استطاع حطاب ولد علي بوقرة أحد أشهر متساكني باب سويقة الحي الشعبي القديم الذي كان أيقونة أن يعيد إلى حيه رونقه باعتباره يمسك بعد وفاة والده بمقاليد تنظيم الحفلات الشعبية.

لم يكن الأمر سهلا لكن الدعم الذي لقيه حطاب هذه المرة من محافظة تونس جعله يحاول إعادة البريق لحي بعد أكثر من نصف قرن بفضل حفلاته الشهيرة وصناعته لشخصيات فنية.

“الكافيشانطا” (المقهى يغني) استطاعت هذا الموسم أن تشد اهتمام أهالي المنطقة وزوارها، فقد كانت ملجاهم المميز للاستمتاع بالطرب والرقص والفرجة لفنانين بزغت نجومهم.

عودة الحياة

وقد لقيت عودة هذه التظاهرة ترحابا من قبل المتساكنين الذين توافدوا على عروضها خلال شهر رمضان في فضاء مخصص للأفراح في قلب الحي الشعبي المتاخم للعاصمة تونس.

وكما كان سابقا أعلن عن بدء عروض “الكافيشانطا” بمرور فرقة للموسيقى يتوسطها رجل يحمل قلالا فوق رأسه تجوب ساحة الحي، في إشارة يفهمها سكان الحي فيتوجهون للفرجة.

أمام مدخل قاعة الأفراح، التي تتوسط الحي، يجلس حطاب على كرسي حاملا رزمة من التذاكر لبيعها للراغبين بمشاهدة عروض تحييها فرق للفن الشعبي، بينما يهم متساكنون بالدخول.

يقول حطاب لمراسلون إن تظاهرة “الكافيشانطا” كانت قبل عقود بمثابة القلب النابض لهذا الحي الذي عاش متساكنوه وزواره على وقع أنغام الفن والرقص الشعبي لا سيما في رمضان.

يشعر سكان حي باب سويقة بامتنان شديد لحطاب الذي أحيا لهم الوجه القديم للحارة. ويقول فتحي، أحد متساكني الحي، إن عودة “الكافيشانطا جعلت الحياة تدب من جديد في الحي”.

يعقد سكان حي باب سويقة أملا في حطاب، الذي كان بيد والده سلطة إسناد بطاقة فنان في خمسينات القرن الماضي، في استعادة أمجاد حيهم الذي كان قطبا للفن يأتيه الزوار من كل حدب.

ليالي صاخبة

يقول فتحي “في السابق كان من المستحيل أن تجد كرسيا شاغرا إذا لم تحجز مكانك مباشرة بعد الإفطار”، مستذكرا ليالي رمضان التي كان يحلو فيها السهر على أجواء “الكافيشانطا”.

وكانت هذه التظاهرة تعتبر مصدرا لإنتاج الفنانين ولشهرتهم وكان لها الفضل في شهرة الراقصتان “عايشة” و”مامية” في الستينات والفنان الشعبي “محمد الشارني”، والفنان الشعبي الشهير “إسماعيل حطاب”، الذي توفي في حادث سير صحبة الراقصة “مامية” شقيقة “عايشة”.

ويقول حطاب إن “الكافيشانطا” كانت مقصدا لكبار نجوم الفن الشعبي منذ أكثر من خمس عقود مثل الراحل “إسماعيل حطاب” والفنانة الراحلة “فاطمة بوساحة”، والراقصتان الشهيرتان “زينة” و”عزيزة”، اللتان بلغت شهرتهما حد إطلاق اسمهما على الحافلات الصفراء المزدوجة.

كما عرفت “الكافيشانطا” صعود الراقصة التونسية “زهرة الأمبوبة”، نسبة لمصابيح الإنارة الملونة التي كانت تحيط بها جسدها. ويقول حطاب “لقد صنعت الكافيشانطا شهرة عديد الفنانين أمثال الراحلة فاطمة بوساحة والهادي حبوبة وفوزي بن قمرة ورضا الطرابلسي وغيرهم”.

ويتحسر سكان حي باب سويقة على الليالي الماضية الصاخبة. ويحمل بعضهم توقف الحركة الفنية في حيهم إلى عدة أسباب لعل أبرزها تملص الدولة من الاهتمام بهذا التقليد الفني.

في السياق يقول فتحي العشي إن “الدولة أجرمت سابقا في حق باب سويقة حيث دمرت معالمها الثرية، وإهمال فعالياتها الفنية مثل الكافيشانطا التي لا تميّز الحي فقط بل البلاد بأكملها”.

ورغم الانتقادات فإن عودة الأجواء إلى حي باب سويقة بفضل “الكافيشانطا” خلق نوعا من الأمل لدى المتساكنين لاستعادة رونق ليالي رمضان القديمة على وقع الموسيقى والرقص.

وقد تمت برمجة عديد العروض الرقص والغناء لفنانين تونسيين مثل حضرة عبد الله الذوادي والزين الحداد والفنانة علياء بلعيد. كما برمجت عروض لفنانين شبان مثل الفنان وسيم الشابي.

تاريخ لا ينسى
ولم يقتصر حضور فعاليات “الكافيشانطا” على متساكني الحي وزواره من شباب وكهول بل سجل أيضا الكبار حضورهم.

فبالرغم من الكبر الذي انحنى له ظهرها جاءت نزيهة الأندلسي (80 عاما) للاستمتاع بمشاهدة العروض واستحضار الأجواء المميزة لحفلات “الكافيشانطا” لما كانت في ريعان شبابها.

تقول “أتذكر جيدا أجواء قاعة نهج الكبدة وقاعة مدريد، كانت تستضيف الحكواتي عبد العزيز العروي والفنانة صليحة وعلية، أحب الفن أنا أصيلة تستور مدينة المالوف، لذلك تستهويني كل العروض”.

يغلب الفن عل ملامح تاريخ باب سويقة، واحتضنت مكاتب لأهم الشخصيات السياسية التي عرفها تاريخ تونس الحديث مثل مكتب محاماة الرئيس الاسبق بورقيبة ومكتب غريمه السياسي صالح بن يوسف. كما كانت باب سويقة مسرحا ليوم دموي تمثل فيما يعرف بحادثة باب سويقة بداية تسعينات القرن الماضي.

ورغم ذلك لا يستحضر متساكني الحارة سوى لياليها الصاخبة وهم يأملون في استمرار تظاهرة “الكافيشانطا” من أجل استعادة أمجاد حيهم الذي أخفته التقلبات الاجتماعية والسياسية التي عاشتها تونس فترة التسعينات.