الطريق إلى الجنة أسهل.. هكذا ردّ ساخرًا حينما سألته عن التعيين في الجريدة والالتحاق بنقابة الصحفيين.

كان رده مفاجئًا وظننته يائسًا أكثر من اللازم، كان أقدم مني في جريدة التجمع اليسارية، ويعمل في مهنة الصحافة منذ عام تقريبًا قبل أن ألتقيه ويقدمني إلى مديرة التحرير كمتدرب، لم أكن أعرف غيره في المهنة التي أعمل بها منذ كنت طالبًا في السنة النهائية لكلية أصول الدين بجامعة الأزهر عام 2003.

كنت أقرأ بنهم ولديّ فضول للمعرفة وأجيد الكتابة، ولهذا اخترت مهنة الصحافة لأنها تتناسب مع ما لديّ من مهارات، حينها لم أكن أعرف شيئَا عن الصحافة دراسة أو مهنة. بالطبع كنت أعمل بلا أجر وبلا عقد وبلا أمل في كليهما، كانت جريدة التجمع دورية أسبوعية صغيرة يرأس مجلس إدارتها حينها عضو مجلس الشعب الراحل أبو العز الحريري، ولم تكن تحقق أرباحًا وتدار بشكل نضالي توعوي أكثر منها تجاري، وتعبر عن حزب معارض، من غرفتين صغيرتين في مقر الحزب الرئيسي بالقاهرة.

بعد شهور من التدريب، أصبحت أكثر احترافية، تعلمت بالممارسة ومساعدة الزملاء كتابة الخبر والتحقيق وإجراء الحوار وجميع فنون العمل الصحفي، وبعد ذلك قررت أن أبحث عن كتب كليات الإعلام والصحافة لأتعلم منها واكتشفت أن الدراسة الأكاديمية مختلفة عن ممارسة المهنة وأقل تطورًا، وعرفت لماذا لا تشترط هذه المهنة خريجي الصحافة فقط للعمل.

كانت نقابة الصحفيين لا تقيد في جداولها إلا الزملاء المعينين في جرائد مرخصة من المجلس الأعلى للصحافة ولديهم أرشيف صحفي وتضعهم في جدول المتدربين لمدة سنتين، وهي شروط غريبة: أن تعمل أولًا كصحفي في جريدة فترة يمكن أن تستمر سنوات، ويتم تعيينك، ثم نعترف بك كصحفي، وهي تشبه الانضمام إلى الجماعات السرية يجب أن يرشحك شخص ما داخل الجماعة ثم تثبت ولاءك ثم تصبح عضوًا بالجماعة.

ولا يعترف القانون بممارسي مهنة الصحافة إلا من خلال القيد بالنقابة، وتدريجيًا تحولت شروط القيد في النقابة إلى قيود تمنع ممارسي المهنة من الانضمام للنقابة التي يجب أن تدافع عن كل المهنيين ضد تعسف الإدارة لا يمكنها أن تدافع عن صحفي غير نقابي يطالب بحقه في التعيين، كما أن كل زميل غير نقابي يمكن أن يلقي القبض عليه وتتم محاكمته بتهمة انتحال صفة صحفي.

ونقابة الصحفيين تقدم الحماية القانونية لأعضائها، بالإضافة إلى مميزات نقابية أخرى أهمها ميزة مالية وهو بدل التكنولوجيا، وهو ما يساعد الزملاء على ضعف رواتب الصحف، كما تستغلها إدارات الصحف كوعد مالي لغير المعينين ليستمر استغلالهم وليتحملوا الأوضاع المالية السيئة بالجريدة .

كان سوق المهنة قبل 2004 مختلفًا تماما عما بعدها، كانت الصحف المرخصة من المجلس الأعلى للصحافة محدودة وهي ما يمكن من خلالها قبول الزملاء كأعضاء في نقابة الصحفيين وهي الصحف المقيدة أيضًا بالنقابة، وعلى الجانب كانت الصحف الأجنبية التي يصدر ترخيصها من الخارج تحرر وتطبع من داخل مصر وكان الصحفيون يطلقون عليها ” الصحف القبرصية” لأن أغلبها مرخص من قبرص بما يوازي 5 آلاف جنيه، لكنها تصدر من مصر ولأنها تعتبر صحف أجنبية تراقبها هيئة الاستعلامات قبل الطبع وتحذف ما تراه غير مناسب.

وكان أغلب الصحفيين يعملون في الجرائد المرخصة من المجلس الأعلى للصحافة بلا أجر لسنوات أملًا في التعيين ودخول النقابة، وأحيانًا تجبرهم الجريدة على دفع تأميناتهم بعد التعيين، وأحيانًا أخرى يدفعون للجريدة مقابل الموافقة على الالتحاق بالنقابة، وكان عليهم أن يعملوا في “الصحف القبرصية” أو يراسلوا صحفًا عربية ليحصلوا على رواتب، أما الصحف القومية فكانت مغلقة تمامًا بالواسطة أو القرب من السلطة.

