أعمل مصورًا صحفيًا في القاهرة ووضعي على ما يرام.

أعرف أن هذا يبدو غريباً ومضحكاً وربما مثيراً للسخرية، بل تبدو كعبارة وردت في كتاب تاريخ. لكن دعونا نرى السبب، أو ربما نعيد تعريف عبارة “على ما يرام”.

عرفني أحد الأصدقاء قبل أيام على شخص ألماني، تبين أنه محرر صور لدى مطبوعة أوروبية كبيرة يقوم بزيارته الأولى لمصر، وجرى هذا الحوار بيننا:

الصديق: أقدم لك صبري خالد يا فريدريش. مصور صحفي يعمل هنا.

فريدريش: حقاً؟! هنا؟ كيف تستطيع كسب رزقك؟ ممنوع تصوير كل شيء تقريباً.

أنا: يسعدني لقاؤك يا فريدريش. مممم. إنها حكاية طويلة، لكن دعني أوضح لك المسألة.

في مصر، قد تكون محظوظاً، وإذا كنت كذلك عليك أن تشعر بالامتنان لأنك لا تدري أبداً متى سيتخلى الحظ عن الوقوف في صفك، إن وجد أصلًا.

اتخذت قبل عشر سنوات أهم قرار في حياتي عندما تخليت عن مهنتي القديمة كطبيب أسنان وجراح فكين العمل في الصحافة. عندما أُسأل عن السبب لا أعرف في العادة ماذا أجيب. إلا أنني وعلى مر السنين تبنيت جواباً يقول: “ببساطة، لم أكن سعيداً بعملي كطبيب في جزء من صعيد مصر لا يتوفر فيه شيء أساعد به الناس ممن يفترض أن أعالجهم ففضلت بدلاً من ذلك.. أن أنقل أخبارهم.”

جن أبي وأمي، وهما من ميسوري الطبقة الوسطى، لهذا القرار. وزملائي أيضاً لم يستوعبوا الأمر. لم أكن أنا واثقاً مما أفعله. بدأت أطرق أبواب الصحف اليومية المصرية. لكن، وبصراحة، من سيوظف طبيب أسنان؟ أين هو الشخص الذي سيقوم بتدريب طبيب أسنان لم يحصل على أي تعليم جامعي على العمل مراسلاً صحفياً، خصوصاً وأن الصحف المستقلة الجديدة كانت تجهد للحصول على موطئ قدم إلى جانب صحف ومجلات مبارك المملوكة للدولة. لم أجداً أحدا يفعل ذلك. كنت أتوقع هذا، لكني مع ذلك حزنت.

مر شهران وبدأت مدخراتي تنفد. لكن ومع أنه لم تكن لدي خطة لما أفعله فقد عرفت شيئاً واحداً: كنت أريد أن أصبح صحفياً ينقل أخبار الناس، للناس. هكذا وبكل بساطة. كان هذا هو ردي على صحفي قابلني بصورة غير متوقعة وأصبح فيما بعد رئيسي في العمل، وبينما كنت أشتري علبة سجائر بعد يوم مضنٍ مليء بخيبات الأمل. سألني: “أنت طبيب أسنان، فلمَ هذا التغيير؟ يفترض أنك تجني من مهنتك هذه مالاً كثيراً.”

هناك اثنان من الإعلاميين المحترفين سوف أبقى مديناً لهما إلى الأبد ومحظوظاً للتعرف عليهما. أولهما جيري، المراسل الأجنبي الذي أمضى 20 سنة في الشرق الأوسط وكان دليلي إلى عالم الصحافة. وقد تولى تدريبي لأكون مراسلا اقتصادياً، ثم ساعدني في إعداد تقارير إخبارية عن الشؤون المحلية توليت التقاط الصور لها بكاميرا صغيرة غير احترافية. وعندما لاحظ أني كنت أحاول أن أنقل من خلالها القصص الإخبارية التي كنا نعمل على تقديمها ساعدني في الوصول إلى كبار العاملين في التصوير لدى المكاتب الشهيرة في الولايات المتحدة. وهذا ما فتح أمامي مرة أخرى نافذة ساعدتني في البحث عن المعرفة والخبرة التي كنت بحاجة إليها. كان ذلك حلماً أخذ يتحقق. بعد ذلك، طلب مني مصور صديق شراء كاميرا حديثة لأن أهمية الصورة تضاهي أهمية النص في عصرنا. وبدأت التركيز على التصوير بشكل أكبر.

للعمل مع وسيلة إعلامية أجنبية بعض الامتيازات، مثل الوصول إلى أشياء لا يستطيع الصحفيون المصريون الوصول إليها عادة، والأهم هو المعاملة أي كيف يُعاملك زملاؤك أو مصادر أخبارك أو حتى المسؤولون الحكوميون. وأيضًا، الأجر الذي حصلت عليه كان جيداً، مع أني لم أدرك ذلك إلا بعد بضع سنوات. لم تكن هناك في ذلك الوقت حسبما أذكر، قصص إخبارية نتردد قبل الكتابة عنها. كنت أظن أن هذه هي القاعدة.

