بالقرب من الحدود المصرية السودانية كانت هناك سيارتي دفع رباعي تنطلقا بسرعة كبيرة في الصحراء الشرقية المصرية مخلفتين عاصفة ترابية، صندوقا السيارتين مغطيين بقماش يحجب أشعة الشمس الحارقة في مكان مكشوف كهذا، وبداخلهما 25 متسللًا أفريقيا يرافقهما مسلحين ومهرب ودليل من البدو… حكاية ضمن مئات وربما آلاف حكايات التهريب على حدود مصر الجنوبية.

وادي العلاقي الذي يمتد نحو 275 كيلو متر جنوب شرق محافظة أسوان  يشهد عمليات تهريب أفارقة وحيوانات وبضائع على مدار العام ويعتبر المنفذ المفضل لدى المهربين لدروبه الكثيرة ووعورة بعضها واتصاله بسلسلة جبال البحر الأحمر التي يمكن الاختفاء بداخلها إذا مرت دورية أمنية.

 ***

على مقهى صغير بمدينة كوم أمبو بأسوان يحكي أشرف – اسم مستعار-  يعمل في التهريب لـ”مراسلون” قصة نقل أفارقة من على الحدود السودانية، يقول: نحن على اتصال بمهربين سودانيين على الحدود، نعمل معًا منذ سنوات في هذه المهنة وبيننا ثقة مشتركة، تلقيت منهم رسالة على هاتف “ثريا” بوصول شحنة ( الخرفان) وهو ما نطلقه على الأفارقة لتضليل قوات الأمن وأيضًا لمنع استخدام الرسالة ضدنًا إذا تم القبض علينا، يضيف عرفت منه عددهم كانوا 25 فردًا واتفقنا على السعر 1200 جنيهًا لكل فرد ولم أحدد ساعة وصولي للمنطقة المتفق عليها ولقرب المسافة بيننا وتعاملنا السابق يعرف أنني خلال 24 ساعة سأكون هناك، لكن يجب أن أتجنب مواعيد دوريات الحدود التي يعرفها الدليل من مصادره.

يكمل أشرف: اتفقت مع 3 مساعدين مسلحين ببنادق آلية ودليل وسائقين وجهزت سيارتي دفع رباعي ذات الصندوق، حيث أن كل سيارة تستوعب 10 أفراد أو أكثر حسب أعمارهم، وجهزنا قماش سميك لتغطية السيارتين، وتحركنا قبل الفجر وخلال 5 ساعات وصلنا للمنطقة وتسلمنا الشحنة وكان أغلبهم شباب إريتري وبعضهم من إثيوبيا، وأخذنا الأموال من الوكيل السوداني ووضعناهم 10 في سيارة و15 في الأخرى حسب حجمهم.

نبهنا عليهم بالالتزام بالتعليمات وإلا سنتركهم في الصحراء، وتأكدنا من جاهزية السيارتين من حيث الوقود وتوافر المياه، حتى لا نتعطل في الطريق وتكشفنا قوات الأمن، وانطلقنا شمالًا نحو مدينة أسوان نتبع الدليل عبر دروب ومدقات صحراوية نسير ببطء تارة ومسرعين تارة أخرى، ولم نتوقف سوى 5 دقائق فقط لقضاء حاجة الأفارقة داخل تجويف جبلي.

وتابع أشرف: أحيانا يكون هناك دوريات من حرس الحدود في وادي العلاقي، يعرف مواعيدها الدليل ولا يمكننا عدم لفت نظرها إذا سرنا في الوادي خاصة في الأماكن الترابية، وبالفعل على الطريق طلب الدليل أن نتوقف لمدة 15 دقيقة في إحدى المدقات الجبلية ولا نحدث أية أصوات، أخفينا السيارتين في ممر بين جبلين، وخرج الدليل من السيارة وصعد فوق صخرة مرتفعة يتابع مسار الدورية الأمنية، وبعد التأكد من خلو المكان من قوات الأمن أكملنا المسيرة إلى مدينة أسوان، وأنزلنا الأفارقة في مدينة دراو كما اتفقنا معهم، وطوال 6 ساعات لم تقابلنا دورية شرطة واحدة، وانتهت العملية بسلام، بعد ذلك وزعت الأموال حسب حصص محددة فالنصيب الأكبر للمهرب ثم السائق ثم الدليل وفي النهاية المساعدين المسلحين.

 ***

ويرفض أشرف عمليات تهريب الأفارقة إلى سيناء أو القاهرة، فقط يتفق مع “الوكلاء” السودانيين على تركهم في مدينة أسوان قرب محطة القطار أو يسلمهم إلى مهربين آخرين ينقلونهم إلى القاهرة أو إلى سيناء تمهيدًا لتهريبهم إلى إسرائيل، يقول “عمليات التهريب داخل أسوان أموالها قليلة بالنسبة للعمليات الأخرى لكنها أكثر أمانًا ولا تستغرق سوى ساعات وأحيانًا يوم كامل”، يضيف “لدى 5 أطفال مسئول عنهم ويجب أن أطعمهم ولا أعرف مهنة سوى التهريب“.

يقول مصدر بجهة سيادية بأسوان لـ”مراسلون” -رفض ذكر اسمه-  إن أغلب عمليات التهريب تمر عبر وادي العلاقي والقليل من المهربين يستخدم بحيرة ناصر وميناء السد العالي، وهناك وديان أخرى لكن التهريب فيها قليل لسهوله ضبط المهربين فيها مثل وادي حمير ومنطقة السيالة.