كان معظم الصحفيين تحت واقع الأزمة يخضعون لابتزاز رؤساء مجالس إدارات الصحف ومجالس التحرير سواء بتقديم مواد صحفية غير مهنية أو مخالفة للمعايير الأخلاقية للمهنة، وفي سبيل التعيين والالتحاق بالنقابة كانوا يتقربون من الإدارة أكثر أو على الأقل لا يغضبونها، ويقدمون موادهم الصحفية مجانًا.

في 2004 أيضًا سمحت الدولة بترخيص صحيفتين يوميتين هي نهضة مصر والمصري اليوم، ورغم ما أشيع حولهما إلا أنهما كانتا مخرجًا من أزمة السوق المحدود، استوعبتا الصحفيين وأصبحت المعادلة مختلفة في السوق يمكن أن يعمل الصحفي بأجر معقول في جريدة واحدة ويحصل على التعيين ويلتحق بالنقابة، حدثت انفراجة لكنها لم تكن كافية.

في منتصف 2005 أسس عدد من شباب المهنة حركة ” صحفيون بلا نقابة” هدفها البحث عن سبيل لتشكيل تنظيم موازٍ لنقابة الصحفيين يضم الزملاء خارجها لحمايتهم والاعتراف بهم، كنا متحمسين وحاولنا عرض مطالبنا بتحقيقات صحفية في الصحف التي نعمل بها للضغط على النقابة والنظام لتغيير شروط الالتحاق بنقابة الصحفيين.

لم يستطع بعضنا نشر أزمتنا في الصحف، لكن انضم إلينا عشرات الصحفيين نبحث عن حلول قانونية للحركة لتتحول إلى كيان قانوني، وكان المحامي الراحل أحمد سيف الإسلام يقدم لنا الدعم القانوني وفتح لنا مركز هشام مبارك لعقد اجتماعاتنا، لكن بعد فترة فتر حماسنا، لكن الفكرة ظلت وهي أساس نقابة الصحفيين المستقلة الآن.

في بداية 2006 عرض علىّ رئيس تحرير التجمع أجرًا رمزيًا كل شهر ووعد بالتعيين ودخول النقابة بشرط أن أترك الصحف الأخرى التي أعمل بها، وبالفعل بعد شهور تم تعييني وعدد من الزملاء لكن النقابة رفضت دخولنا لأننا معينون على الجريدة الثانية للحزب وليست الأساسية “الأهالي” ودخلنا في مفاوضات سكرتير النقابة يحيي قلاش في ذلك الوقت وتدخل أكثر من طرف في الأزمة لكنه رفض رغم توافر شروط الالتحاق.

أغلقت الجريدة التجمع بسبب الأزمة المالية في نهاية 2006، وانتقلت إلى جريدة البديل وعينت بها في أوائل 2008 ، والتحقت بالنقابة نهاية العام نفسه بعد إضرابي عن الطعام أنا و9 من زملائي بسبب رفض النقابة دخولنا بحجة أن عددنا كبير على جريدة جديدة، وفي النهاية استجابت النقابة للضغوط وقررت منحنا العضوية بعقد لجنة قيد استثنائية.

ما بين بداية عملي بالصحافة في 2003 وحتى انضمامي للنقابة في 2008 ، 5 سنوات كنت أعمل بلا حماية أو اعتراف قانوني أو مظلة نقابية، وبلا أجر جيد معظم الوقت، كان يمكن أن أترك المهنة تحت ضغط المعاناة مثل زميلي الذي قدمني إلى مديرة تحرير التجمع وبعد سنوات فقد الأمل في الالتحاق بالنقابة فترك المهنة ويعمل في مركز حقوقي كباحث.

في كل شركة أو مؤسسة يتم تعيينك أولا بناءً على خبرتك ومؤهلاتك إلا في المؤسسات الصحفية، تعمل أولًا فترة طويلة في أي جريدة ثم يتم تعيينك، تظل بلا حماية أو اعتراف حتى تثبت ولاءك، في كل مؤسسة ستجد زملاء يعملون بلا عقد ولهذا يتم استغلالهم علنًا أو ضمنًا، رواتبهم أقل دائمًا مما يقدمونه من مواد صحفية أو جهد أكثر، الأمل في التعيين والالتحاق بالنقابة يدفعهم لتحمل أوضاع أحيانًا تكون بالغة السوء، أغلبهم يواجهون في التغطية الميدانية ما يستحق حماية أكثر من المعينين الذين لا يتحركون من المقر الرئيسي بعد أن تم استهلاك طاقتهم قبل التعيين.

تصوير: صبري خالد