هي أكبر المحافظات التونسية مساحة تقع بأقصى الجنوب وتاريخها حافل في دحر المستعمر الفرنسي والذود عن الوطن فهي التي كانت معقلا لمجموعات “الفلاقة” الأولى والثانية الذراع العسكري لحركة التحرير التونسية.

هي أيضا موطن للشركات البترولية الأجنبية العملاقة وتؤكد عديد الجمعيات المدنية بالجهة أن عائداتها فاقت 7 مليار دينار يوميا (3.5 مليار دولار)، بل أن وزارة الطاقة الأمريكية كانت صرحت سنة 1980 أن 50 بالمائة من صادرات تونس هي صادرات نفطية.

ورغم هذا التاريخ الوطني الزاخر والثروة النفطية التي يؤكدها العديد فإن أهالي الجهة يعتبرونها منطقة مظلومة ولم تتحصل على اهتمام الحكومات منذ أكثر من ستين عقدا وعلى حقها في تنمية عادلة.

ملحمة نضال وصبر

يجلس عبد العزيز أحد معتصمي “الكامور” على كرسي صغير قبالة الخيمة التي يقيم فيها رفقة بعض أصدقاءه وأقرباءه يتصفح إحدى الجرائد اليومية باحثا عن آخر الأخبار حول الأوضاع الاجتماعية في تطاوين وردود الفعل المتعلقة بالاعتصام والاشتباكات الأخيرة التي جدت بين المتظاهرين وقوات الأمن.

هو عاطل عن العمل متزوج وله طفلان ويبلغ من العمر 38 سنة جاء إلى “الكامور” ليساهم في احتجاجات أبناء جهته المطالبة “برغيف الخبز وتوفير الحد الأدنى المعيشي لأطفاله”، فهو يتمنى أن ينجح أبناؤه في الدراسة ويكون لهم شأن في المستقبل في الطب والتدريس.

“هذه هي أمنياتي البسيطة، لم أطلب شيئا كبيرا من الحكومة، لم أطلب العمارات والمنازل والشركات والاموال الطائلة، انا فقط اتطلع لتكون لي حياة كريمة وأعيل عيالي ليكونوا مستورين، ويكون لنا نصيب من الثروة النفطية في جهتي”، على حد تعبير عبد العزيز لـ”مراسلون”.

وقصة عبد العزيز تختزل تقريبا قصص المحتجين بتطاوين سواء منهم المقيمين في الاعتصام أو الذين يزورون “الكامور” يوميا للمشاركة في الاحتجاج والضغط أو للتعبير عن المساندة .

هؤلاء المعتصمون افترشوا مئات الخيام، وتم تقسيمهم بعناية حسب كل جهة من جهات المحافظة أي نجد حوالي 23 مخيما يمثلون معتمديات تطاوين ويترأس كل مخيم رئيسٌ يقوم بالسهر على شؤون مخيّمه ويقوم بتمثيله في اجتماعات المخيمات الاخرى مع رؤساء التنسيقيات والناطق الرسمي باسم الاعتصام.

الحياة في اعتصام “الكامور” تبدأ مع صلاة الفجر حيث يأخذ كل معتصم مساره لإعداد فطور الصباح بالبحث عن الحطب واشعال النار لتسخين الحليب، وبعد الفطور، ومع الساعة الثامنة صباحا من كل يوم يأتي رؤساء نقاط المخيّمات مع رؤساء التنسيقيات لينطلقوا في اجتماعهم الدوري الذي يتضمن جدول أعمال يتم فيه تدارس الاوضاع داخل الاعتصام وايجاد حلول حول النقص في المؤن والاكل والشرب والادوية وأيضا لتدارس اخر المستجدات وتبادل الاعلام حول الاحتجاج وسير المفاوضات مع الحكومة.