لكن الثورة قامت فجأة، وشعرت أن علي أن أكتب بالعربية بدلاً من الانجليزية، وأنه ينبغي أن تتاح للمصريين رؤية صوري وليس للأمريكيين فقط أو الآخرين ممن يرتادون فنادق الخمس نجوم، هذا إن كلفوا أنفسهم عناء إلقاء نظرة على الصحيفة.

يمكنني القول إن مسيرة عملي بدأت حقاً مع الثورة. كان كل شيء متاحًا للتصوير والجميع منفتح على التحدث عن نفسه. وبرأيي المتواضع، كان العصر الذهبي للصحافة. كان زمناً عظيماً حتى من الناحية المالية. بدأت أتعاون مع وكالات ومجلات عالمية، لكن ذلك لم يكن سهلاً كما يبدو الأمر الآن لأنه في الواقع لم يتدرب أحد على “تغطية ثورة”، حتى أنا. فالتدريب الوحيد الذي تلقيته على هذا النوع من العمل كان من الثورة نفسها. أدركت هذا بعد أن رأيت زملاء آخرين يأتون من الخارج ومعهم كل الأجهزة والمعدات الخاصة، كالسترة الواقية من الرصاص. لكن ذلك لم يمنعني من المحاولة.

إذا كنتَ مصوراً تعمل لدى مطبوعة عالمية ولو بشكل مستقل، فصدقني ستكون من النخبة بين العاملين. بهذه العقلية، جمعت لأول مرة ملفاً من 30 صورة في منتصف عام 2012 وذهبت للقاء الشخص الثاني الذي غير مسار حياتي. أتعتقد، من خلال ما قرأتَه حتى الآن، أني أعلم أي شيء؟ كلا، التعلم الحقيقي سيأتي لاحقاً. لقد كنت أمياً بكل معنى الكلمة. وعندما أفكر الآن بالماضي، أعتبر أني أصبحت مصوراً صحفياً بعد ذلك، لكن حتى ذلك الوقت لم أكن كذلك.

في مكتب صغير لصحيفة يومية مصرية خاصة هي الشروق، التقيت لأول مرة برندا شعث التي كانت يومها كبيرة محرري الصور. ألقت نظرة سريعة على صوري ثم سألت: “أنت طبيب أسنان؟ مممم، الأفضل لك أن تبقى كذلك. لماذا تريد أن تصبح مصوراً صحفياً؟” لم أجب. فكرت قليلاً بدلاً من ذلك وقلت: ” أريد أن أصبح مثل جيمس ناشتوي.” فردت: “حسناً. يمكن أن أتيح لك الفرصة، شهر للاختبار، وأدفع لك 500 جنيهاً.” وافقت دون تفكير وغادرت المكتب واعداً بالعودة إليه عند التاسعة من صباح اليوم التالي. أدركت وأنا في طريق العودة إلى البيت أن الأجر هو عُشرُ ما كنت أكسبه من قبل. بماذا كنت أفكر؟

أفضل تعليم تلقيته كان وجودي مع مصورين الصحيفة الرائعين في مكتب واحد طوال سنتين لاحقتين. فقد استفدت من تنوع خبراتهم ومن رندا نفسها التي نصحتني من البداية بالعمل في مشروع أساسه الدافع الذاتي. كنت محظوظاً جداً لتواجدي وسط تلك المجموعة لأنها خففت من قسوة الوسط الذي عملنا فيه: فمن المعتاد أن يُعامل المصورون الصحفيون المصريون كملحقات غير أساسية دون توفير أي معدات أو تدريب لهم. بل حتى الصور التي يلتقطونها لا تُعامل كما ينبغي عند الطباعة. كانت التجربة العملية هي الشيء المعاكس تماماً لما اعتدت عليه. وكان هذا يحدث في أفضل مختبر للصور في مصر.

انتهى العصر الذهبي للصحافة حينها مع نهاية عهد الرئيس الإسلامي محمد مرسي. لكن حماية المجموعة والمشروع الذي أعمل فيه استمرت. وقد تعلمت أن الخبر الذي يحمل الأهمية بعيد كل البعد عن عملية نقل الأخبار اليومية العادية المعتادة، والتي أخذت بدورها تتعرض للرقابة أكثر فأكثر.

كنا محظوظين بعملنا مع رندا لأنها قدمت لنا خبرة 30 سنة من المعرفة والصلة بأصحاب النفوذ. كانت تدفعنا إلى أفضل الأداء وإلى السعي وراء قصص إخبارية وأساليب أفضل في ميدان نقل الأخبار بصرياً. وأدركت مرة ثانية أنني محظوظ جداً.

