جلس صلاح علي، حزينا أمام فرش السمك الخاص به فى مدخل سوق السمك بمدينة ادكو الساحلية، التابعة لمحافظة البحيرة، شمال مصر، حيث تطل المدينة على شاطىء البحر المتوسط، وتقع في نطاقها بحيرة ادكو إحدى أكبر البحيرات المصرية، كما تنتشر بها مئات المزارع السمكية.

راح صلاح يبعد الذباب الذي حاول الاقتراب من أسماكه بـمنشة، منتظراً اقتراب الزبائن، الذين اكتفوا بالنظر إلى بضاعته من بعيد، ومن تجرأ واقترب منه يكتفي بالسؤال: كم سعر كيلو البلطي، ليجيبه صلاح 35 جنيه، وهي العبارة التي كانت كفيلة بابعاد زبائنه، الذين كانوا يحصلون على نفس الأسماك قبل أشهر قليلة بـ 15 جنيهاً للكيلو.

من المتسبب في الأزمة..؟

“صلاح” الذي تحسر على الارتفاع المفاجئ في أسعار الأسماك قال: “الناس معذورة، واحنا كمان مالناش ذنب، كنا نشترى كيلو البلطى من التاجر بأسعار تتراوح بين 10 و13 جنيه ونبيعه للزبون بسعر 14 أو 15 جنيه، وقتها كنا نبيع كميات كبيرة،  لكن منذ بداية العام، بدأ التجار الكبار في تصدير الاسماك للخارج، فارتفع سعر كيلو البلطي (سمك الغلابة) بين 28 و30 جنيها للكيلو، لنبيعه نحن للزبون بـ 30 و35 جنيهاً”.

الأسعار كما يقول صلاح ليست ثابتة لكنها تتغير كل يوم حسب “مزاج” التجار الذين رفعوا أسعار الأسماك من 15 إلى 40 جنيه، في أيام كثيرة، بعد تحرير سعر الصرف، ولجوء التجار لتصديره للحصول على الدولارات، بدلاً من بيعه في السوق المحلي، والزبون اللى كان بيشترى سمك 3 مرات فى الأسبوع، اكتفى بتناول الأسماك مرة أو اثنتين في الشهر، والغالبية أصبحت تبحث عن الأسماك المجمدة”.

التجار  ينفون

الاتهامات التي وجهها “صلاح” للتجار لم تلق قبولاً لدى محمد دياب، تاجر وصاحب حلقة أسماك، الذي راح ينفى التهمة عن نفسه وزملائه، قائلاً: “صاحب الحلقة وسيط بين صاحب المزرعة بائع الأسماك، وأنا بيجيلي السمك من صاحب المزرعة وأحطة على الكانطة (فرش لعرض الاسماك بالحلقات) وافتح المزاد وأبيع بأعلى سعر لصالح صاحب المزرعة، وأتقاضى عمولتى من صاحب المزرعة، والحقيقة أن تجار التجزئة هم من يرفعون الأسعار على أنفسهم بسبب قلة المعروض من الأسماك، بعدما لجأ التجار الكبار لسحب الأسماك من المزراع والأسواق لصالح المصدرين، فازدادت أسعار البلطى، وهو الصنف الأكثر تصديرا لتتجاوز 35 جنيهاً”.

الدولة تتدخل لضبط السوق

يبلغ انتاج مصر من الأسماك حوالي مليون و200 ألف طن، من الأسماك، وتعتبر ثاني دولة على مستوى العالم في انتاج أسماك البلطي النيلية، والأولى في انتاج الأسماك البوري بحجم 809 ألف طن، ورغم الانتاج الكثيف للأسماك بسبب توسع الدولة في انشاء “المزارع السمكية” إلا أن أسعار الأسماك شهدت منذ قرار الحكومة بتعويم سعر صرف الجنيه في نوفمبر الماضي ارتفاعاً جنونياً، بعدما لجأ التجار الكبار لتصدير كميات كبيرة من الأسماك للخارج، للحصول على العملة الصعبة.

الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، اعترف بزيادة حجم تصدير الأسماك للخارج، خلال كلمته بمؤتمر الشباب الذي عقد بمحافظة الإسماعيلية، في السادس والعشرين من أبريل الماضي، مؤكداً أن تصدير الأسماك للخارج شهد قفزة كبيرة خلال الشهور الثلاثة الأولى من عام 2017 الجاري، موضحاً أن الكميات المصدرة للخارج قفزت إلى 120 ألف طن، مقارنة بـ40 ألف طن كانت تصدر للخارج قبل هذه الفترة”.

حسب حديث “السيسي” فإن الدولة أوقفت تصدير الأسماك للخارج، للسيطرة على جنون الأسعار الذي قفز بأسعار الأسماك في السوق المحلي لثلاثة أضعاف سعرها قبل التعويم، لكن المهندس طارق قابيل، وزير التجارة والصناعة، أعلن عن فرض رسم صادر على صادرات الأسماك الطازجة والمبردة والمجمدة بواقع 12 ألف جنيه للطن، لمدة 4 أشهر، بهدف الحد من ارتفاع أسعار الأسماك في السوق المحلي.

المقاطعة هل تفيد؟

مع ارتفاع أسعار الأسماك دشن عدد من نشطاء مواقع التواصل حملات لمقاطعة شراء الأسماك، خاصة فى المحافظات الساحلية مثل الاسكندرية والبحيرة وبورسعيد ودمياط، وحملت اسم “خليه يعفن”، ولكن الحملات لم تكن مؤثرة، ولم تنجح في خفض الأسعار بسبب قلة المعروض فى السوق.