ويحتوي الاعتصام على خيمة مشتركة للمؤن تقوم بتزويد المخيمات التي تعاني من نقص في احدى المواد، وهذا لا يمنع من تواجد خيمة خاصة للمؤن  لكل نقطة تخييم وشعار المحتجين في هذا السياق هو التضامن والتآزر، وهو الشعار نفسه لباقي متساكني تطاوين الذين يقومون بالتبرع بأي شيء كل حسب طاقته لإرسالها الى الاعتصام من خضر وغلال وحليب ووقود وغيرها من المواد المعيشية حتى يتواصل الاعتصام ويعيش، حتى أن رعاة الغنم والماشية في الصحراء يقومون من حين لآخر بإعانة المعتصمين بما يمكن أن تجود به أيديهم…

أما مع غروب الشمس، ينكب المحتجون على تحضير العشاء، ثم يقومون بالإعداد لاجتماعاتهم بعد صلاة العشاء ليواصلوا احاديثهم ونقاشاتهم، ومن حين لآخر يحاولون الخروج من رتابة الاعتصام بما تعلموه من أناشيد وأغان بدوية قديمة والتي يعتبرونها تمثل احدى ركائز موروثهم الثقافي والحضاري.

هكذا هي الحياة في اعتصام “الكامور” حكاية ملحمة نضالية ضد التهميش والتفقير، تلخّص مدى تضامن الاهالي فيما بينهم وتشبّثهم بمطالب يعتبرونها توفّر الحد الادنى المعيشي وتحافظ على كرامتهم، “فهم لم يطلبوا شيئا غير الكرامة ” مثلما قال طارق الحداد الناطق الرسمي باسم الاعتصام.

معركة كرامة

حوالي 1500 محتج من المعتصمين في منطقة “الكامور” يعتبرون أن حركتهم الاحتجاجية التي تصدرت عناوين وسائل الإعلام المحلية والأجنبية حلقة من معركتهم من أجل الكرامة، فهم يشعرون بأنهم مقصيون من أرضهم ومطرودين من بلادهم ويتساءلون كيف لأرض غنية بالثروة والخيرات يعيش اهاليها البؤس الذي لا ينتهي وشبابها التائق للكرامة مستوطن في المقاهي ولا شغل له ليبقى عرضة للانحراف واستقطاب عصابات الارهاب والهجرة السرية عبر قوارب الموت.

طارق الحداد الناطق الرسمي باسم اعتصام “الكامور” أكد في معرض حديثه لـ”مراسلون” أن الأهالي والعائلات اضطروا للاحتجاج والاعتصام بنقطة العبور “الكامور” ليوجهوا رسالة إلى “من صمّوا آذانهم” تُفيد بأنه “من الواجب أن يكون لجهتهم نصيب في الثروة وفي منوال تنمية جديد وليس النظر كل يوم الى خيراتهم وهي تُسرق منهم أمام ناظرهم وهم في الفقر والظلم الاجتماعي يعانون”.

مطالب أهالي تطاوين ليست بالجديدة وليست بالغريبة مثلما أبرز طارق الحداد ويرى المحتجون أنها “ليست تعجيزية”، وقد طرحوا على الوفود الوزارية 3 نقاط رئيسية وعاجلة وهي تخصيص 20 بالمائة من العائدات النفطية لصالح التنمية الجهوية وتشغيل فرد من كل عائلة وانتصاب مقرات الشركات النفطية الأم في المحافظة إلى جانب كشف الحقيقة عن صفقات النفط التي تقوم بها الحكومة مع الشركات الاجنبية.

ومحافظة تطاوين مثلها مثل عديد مناطق الجنوب التونسي تعاني خللا جهويا حادا في التنمية وفي توزيع الدخل بين المحافظات الساحلية وباقي المحافظات الغربية والجنوبية.

وهذا الخلل موروث منذ العقود الماضية اذ تجاوزت معدلات الفقر غرب البلاد نسبة 38 بالمائة مقارنة بـ15 بالمائة على المستوى الوطني، فضلا عن تدني المرافق الخدماتية والصحية.

حكومة عاجزة

بعد انطلاق احتجاجات أهالي تطاوين بمدة ورفع مطالبهم وأخذها نسقا تصعيديا بالاعتصام بنقطة العبور “الكامور” حل موكب رئيس الوزراء يوسف الشاهد مصحوبا بعدد من الوزراء والمسؤولين الكبار في الدولة محمّلين بحزمة من القرارات، وقبل بداية المفاوضات مع مكونات المجتمع المدني وممثلين عن المحتجين استقبلت الوفد الحكومي شعارات التنديد والغضب ليتأكد بذلك ان المفاوضات ستكون صعبة وعسيرة.

