الطموح يقود القرار
غالباً، لم يكن عبد الستّار حمزة يملك تصورا كاملاً عمّا سيحدث، لكنه امتلك القدرة على القرار، وبدأ بالفعل في تنفيذ قرارا بترك قرية “أبنود” بمحافظة قنا، لم تستطع زوجته الحسناء، التي أمّمت ثورة يوليو 1952 ممتلكات عائلتها، مثلما فعلت مع العديد من مالكي مئات الأفدنة وقامت بتوزيعها على الفلاحين، ووصل بهم الحال لدرجة تزويجها بهذا الشاب البسيط، تحمّل فقر العيش، وترك زوجها، الشاب الأسمر المتمرد، لعملاً تلو الآخر، فشجعته على قرار الهرب، ليس من ثأر كما هرب العديدين،  انطلقا غير حاملين سوى طفلهما الصغير، لعدم امتلاكهما – حينها – سواه، ذهبا من أقصى أقاصى الصعيد، شمالاً وشرقاً، إلى الأمل الجديد، المدينة المبشرة بالصناعة وفرص العمل والتقدم والقناة، التي تحررت لتوها من قبضة الإنجليز، وأعادها عبد الناصر للدولة المصرية في قرار أربك الحسابات الدولية وقتها.

البداية حرب

في الربع الأخير من خمسينيات القرن الماضي، استقر عبد الستّار حمزة  بمدينة السويس، وبدأ رحلته كأبطال الدراما العصاميين، من لا شيء، إلى كل شيء، طوّر بالجهد والعرق والسهر في عشرة أعوام، بضعة كيلوجرامات من الليمون والطماطم، إلى تجارة كبيرة بالآلاف، بدأت عائلته في النمو وحلمه في التحقق، وقبل أن يبدأ استقراراً حقيقياً، تعرض وطنه الكبير، لهزيمة 1967 ، والتي استقبل فيها وطنه الصغير الجديد، مدينة السويس، تهديداً حقيقياً بالتدمير الكامل، مما أدى لهجرة جماعية إجبارية لمواطنيها، نقل فيها عبد الستّار زوجته وأطفاله السبعة في ذلك الوقت، لقنا، مسقط الرأس، ومحل تواجد العائلة الكبيرة، وظل وحده وسط عشرات الباقين، يساعد القوات المصرية المتمركزة هناك، ويمدهم بجزء كبير من احتياجاتهم من الخضروات والفواكه وغيرها، وسط الغارات اليومية للقوات الاسرائيلية، بمدينة يحاصرها الموت، وتتعرض في كل ساعة، لمرحلة جديدة، من التدمير الكامل.

المعجزة الحيّة

ست سنوات مرت قبل أن يجتمع شمل العائلة من جديد، الأب على الجبهة، والأبناء يتعرّفون على الموطن الأصلي قبل العودة لحياة المدينة، لم تكن صعبة حياة العائلة كما كانت حياة عبد الستّار قبل ارتحاله للمدينة الساحلية، على العكس، كانت ممتعة ومليئة بالمغامرات، فها هي شمس الصعيد تصقل الأبناء، وخضرته تمنحهم الصفاء والابداع، كما ساهم غذاءه الطبيعي في بنائهم الصحي و الصحيح، فعلى عكس المدينة، نادراً ما يشترون شيئاً، فالخبز يتم خبزه في فرن البيت، الخضروات والفاكهة تجلب مباشرة من الأرض، البروتين بأنواعه، من لحم أحمر وأبيض وبيض وألبان ومنتجاتها، من الحظيرة الملحقة بالبيت، وفي هذه الفترة لعبت الجدة الدور الأكبر في تشكيل شخصية أبناء عبد الستار، يراها  الأطفال – وهي السيدة العجوز – تقوم بكل الأدوار وحدها، تعجن وتخبز، تطعم الدجاج والماشية وتنظف أماكنهم، تحلب وتجمع البيض، تقطف الثمرات وتعد الطعام، تذهب بالطعام للرجال في الحقل، تنظف البيت وتحضر افطارا وغذاءا وعشاءا وشايا ووجبات خفيفة، تصلي وتقايض وتبتسم وتحكي الحكايات.

