كيف يمكن أن ننتقل إلى الكتابة عن الكواليس، عما يحدث وراء النصوص المنشورة على المواقع أو مطبوعة على أسطح المجلات. أسرار المهنة التي نتعمد أن نخفيها عن القراء، هذا التاريخ الشخصي، رؤيتنا لعملنا هل يريد أحد أن يعرفها !؟

مثل الماء

المسألة ترتبط بكوننا لا ننتبه لأهمية تفاصيل المهنة وحكاياتها السرية لأننا نغرق في بحارها الموحلة سواء كانت أمواجها رائقة أو هادرة. ومن ناحية أخرى تتسرب الصحافة مثل الماء في حياة الناس.

مهنة غير محسوسة يعتاد الناس على وجودها. يجعلها القارئ في بعض الأحيان مجازًا، حيث يتداول معلوماتها بعدما يجردها من نسقها لتصير نقاطًا وأفكارًا شيقة ومكثفة يتلوها في جلسة خاصة أو دردشة ساخنة.

رغم أهمية الصحافة وأدوارها في نقل المعلومات وتدقيق المعرفة وتحليل المعطيات إلا أنها لا تزال مجرد عامل محفز أو عمل مساعد. نُطالب بمكاسب ومزايا لتسهل لنا مهماتنا، لكن لا أحد يهمه هذه المهنة. المادة الخاصة بمهنتنا وحكاياتنا معها لا تشغل القارئ، ولا تشغلنا نحن كذلك.

السطور القادمة ستكون عن كواليس حياة صحفي، دَرَسَ الصحافة بأكاديمية أخبار اليوم وعمل بجريدة أخبار الأدب منذ العام 2004، قبل تخرجه. يتنقل بين تجربة وأخرى، لكنه لا تزال الصحافة مهنته ببطاقة الهوية.

مشاعر مهنية

ربما لم تسمح لي الظروف من قبل أن أعبر عن الحب، الولع، الهيام بهذه المهنة، ربما لأن الصحفي ينشغل بالعمل، يبحث عن زوايا جديدة لموضوع شغله دون أن يلتفت لطريقة شغله، ربما لأننا لا نهتم بمشاعرنا كثيرًا ونحن نكتب بقدر ما ننشغل بعرض الأفكار بشكل أوضح.

كان الراحل جمال الغيطاني (1946- 2015)، مؤسسس هذه الجريدة 18 يوليو/ تموز 1993، حينما يريد أن تتناول الجريدة حدثًا عامًا يتحدث عنه. كان يبدو قلقًا للغاية كأن هذا الحدث يهزه، لكنه يردف قائلًا: نعمله بطريقتنا.

سمح الغيطاني بفتح هامش مختلف داخل المؤسسة لتكون الجريدة المعنية بالأدب مُعبرة عن آراء كانت مرفوضة في الجريدة اليومية الأبرز لمؤسسة أخبار اليوم “الأخبار” المملوكة للدولة. مسألة الملكية معقدة بعض الشيء، يفترض حاليا تبعية الجريدة، والمؤسسة الناشرة لها، لمفوضية الصحافة والإعلام، لكن هذا الكيان لم يُشكل بعد.

منذ تأسيسها كانت أخبار الأدب منبرًا يعبر، في أغلب الأحيان، عن آراء المثقفين المعارضة في هذا الوقت لسياسات الدولة الرسمية. تقدم  توجها محافظًا لمعارضة السلطة، مسألة أقرب إلى النقد المقبول، دون أن يسبب ذلك الكثير من الإزعاج لأحد.

نقد في زاوية ثقافية هادئة، وهو أمر يحتاج لشرح: كانت مسألة وجود طريقة مختلفة لتناول الجريدة لأي حدث أمر بديهي في الصحافة، لابد أن تكون هناك زاوية جديدة لكل حدث، لكن الروائي الكبير، رئيس التحرير لـ 17 عامًا، كان يصر على أمر آخر ألا وهو أن ينتهي دخولنا/ بحثنا في حدث مرتبط بالشأن العام بنتيجة محددة مسبقًا، زاوية محددة لا تمس السياسة بشكل نقدي كبير، لكنها تحمل توجهًا معارضًا إلى حد ما.