في صباح 4 نوفمبر 2013 ذهبت إلى المكتب في الثامنة صباحًا لأخذ معداتي والتوجه إلى المبنى المؤقت للمحكمة في أكاديمية الشرطة حيث سيظهر مرسي أمام الجمهور لأول مرة منذ الإطاحة به. أذكر ذلك جيداً، لأني أذكر الحشود من أنصار مرسي والسيرك الإعلامي الذي أتى لتغطية ذلك الحدث الهام. كنت على وشك مغادرة المكان بعد خمس ساعات من إطلاق الرصاص المتواصل عندما أدركت أن الناس كانوا يتعاملون بشيء من العدوانية مع كاميرات التصوير. والسبب هو أنهم اعتبروا رجال الإعلام جميعهم داعمين للانقلاب حكماً. انتبهت إلى أنهم يحاصرونني في محاولة لانتزاع الكاميرا. أذكر أني تمسكت بها بقوة وسقطت على الأرض وهم يضربونني على كل جزء من جسدي، لكني لم أتح لهم أخذ الكاميرا أبداً. الشيء الذي أذكره بعد هذا هو أني وجدت نفسي جالساً في المكتب وزملائي يحيطون بي وأنا ما زلت متشبثًا بكاميرتي المحطمة. ولأول مرة، شعرت بالخوف من الخطر الذي يمكن أن يحيط بهذه المهنة.

تبع ذلك سلسلة أحداث مؤسفة، ليس بالنسبة لي فقط بل للبلاد كلها وللصحافة المحلية. تعرضت للاعتقال والضرب وكاد الجيش يقتلني في قافلة سيناء أثناء تغطية الحرب التي كانت ما تزال مستمرة مع “الدولة الإسلامية”، وإثرها نُقلت إلى القاهرة.

تركت الجريدة اليومية لعدم وجود شيء أنقل أخباره، ولن يسمح لنا أحد أن ننقل أية أخبار. أصبحت الأمور خطرة بالفعل وبدأنا نسمع عن اعتقال الصحفيين والمصورين وقتلهم أحياناً أثناء العمل. ولم تستطع صحفنا أن تفعل أي شيء ولم يعد هناك من يوفر لنا الحماية.

بدأت أتعاون مع أسوشييتد برس على أساس أكثر انتظاماً كمصور صحفي مستقل دون التمتع بأي حماية على الإطلاق ودون تغطية قانونية أو بطاقة صحفية أو معدات. وفرت أنا كل شيء واعتمدت على نفسي تماماً بحسب خبرتي. وكلما سمعت عن خبر أذهب لتصويره وأخرج من المكان بأسرع ما يمكن. لكن للأمانة، الحال هو نفسه حتى لو كنتَ مصوراً ضمن طاقم صحيفة مصرية.

والآن، وبعد بضع سنوات من العمل مصوراً صحفياً مستقلاً، نادراً ما أغطي أخباراً لصحيفة يومية مصرية. أنا لا أحمل أي وثيقة صحفي. بطاقة هويتي تقول إني طبيب أسنان، وأنا لا أتمتع بأي دعم من نقابة الصحفيين عند وقوع أي مشكلة. لم أحصل على أي عقد عمل موثق حتى عندما كنت أعمل بدوام كامل. لكن لدي وقت للعمل في مشاريعي في التصوير الصحفي ذات الدافع الذاتي والتي أعتبرها جوهر مهنة الصحافة. كما شاركت في تأسيس تجمع مع الأصدقاء في الصحيفة للعمل في مشاريع طويلة الأمد لإعداد أفلام وثائقية.

أنا ممتن فعلاً للعمل بشكل مستقل ولست آسفاً على أي عروض عمل رفضتها. كسب الرزق ليس أمراً سهلاً طبعاً، لكني أحاول الاستفادة من الوسائل التي جمعتها على مر السنين في التعلم وكسب الرزق. تعلمت معتمداً على نفسي طرق التصوير ومونتاج الفيديوهات. أخرجت وصورت فيلمي الوثائقي الأول. عملت على إنتاج قصص إخبارية كان لها تأثير علي. وأمضي معظم أوقاتي حالياً في مساعدة العاملين في المونتاج أو تصوير القصص الإخبارية أو المشاريع.

وخارج كل ما ذكرته أعلاه، أمضي ما يتبقى من وقتي في الجامعة أدرِّس التصوير الصحفي لطلاب الإعلام في الجامعة البريطانية في مصر. أحاول أن أقدم لهم التعليم الذي كنت محظوظاً بالحصول عليه من مدرسيَّ وزملائي لأنه ليست هناك طريقة أخرى يحصلون بها على نفس التعليم هذه الأيام.

لقد أتاح لي العمل مستقلاً فرصة اكتشاف قدراتي. وأعمل الآن على كتابي الأول عن فن التصوير، وأنفّذ مهمات تصوير لمجلات ووكالات دولية، وأحضّر لتنظيم معارض لأعمالي. أتمنى العودة إلى التقاط الصور الصحيفة، لكن من سيحميني؟

ووالداي؟ إنهما يحبان ما أقوم به الآن، فهم يزورون معارضي ويقدمون لي الدعم الذي أحتاج.

لذلك، صدقني يا صديقي فريدريش: كان من الممكن أن يكون الوضع أسوأ.

 

  • الصور المنشورة من أرشيف المصور