الجنوبي يتحقق

بعد انتهاء الحرب والعودة في منتصف السبعينات، كان على عبد الستّار أن يبدأ من جديد، كما كان على الدولة بأكملها عامة، وعلى ” السويس ” خاصة، فالحرب تركتها أنقاضاً، ومع رأس مال بسيط وعدد جيد من العلاقات وعمل لا ينتهي، استطاع الأب المكافح في بحر عشر سنوات من توسيع تجارته بشكل كبير، كما مكنته سياسات الانفتاح الاقتصادي (بدأت في 1975) كما مكنت العديدين من الاستيراد والتصدير بشكل أكبر وأوسع، فصّدر المحاصيل المصرية الشهيرة للخارج كالبطاطس والطماطم والبصل وقام باستيراد العديد من الخضروات والفواكه التي لم يكن يعرفها المصريون من قبل كالفاكهة المجففة ، أصبحت السوق مفتوحة، وتحوّل الشاب الأسمر البسيط القادم من أقاصي الجنوب بعد ثلاثين عاما ً إلى واحد من أكبر تجار الجملة للخضروات والفواكة ليس بالسويس وحدها، ولكن على طول وعرض المحروسة بأكملها، وأصبح صاحب وكالة كبيرة بسوق الخضروات والفاكهة بالسويس، واسماً كبيراً بسوق العبور المركزي بالقاهرة، وسيارات نقل ضخمة مزودة بالثلاجات تجوب الدولة ناقلة البضائع، كما اقتحم سوق الأراضي والعقارات، وبدأ يشتري ويبيع ويقوم بالبناء، وبالرغم من وصول عدد أولاده للرقم الحادي عشر، انشغل هذا الرجل الأمي بأولوية سبقت كل اهتماماته الكبيرة : تعليم الأبناء .

الوصول للقمة

لم يكن تاجراً كبيراً فقط ، لكنه أيضاً كان أباً عظيماً ، كان من الممكن ألا يشغل باله بتعليم أي من ابنائه، فعددهم الكبير كان من الممكن أن يفيده في عمله، لكنه قرر أنه بغض النظر عن المستقبل المهني سيتعلم الجميع، كان بشوشاً في الأوقات بالغة القلة التي كان يقضيها مع الأولاد، لانشغاله الكبير بالعمل، لكنه كان حازماً، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتعليم، أحد عشر ابن وابنة، وصل عشرة منهم للتعليم الجامعي وأنهوه، كما تجاوز ثلاثة منهم مراحل التعليم بعد الجامعي، ليحصلوا –في المجالات المختلفة – على شهادات الماجستير والدكتوراه.

في اوائل التسعينيات كانت الأمور مستقرة بالدولة إلى حد بعيد، وكان عبد الستّار حمزة في أوج مجده ، متربعاً – بلا منافس حقيقي – على عرش تجارة الجملة للخضروات بمحافظات القناة، مرض  كبد ” ابن حمزة ” قليلاً من أثر ” بلهارسيا ” قديمة، قبل أن يموت متأثراً بإصابته، وكأنه غادر الصعيد ولكن الصعيد أبى أن يغادره إلا جسداً مُسجى ووكالة ضخمة للتجارة، سيرة عطرة وشهرة واسعة وأبناء يعملون –بنفس الجهد والاصرار – في مختلف المجالات .

أبناء وأحفاد في المسيرة

عمل ثلاثة من الأبناء في تجارة أبيهم الكبيرة ،وإن تحوّل اثنان منهم لأنواع أخرى وبقى واحد، وعمل ثلاثة آخرين بالمجال الطبي، أحدهم استشاري نساء وتوليد ويملك مستشفى كبير والآخر صيدلي تولى رئاسة صيدليات التأمين الصحي بالسويس، والثالثة استشارية في مجال طب الأسنان وحاصلة على ماجستير في مجال إدارة المستشفيات وتعمل حالياً كمدير لمستشفى السويس العام كأول امرأة تعمل بهذا المنصب في تاريخ المحافظة، كما تعمل ثلاثة بنات لعبد الستار حمزة في مجال التدريس في مراحل التعليم المختلفة، ويعمل واحداً كأستاذ زائر بالجامعة الأمريكية، وبالرغم من وصول أبناء الجنوبي لأكبر وأهم المراكز بالمحافظة التي هاجر أبوهم إليها، وشهدت ميلاد معظمهم، إلا أن مسيرة الحياة لا تتوقف، فسبعة من الأحفاد يعملون حالياً بالمجال الطبي ، بين طبيب بشري وطبيب أسنان وصيدلي، ثلاثة مهندسين بقطاعات مختلفة، سبعة يعملون في أنواع مختلفة من التجارة، بدءاً من تجارة الجد المستمرة مروراً بتوكيلات الأجهزة الكهربائية والتكييفات وصولاً للملابس الجاهزة والاستيراد والتصدير، كما يعمل عدد آخر بمجالات مختلفة مثل السياحة والمحاجر، ولايزال البعض بمراحل التعليم المختلفة.

هجرة ثانية مُحتملة

لم يكن عبد الستار حمزة وحده عندما ترك الصعيد وسافر شمالاً، كما لم يكن وحده الذي اختار السويس أو إحدى محافظات القناة وجهة له، لكن معادلة النجاح الكبير تحتوى على عدد كبير ومعقد من العوامل، بالطبع لم تتوفر للكثير، وبالرغم من كون السويس الآن مدينة صناعية كبيرة، إلا أنها لم تعد محط أنظار الجنوبيين كالسابق ، قلة فرص العمل تضرب الدولة بأكملها، وجعلت الحالة التي يعيش بها الجميع أكثر فقرا، وبالتالي أقل ترحيبا بالغرباء، أمثال عبد الستار حمزة، الذي لا يمكن التنبأ بما قد يفعله أحد أبناء قريته الأن إذا قرر السير على خطاه.