وبالفعل فإن الحوار مع المحتجين لم ينجح وتم رفض الـ 64 قرارا التي اتت بها الحكومة من إحداث مشاريع وتحسين البنى التحتية وتشغيل عدد من العاطلين عن العمل واعتبرها المحتجون لم ترتق إلى الحد المطلوب ولم تكن تلك القرارات في مستوى تطلعات الاهالي، الأمر الذي زاد من فتيل الاحتقان وعمّق حالة خيبة الامل ليعود الشاهد وفريقه الى العاصمة تونس مثلما أتى، عاجزا عن تحقيق أي انفراج يُذكر.

مصداقية مهتزّة

وحسب المعطيات فإن هناك ثقة مهتزة بين أهالي تطاوين والحكومات المتعاقبة، فعديدة هي الاتفاقات التي أُبرمت مع السلطات حول النهوض بالتنمية في الجهة وتحسين الاوضاع المعيشية وصيانة البنية التحتية والمستشفيات وتوفير الإطار الطبي المختص وتشغيل العاطلين عن العمل وغيرها من الملفات الاجتماعية.

لكن كل تلك الاتفاقات والتعهدات لم تجد لها مكانا للتجسيم وخلقت نوعا من انعدام الثقة وجعلت من الحكومات ومنها حكومة الشاهد فاقدة للمصداقية وموضع شكوك.

فقد أكد السيد البشير السعيدي الكاتب العام للاتحاد العام التونسي للشغل بتطاوين لـ”مراسلون” أن المنظمة النقابية أبرمت أكثر من اتفاق مع السلطات تتعلق بالمطالب نفسها التي يرفعها الآن محتجو “الكامور” لكن الحكومة لم تحترم تعهداتها ولم تكن لها ارادة لتجسيم التزاماتها واتفاقاتها، وفق قوله.

ويضيف بأن “هذا الأمر جعل الأهالي متأكدين بأن السلطة غير جادة وتقدم للناس وعودا زائفة وهو ما جعل الأمور تتعقد أكثر ويصر الأهالي على مواصلة تحركهم واعتصامهم دفاعا عن مطالبهم المشروعة ودفاعا عن مفاوضات جدية وحوار مسؤول”.

الحوار متواصل

وحول نجاعة تدخل الحكومة وحقيقة هذه المفاوضات أفاد السيد محمد الطرابلسي وزير الشؤون الاجتماعية لـ”مراسلون” بأن المشاريع التي قدرتها الحكومة بلغت 300 مليون دينار (130 مليون دولار) ويكون بعثها على امتداد السنة الجارية والسنة المقبلة وتهم التشغيل والفلاحة والطاقة والخدمات وغيرها، مبرزا أن المحتجين أصروا على رفضها وعلى التشغيل فقط في حقول النفط دونا عن القطاعات الاخرى.

الوزير أكد أيضا أن سقف مطالب المحتجين يرتفع في كل مرة ولا يمكن تقديم وعود لهم يستحيل إنجازها أو مخالفة للقوانين، مشيرا إلى أن الحكومة مستعدة دائما للتفاعل الايجابي مع أي مقترحات اخرى وأن الحوار يجب أن يتواصل مع المعتصمين لتخفيف الاحتقان وتجنيب البلاد هزات اجتماعية.

وحول سؤال “مراسلون” عن واقع ملف النفط بالجهة قال الوزير إن ما يُشاع عن الثروة النفطية أو العائدات المهولة لإنتاج النفط تبقى مجرد أقاويل ومزاعم لا حجج ولا سند علمي لها.

وكشف لـ”مراسلون” بأن رئيس الحكومة يوسف الشاهد قرر بعث لجنة علمية محايدة ستتولى ضبط الثروة النفطية والطبيعية بتونس وكشف كل الحقائق عن هذا الموضوع.

الوضعية في تطاوين و”الكامور” باقية على حالها وهي تبؤ بتعقيدات اجتماعية أكبر في المرحلة المقبلة خاصة وأن عدة محافظات أخرى في البلاد دخل متساكنوها بدورهم في تحركات احتجاجية منذ مدة والمطالبة بالمطالب نفسها ألا وهي التنمية والتشغيل.