأمّله اللحظة المعاصرة وهزيمة 1967 تشابهًا، ويقول: “أتذكر –بغرابة- استدعاء الأغاني الوطنية التي أُنتجت خلال يونيو (1967) وقد كنّا نسمعها في لحظة الانتصار المؤقت في يناير (2011)، هذا الاستدعاء يكشف لماذا أقول أن الزمن تجمد هناك في الماضي”.

لم يعاصر الفخراني – بالتأكيد – الهزيمة، لكنها ” تظل ممتدة”، حسبما يوضح. لن يتوقف هذا الامتداد إلا عندما يتوقف حديث السلطة عن “عظمة لا وجود لها، منبعها أن لا أحد يفكر أن يخاطبنا إلا كمصريين، لا كمواطنين لا يحملون بذور التخلف أو العظمة، بل بذور الإنسانية”، حسب تعبيره.

لا يزال أثر يونيو أكبر من حضورها كهزيمة عسكرية وسياسية، بل شكَلَتَ صورة الوطن وتصورات المواطنين عن أنفسهم ويوضح قائلًا: “لم يرَ أدباء الستينات المصريين أبدًا كمواطنين. بالنسبة لهم المصري لديه هوية واحدة واضحة، كقطعة أثاث يمكن نقلها بخفة من ركن إلى آخر. إذا كنّا نملك جميعًا هوية واحدة، فمن الواجب إذن إنكار أن لنا طموحات مختلفة، رغبات مختلفة، هويات مختلفة. هذا مشترك بين الخطاب القومي وبين السلطة المستبدة، لم يفلح الأدب رغم نقده لتلك السلطة إلا أن يكون صوتها فيما يخص تكريس خطاب الهوية الذي هو ذاته جوهر خطاب الاستبداد”.

يفكر أحمد الفخراني أن صورته عن نفسه تشكلت عبر كتابات وروايات وقصائد وأغان لأجيال لم تنل سوى الهزيمة. ويتساءل كم كاتب تورط في تصوّير الوطن مثل أم، يجب أن نعطي لها دون أن نسأل عن حقوقنا كمواطنين، ثم يضيف: “وطن صلب، قاس، لا يقبل القسمة بين مواطنيه الخارجين عن الصورة، فقط يقولونها ببلاغة أكبر. كم كاتب توّرط في الحديث عن عظمة متخيلة، وانتصار حتمي، يشبه في المخيلة حتمية عودة المسيح والمهدي المنتظر”.

كما يشير إلى مسرحيات استمر تأثيرها لأكثر من عقدين بعد الهزيمة. تقدم مسرحية “مدرسة المشاغبين” (العرض الأول كان عام 1973) ، على سبيل المثال، جيلًا حينما اكتشف أنه خُدَعَ في آبائه قرر التمرد عليهم عبر الفشل، ويوضح الفخراني: ” مدرسة المشاغبين و”العيال كبرت”، وغيرها من عروض المسرح التجاري، قدمت تهريج وتسلية. كانا الوسيلة الوحيدة لجعل السلطة تعرضها على جيلنا عامًا تلو العام، وفي الوقت نفسه   جسدت هذه الأعمال السلطة بوصفها مسخرة كبيرة. أفكر أنهم يستحقون تمامًا تلك الهزيمة، دون أن تكف السلطة، المهزومة، عن إنتاج أشباحها ووحوشها وكُتّابها أيضًا”.

 

سعيد في مجتمع مهزوم

من جانبه يعتبر الشاعر إبراهيم السيد أن المشكلة تكمن في حداثة تجربة الدولة المهزومة في  يونيو67 ، ويقول: “احتكرت دولة ما بعد الاحتلال صناعة مفهوم الشعب أو الجماعة الوطنية. حَدَثَ اختراع لمفردة الشعب، ثم جاءت هزيمة قاصمة”، ويوضح: ” بدلًا من حساب المتسببين تمّ تحميل الهزيمة للشعب، فأصبح عارها مثل عقاب سيزيفي. إذا شعرتَ بسعادة أو حققت إنجازًا ستبقى الهزيمة حاضرة”.

ويتساءل: “كيف يمكن أن يكون كاتبًا مولود في العام 1983 مطالبًا بالإحساس بهزيمة مرّ عليها أكثر من خمسين عامًا؟”.

تتجسد الهزيمة الحقيقية للثقافة المصرية، من وجهة نظر السيد، في كوّن كل فرد منّا قد حرَمَ من التأثير في سياسة بلده، سواء باسم الدين أو اسم الشعب أو اسم المعركة، ويضيف:” كلما تكلمتُ بصيغة المفرد أجدُ مَن يُجبرني أو يطلب منّي التحدث بصيغة الجمع. السؤال الأدق: كيف ننجو من الجماعة؟ أخترتُ أن أكون كاتبًا تجريبيًا في ثقافة تقليدية مهزومة. سعيد في مجتمعٍ مهزوم، لكن بعد يناير 2011 أصبحت لدينا نقطة انتصار و بعد انحسار الثورة صارت لدينا نقطة هزيمة معاصرة “.