وأكد أن لا يمكن تأمين الحدود بشكل كامل في أية دولة في العالم، مشيرَا إلى أن البعد المكاني لوادي العلاقي عن المدينة وقلة الخدمات المقدمة للسكان بتلك المناطق الجبلية الوعرة وراء انتشار عمليات التهريب وإيواء والخارجين عن القانون .

كانت مديرية أمن أسوان قد أعلنت عن ضبط 100 متسلل أفريقي من جنسيات إريترية وسودانية وإثيوبية خلال الـ 3 أشهر الماضية بمساعدة مهربين حاولوا إدخالهم البلاد بطريق غير شرعي مقابل مبالغ مالية.

ويتركز أغلب سكان وادي العلاقي من قبيلتي العبابدة والبشارية حول بحيرة ناصر بالقرب من مصدر المياه والخدمات الحكومية، فيما أغلب الوادي خالي من السكان.

 ***

يقول محمود –اسم مستعار- أحد المهربين هناك طرق ووسائل كثيرة للتهريب وتختلف من مهرب لأخر, لكن دروب وادي العلاقي هي الأفضل لعمليات التهريب فهي بعيدة عن أعين الأمن وبها مدقات جبلية يصعب علي قوات حرس الحدود الوصول إليها لخطورتها.

وأكد أن أغلب عمليات التهريب التي تضبطها قوات الأمن سببها قلة خبرة المهربين والأدلاء بالدروب المدقات الجبلية بوادي العلاقي، أو محاولة المهربين دخول وديان أخرى بها تكثيف أمني لقوات حرس الحدود فيتم ضبطهم ومحاكمتهم.

ويضيف محمود أن أسعار تهريب الأفارقة تختلف حسب وجهتهم فالأسهل دخول أسوان، لكن منهم من يريد التوجه إلى القاهرة أو إلى سيناء، ويتراوح سعر تهريب الفرد من 100 دولار إلى ألف دولار حسب الوجهة ويتم تحصيلها بعد إتمام عملية التهريب.

وقال “منذ عدة أشهر استلمت مجموعة من الإريتريين ونطلق عليهم “الحبش” حولي 30 فردًا، وانطلقت بهم عبر المدقات الجبلية بوادي العلاقي نهارًا وكان معنا أدلاء خبراء لكن فوجئنا بدورية من حرس الحدود خلفنا كشفتنا من غبار السيارات، فطلبت من السائق زيادة السرعة, ورفضنا التوقف فأطلقوا علينا النار وبادلناهم وتمكنا من الفرار عبر مدقات جبلية وعرة وتعطلت سيارتهم بها خلفنا“.

يضيف “بعد هذا الحادث حاولت أن أسلك طرقًا أخرى بعيدًا عن وادي العلاقي عبر بحيرة ناصر, لكن كان العبور عبر البحيرة مخاطرة كبيرة لتكثيف قوات الأمن وكثرة المخبرين والأهالي حول البحيرة.

يقول الدكتور هشام جمال أستاذ الجغرافيا السياسية بكلية آداب جامعة أسوان إن منطقة وادي العلاقي كانت عامرة بأهالي النوبة قبل تهجيرهم لبناء السد العالي، وكانت عمليات التهريب ضعيف جدا، مشيرا إلى أن الوادي مساحته تمتد لمئات الكيلو مترات وبه المئات من الدروب الصحراوية والجبلية ولا يمكن للدوريات الأمنية أن تغطي كل تلك المساحة خاصة أنها متصلة بسلسلة جبال البحر الأحمر.

 ***

سيد –اسم مستعار- أحد المهربين الذين تحدثوا مع “مراسلون” أكد أن عمليات التهريب ليست مرتبطة بفصل معين وخاصة تهريب الأفارقة، لكن المهربين يفضلون فصل الصيف نهارًا لندرة دوريات حرس الحدود في تلك الساعات بوادي العلاقي، يقول “وإذا كان معانا دليل جيد يمكننا السير لعدة ساعات ليلًا بلا أضواء ومحظور علينا أن نشعل السجائر“.

وأضاف: في وقت ندرة عمليات تهريب الـ “خرفان”، نقبل بعمليات تهريب البضائع المصرية إلى السودان أو تهريب الحيوانات إلى مصر، ونادرا ما يتم تهريب السلاح والمخدرات على الحدود السودانية، مؤكدا على أن الأرز المصري هو أبرز سلعة يتم تهريبها إلى السودان ومنها إلى دول أفريقية أخرى، وتختلف أسعار التهريب حسب البضاعة وكميتها لكنها لا تقل عن 20 ألف جنيه للنقلة لأن المسافة من الحدود إلى المدينة لا تتعدي 250 كيلو متر وفي أقصى تقدير تستغرق 6 ساعات وآمنة أكثر من الحدود الغربية والشمالية.

***

اللواء مجدي موسي مدير أمن أسوان أكد لـ”مراسلون” أن منطقة العلاقي الحدودية جنوب أسوان والمشتركة مع دولة السودان وما فيها من دروب ومدقات وجبال تحت سيطرة حرس الحدود والقوات المسلحة وهم المسئولين عن التعامل مع المهربين والخارجين عن القانون فيها، ومسئولية الشرطة مدخل منطقة العلاقي والطريق السريع الذي يشهد تكثيف أمني, موضحا أن الشرطة تقدم المعلومات عن المهربين والخارجين عن القانون لقوات حرس الحدود، ويتم التنسيق مع قوات حرس الحدود لشن عمليات مشتركة للقبض على عصابات تهريب والاتجار في البشر والأسلحة والمخدرات.

تصوير: محمد طارق