فكما يقول محمد عبد الحميد، صاحب مزرعة سمكية “الفترة من ديسمبر إلى مايو من كل عام ينخفض فيها الانتاج السمكى لأن البلطى “يصوم” عن الاكل فى فترة الشتاء، ولذلك نلجأ لصيد معظم المحصول السمكى قبل شهر ديسمبر، قبل انخفاض وزن السمكة.

وتوقع انخفاض الأسعار مع بداية شهر يونيو -بداية انتاج الموسم الجديد- قائلاً: “أحد اسباب ارتفاع الاسعار يرجع للمرض الذى أصاب الأسماك، ولم تعرف هويته حتى الآن، وتسبب فى نفوق كميات كبيرة من الزريعة وخفض المحصول السمكى بنسبة 40%.

وأضاف: “ارتفاع أسعار الأعلاف إلى 8 ألاف جنيه، بسبب استيراد المكونات الرئيسية الداخلة في تصنيعها من الخارج، مثل الردة ومسحوق السمك، كان سبباً رئيسياً في زيادة أسعار الأسماك”.

المصدرون يعترفون برفع الأسعار

المهندس محمد شحاتة، أحد مصدرى الأسماك قال: إن المُصدر قبل فرض الدولة للرسوم التى وصلت إلى 12 جنيها على كيلو البلطى، كان يسلم الكيلو بسعر يتراوح بين 35 و 37 جنيها حيث يمثل البلطى 80% من الأسماك المصدرة إلى دول الخليج، خاصة  السعودية، وقطر، والإمارات، والكويت لأنها السوق الوحيد المستورد للأسماك المصرية، حيث ترفض دول الاتحاد الاوروبى استيراد الأسماك من مصر لوجود نص فى قانون الزراعة ينص على أن المزارع السمكية يتم تغذيتها بمياه الصرف الزراعى، ولا تستخدم مياه الرى وهو ما يخالف قوانين الاتحاد، لكن دول الخليج لا تضع قيوداً على استيراد الأسماك من مصر.

وأضاف: “رغم أن الخليجيين لا يفضلون البلطى، إلا أن العمال المصريين والسودانيين والهنود يستهلكون البلطى بكميات كبيرة، وقبل تحرير سعر الصرف كنا نصدر الكيلو بسعر 9 ريال سعودي، تسليم الدولة المستوردة، وكان معظم التصدير يتم جوا لأن الكميات كانت قليلة، وأسعار الأسماك فى مصر منخفضة وسعر الشحن الجوى يتراوح بين 8 و14 جنيها للكيلو حسب الدولة، ولكن بعد تحرير سعر الصرف بدأ التصدير البرى حيث تنقل الشاحنة المبردة كميات كبيرة تتراوح بين 17 و20 طن سمك وتكلفة الشحن 2 جنيه للكيلو، وهو ما أدى إلى انخفاض أسعار التصدير إلى 7 أو 8 ريال مع دخول مصدرين جدد للسوق، وتسبب في انخفاض أسعار البلطى فى دول الخليج وارتفاعه فى مصر..

وكشف “شحاتة” أن 10 من كبار المصدرين فقط هم من يتحكمون فى سوق تصدير الأسماك للخليج، ورحب بقرار الحكومة بفرض رسوم على صادرات الأسماك، قائلاُ: “الدولة لم تستفد من التصدير لأن العملة الصعبة لا تدخل السوق المصرى بعدما أسس كل مصدر شركة فى الخليج، يقوم بالتصدير باسمها ويتسلم أمواله هناك ويقوم بتغييرها فى السوق السوداء، دون أي عائد على الدولة”.

مليون و640 ألف طن لا تكفي

المهندس محمود سالم، مدير الانتاج والتشغيل بالهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية التابعة لوزارة الزراعة، قال إن انتاج مصر من الأسماك يبلغ مليون و640 الف طن من جميع المصادر -البحر والبحيرات والمزارع السمكية-  لافتاً إلى وجود 320 الف فدان مزارع سمكية فى مصر طبقا لاحصائة عام 2016، ويبلغ متوسط انتاجية الفدان 3 طن، وتحتل مصر المركز الثانى على العالم فى انتاج البلطى بعد الصين.

ونفى “سالم” تأثر الإنتاج السمكى بالأمراض التى يتحدث عنها أصحاب المزارع السمكية، وأشار سالم إلى تواصل الحكومة مع مجلس النواب لتعديل المادة 123 لسنة 1983 من قانون الزراعة التى تنص على استخدام مياه الصرف فقط فى المزارع السمكية، والسماح باستخدام مياه الرى فى الاستزراع السمكى لزيادة الإنتاج وفتح أسواق جديدة للتصدير.

الدكتور حبشى محمد، المتخصص فى تغذية الأسماك، شكك فى الأرقام الحكومية المعلنة عن متوسط انتاجية فدان المزراع، والمقدرة بـ3 طن بلطى، مؤكداً أن منتجى الأسماك أصبحوا أكثر تطورا، لتصبح أقل انتاجية للفدان فى مصر الأن  5 طن للبلطى وترتفع فى بعض المزارع إلى 10 أطنان مع استخدام التكنولوجيا الحديثة.

أسعار نار وجيوب خاوية

بعد ساعات قضاها “صلاح” أمام فرشة السمك، وقف زبون ليسأله عن الأسعار، وما أن أخبره أن عليه دفع 70 جنيهاً نظير 2 كيلو بلطي، حتى اعتلى وجه الرجل العبوس، مكتفياً بعبارة “حسبي الله ونعم الوكيل”، قبل أن يترك السوق، أما صلاح فراح يكمل ندائه على الأسماك “البلطى الطازة.. بلطى البحيرة”، ولكن الجيوب الخاوية للزبائن منعتهم من الاستجابة للنداء.

 

تصوير: صبري خالد