“لا أحد يستطيع دخول هذه البقعة إلا برفقتي ولا تستخدِمْ هذه الكاميرا دون إذني”، قال (س) أثناء مقابلة أجريتها معه بهدف إعداد تقرير استقصائي لمكان عملي السابق عن الحرب الجارية على الإرهاب في شرق البلاد.
عشرات المسلحين في كل مكان يتحركون بين أشجار زيتون دمرتها سابقًا الطائرات العسكرية بسبب “مشاكل أمنية”. هذا هو المنظر الذي شاهدته لعشر دقائق على الأقل أثناء القيادة على الطريق الرملي مع أحد كبار المهربين السابقين في المنطقة ونحن ندخل قرية “المهدية” التي صنفها مسؤولون أمنيون كإحدى أخطر المناطق المأهولة بالسكان. والقرية مشهورة أيضًا بأنها معقل الاتجار بالبشر، ولا سيما الذين يهربون من جحيم النزاعات الأهلية في مواطنهم الأفريقية.
يقول س: “إنها قصة قديمة. ولكن قبل عهد مرسي (2012 -2013)، كانت التجارة بسيطة وكان لدينا شركاؤنا في السودان. نحن نمرر الأفارقة عبر الحدود ثم نأخذ نصيبنا، ولكن تقع بعض الانتهاكات بالطبع. إنها تجارة ضخمة. يريد بعض المهربين مزيدًا من المال فيقتلون الأفارقة الذين لا يستطيعون دفع المزيد، ويكسبون أموالًا إضافية من بيع أعضائهم”.
وأضاف: “عندما استلم مرسي السلطة، بدأت الجماعات المتشددة تشعر بمزيد من السيطرة، أرادت حصة هي الأخرى. ما من أحد عانى كهؤلاء الأولاد الفقراء – الأفارقة. لقد اكتشفوا أن أعضائهم تجلب أموال أكثر من تهريبهم كأشخاص”.
وصلنا إلى منزل ضخم وسط الصحراء تضرر بسبب الغارات الجوية الأخيرة
دخلنا حديقة المنزل حيث رأيت بطانيات على الأرض يعتقد أن “الأفارقة” يستخدمونها للنوم. وكانت رائحة الطلاء والأثاث المحترق لا تزال طازجة
على الرغم من الجهود التي بذلها سبعة شبان إريتريين هربوا من الحروب الأهلية والفقر في بلادهم ليجدوا أنفسهم في أيد غير أمينة طلبت من أسرهم فدية، ولكنهم بالطبع لم يتمكنوا من الدفع.
ويواصل “س” مفاخرًا بتجارته الأخيرة: “لقد تركت الاتجار بالبشر منذ وقت طويل. لم يعد حصريًا، ولم يعد يدر دخلًا كالسابق، وكثيرون يجعلونه صفقة صعبة الآن. كل طرف يريد نصيبه، هؤلاء المتصارعين الأن كلا منهم يريد نصيبه “.
سألني “هل تعرف مدى قربنا من إسرائيل؟”، فأجبت: “أخبرني”. دخلنا المبنى الرئيسي وذهبنا مباشرة إلى الطابق الرابع حيث السطح. قال لي: “أترى الكشك الأبيض هناك؟” مشيرًا إلى كشك صغير يبعد أقل من 3 كيلومترات، “إنه نقطة تفتيش إسرائيلية،” مضيفًا أن “أقرب نقطة تفتيش مصرية تبعد 15 كيلومترًا عن هنا. على أي حال الإسرائيليون ألطف وأكثر مهنية بكثير”. بقيت أنظر حيث أشار، وخطرت في بالي آلاف الأسئلة. لم أطرح أيًا منها. تلك لم تكن مهمتي، وقد أدركت من البداية أنه سيقدم فقط المعلومات التي يريد. هو يعرف أنه رجل ميت.
قال: ” تفضل بالجلوس”، ثم غادر السطح وسمعته ينادي شخصًا لا يتكلم العربية جيدًا ليجلب لنا الشاي.. عبد الله نحيف وطويل القامة وأسود. بدا منهكًا، وهو يقدم لنا الشاي وعيناه في الأرض لا تنظران إلينا. لم أحتج كثيرًا من التفكير لمعرفة أنه أحد “الأولاد الفقراء”. قبل أن يغادر سألته هل هو واحد منهم؟ فأجاب “ربما”. سألت الشاب: “من أين أنت”؟
بعد أن أخذ موافقة بعينه من (س) نظر إلي وبدأ التحدث لذلك لم أكن بحاجة إلى طرح مزيد من الأسئلة وانشغلت بالتقاط صور له ولأصدقائه الذين انضموا لاحقًا. قال “أنا لا أريد العودة، سوف يقتلونني. لا أعرف كيف وصلت إلى هنا”، محاولًا إخفاء دموع فرت من عينيه وهو يتذكر لأول مرة كل التفاصيل المرتبطة بالألم الذي عانى منه. وأردف: “كنا 300 في البداية، ماتوا جميعًا”.
ويصف أنكيل – أحد الذين انضموا إلينا – تجربة تعذيبه قائلًا: “بدأت بإلقاء القبض علينا ليضعونا في نهاية كل يوم في صندوق كبير حيث يتم توصيل أسلاك كهربائية إلى رؤوسنا ورقابنا”. جهد الشاب، وهو في الثلاثينات من العمر، في إخفاء دموعه عندما تذكر ضربه بسوط سوداني “حتى صرت أنزف”.
قال يوسف الذي ساعد في ترجمة حديث أصدقائه الذين لا يتكلمون العربية: “حاولنا التواصل مع منظمات حقوق الإنسان بعد هروبنا من قبضة العصابة، ونحن ننتظر ردهم لإعادتنا إلى بلداننا”.
وأضاف: “كنا قرابة 300، ووصلنا الآن إلى 40 شخص فقط. توفي كثير منا ودفنوا في الصحراء، عقب أخذ بعض الأعضاء من أجسادهم وبيعها. لقد رأيت ذلك بأم عيني”. “هذا يكفي”، قال س، “يجب أن تغادر الآن. الوقت يقترب من الرابعة عصرًا. حظر التجوال هنا مختلف”.