يتسلل نسيم (39) ليلا إلى الحدود الليبية عبر مدينة بن قردان الواقعة جنوبي شرقي تونس على متن سيارته رباعية الدفع قصد تهريب البنزين من ليبيا.

 

يحمل هذا المهرب على سيارته عشرات الأوعية البلاستيكية يسع الواحدة منها 20 لترا للتزود بالمحروقات التي يؤمنها مهربون ليبيون في بأسعار رخيصة.

 

بحكم ممارسته لهذا النشاط منذ سنوات تعود نسيم على خوض رحلات التهريب المحفوفة بالمخاطر في ظل تشديد الرقابة الأمنية على الحدود بين البلدين.

 

ممرات تهريب

 

بالرغم من إقامة حاجز ترابي من قبل الجيش التونسي بالجنوب لمنع تسلل سيارات المهربين يعثر نسيم دوما على طرق وثنايا تمكنه دوما من الوصول لمبتغاه.

 

لا يخفي نسيم ابتسامته حين يقول لمراسلون إنه رغم الحواجز الأمنية والساتر الترابي ما تزال هناك ممرات غير قانونية صالحة لتأمين جلب المواد المهربة.

 

ومع ذلك لا ينكر هذا الشاب الذي يعيش كغيره على نشاط التهريب بمدينة بن قردان الجنوبية وجود مخاطر حقيقية حين يجازف المهربون بعبور مسالك مشبوهة.

 

وفي الجنوب عادة ما يحتدم الصراع بين قوات الجيش والأمن والمهربون. إذ يطلق النار فورا على كل مهرب لا يلتزم بتعليمات التوقف وهذا يعني خطر الموت.

 

ولكن بحكم تدهور الأوضاع بمدينة بن قردان التي يعيش أغلب سكانها من التجارة الموازية والتهريب يتغاضى الأمن أحيانا كثيرة عن ملاحقة المهربين، وفق نسيم.

 

تجارة البنزين

 

ويعد تهريب البنزين من ليبيا إلى تونس أحد الركائز لما يعرف بالاقتصاد الموازي لتلك المنطقة. ويكبد تهريب البنزين من ليبيا نحو تونس خسائر من الجانبين.

فحسب دراسة أعدها البنك الدولي حول تونس وليبيا يكلف تهريب البنزين إلى تونس خسارة 500 مليون لتر سنويا أي ما يعادل 17 % من ميزانية ليبيا.

ولكن الخسارة أيضا تلاحق شركات توزيع البنزين بتونس. فحسب حمادي خميري الكاتب العام لنقابة هذه الشركات يقلص التهريب 30 بالمائة من المبيعات.

ولا يتكبد مهبو البنزين عناء تخبئة البنزين المهرب فهم يضعونها في مخازن قبل أن يتم توزيعه أمام أنظار رجال الأمن في نقاط بيع على الأرصفة وفي الأسواق.

 

وانطلاقا من الجنوب يبدأ البنزين المهرب رحلته نحو كامل البلاد. وكلما ابتعد جغرافيا عن الجنوب كلما ارتفع سعره، لكن سعره يظل أقل من السعر الرسمي.

 

ولا يقتصر التهريب على جلب البنزين من ليبيا إلى تونس عبر مسالك غير قانونية، بل يتعداه ليشمل المواد الالكترونية والسلع التركية والصينية والمواشي وغيرها.

 

تواطؤ أمني

 

ويقول مصدر أمني لمراسلون طلب عدم نشر اسمه إن هناك موظفين في الجمارك يتعاونون مع مهربين مقابل الحصول على عمولات على كل عملية تهريب.

وكان رئيس هيئة مكافحة الفساد أكد بأن تواطؤ عناصر في أجهزة الدولة قد تسبب في تفشي ظاهرة التهريب والسوق الموازية التي أضرت بالاقتصاد التونسي.

لكن هذه التصريحات لا تجد تعاطفا لدى أهالي بن قردان. في السايق يقول جيلاني جويلي تاجر بسوق موازية ببن قردان إن تفشي التهريب سببه تفشي الفقر والبطالة.

“هؤلاء المهربين يمارسون حقهم في العيش عن طريق التهريب والتجارة الموازية من أجل لقمة العيش حتى لا يموتوا جوعا” يقول جيلاني لمراسلون.

ويشتغل في التجارة الموازية والتهريب قرابة 4000 ساكن من أهالي مدينة بن قردان (البالغ عددهم 80 ألف ساكن) وذلك بحسب دراسة للبنك الدولي.

بديل للشباب

وتمثل التجارة الموازية التي تتغذى من السلع المهربة أكبر قطاع مشغل في بن قردان قبل الفلاحة وصيد الأسماك والبناء وتعتبر المصدر الرئيسي للدخل هناك.

ويؤكد سامي (28) حامل لشهادة عليا ويعمل أيضا في التهريب عبر المعبر الحدودي رأس جدير بين تونس وليبيا إن التهريب أصبح ملجأ عديد حاملي الشهادات.

 

بشيء من الاندفاع يقول لمراسلون “لست الوحيد في هذه المهنة. هناك عدد كبير من أصحاب الشهائد العليا المعطلين يزاولونها بسبب تفشي البطالة والفقر”.

 

وبسبب غياب العمل بمناطق الجنوب ولاسيما بمدينة بن قردان، يلجأ عدد من أصحاب الشهائد للعمل في التهريب لكسب قوتهم رغم توتر الأوضاع بليبيا.

 

ويقول سامي “في مدينة بن قردان لم يبقى لنا نحن الشباب خيارا سوى نشاط التهريب للعيش المغمس بالخوف وخطر الإصابة بالرصاص الليبي أو التونسي”.

وبات نشاط التهريب عرضة للتضييق بسبب تنامي خطر الإرهاب بالمنطقة في ظل معلومات عن تواطؤ مهربين مع الإرهابيين لإدخال السلاح أو تسفير إرهابيين.

 

وحسب تقارير رسمية فإن الأنشطة الإرهابية التي عرفتها المدينة تمثلت أساسا في تسفير الجهاديين إلى بؤر القتال في سوريا والعراق وليبيا المجاورة.

 

والعام الماضي عرفت بن قردان قتالا عنيفا بين عناصر تنظيم الدولة “داعش” وقوات الأمن والجيش التي نجحت في إحباط محاولة للسيطرة على المدينة.

وسجلت تلك الحادثة هبة قوية من أهالي بن قردان لمساعدة قوات الأمن والجيش على مواجهة التنظيم الذي لقي هزيمة في منطقة تعتبر بوابة التهريب.