حينما ترك الغيطاني الجريدة، قبل شهر من اندلاع ثورة 2011، كنّا على موعد مع اختبار حقيقي لعلاقة كل محرر بهذه الجريدة.

مع قدوم رئيس التحرير الجديد كنّا نقضي الأيام الأولى من زواجنا منى المصري وأنا، بينما تندلع الثورة. كنّا نتابع وصول الاعتصام إلى ميدان التحرير، ثم جائتني مكالمة من الجريدة تطلب مني حضور ندوة للكاتبة الكويتية سعاد الصباح في معرض القاهرة الدولي للكتاب، والذي تم إلغاؤه من الأساس، بعد يومين من مهمة شهر العسل الصحفية!

وسيط حيوي

مررنا بمرحلة إنتقالية مثيرة. عبّرنا عن مواقف ثورية، حيث رفضنا استمرار رئيس التحرير الذي لم يكن على مستوى اللحظة. مع اشتعال الأحداث قمنا باختيار هيئة التحرير بأنفسنا، وفرضنا ذلك الاختيار على المؤسسة والمجلس العسكري الحاكم للبلاد وقتها عبر اضربنا عن العمل لأشهر. تم إبعاد رئيس التحرير المُعين قبل الثورة، وجاءت الكاتبة عبلة الرويني كرئيس تحرير..هكذا دخلنا تجربة جديدة.

كانت اللحظة الثورية تؤثر بقوة في الصحافة المملوكة للدولة في السياسات التحريرية بشكل بارز مع مكتسبات مثل دخول كًتّاب جدد وأسماء كانت مستبعدة لأروقة التحرير وإبراز مقالات على صفحات كانت مكرسة لكًتّاب أعضاء في الحزب الوطني المنحل. بينما كانت الجريدة تعبر عن روح جديدة. نهج سياسي يطوّر “طريقتنا” بشكل لا ينحاز لتوازن صريح مع أداء قادة المرحلة الانتقالية، لكنه لم يحمل كل شغف وزخم التغيير المطلوب وقتها.

مع دخول المرحلة الثورية في محاولات التأسيس لحكم مدني ضد إرادة المجلس العسكري وطريقته المزرية في إدارة البلاد كنا نشهد نهايات المرحلة الانتقالية لهذا النموذج الحيوي من الصحافة.

مع الوقت كنّا نكتشف هشاشة التجربة. تمّ استبعاد الرويني وحضر رئيس تحرير جديد، سرعان ما بدأ في السعي إلى مديح السلطة الجديدة، التي كانت تتشكل. كان يشبه رؤساء التحرير الموالية لحكومات القصر في روايات نجيب محفوظ السياسية، حيث وضع مجدي العفيفي صور حسن البنا، خيرت الشاطر، ومحمد مرسي على غلاف الجريدة.

وقتها بدا أن النقاش غير ممكن.

خاض الزملاء معارك طويلة النفس من أجل حماية سياسة تحرير الجريدة، لكن يفيد لأن موجة محاباة الأخوان كانت تعلو. مع سقوط تجربة الإخوان، وتكشفنا لهشاشة تجربتنا، صرنا نعيش في واقع مرعب بسبب محاولات السلطة الجديدة السيطرة على المجال العام، جرى ذلك عبر ممارسات خاطئة كثيرة، قيّد المجال العام وعصف بالحريات والحقوق.

في أغسطس دخلنا الفخ

دخلنا الفخ مرتين في أغسطس/ آب.

الأولى في العام 2014، حينما جرى تحقيق داخلي مع زميلنا أحمد ناجي، ومدير التحرير محمد شعير حول نشر فصل من رواية استخدام الحياة لناجي بالجريدة. كانت نتيجة هذا التحقيق منع أحمد من ممارسة العمل لمدة شهر، ومجازاة كل من مدير التحرير ورئيس التحريركذلك بخصمٍ لكل منهما. أما الفخ الأخير فكان في الشهر نفسه من العام 2015 حينما بدأ التحقيق في المسألة نفسها من جانب نيابة بولاق أبي العلا. بدأت خطوات محاكمة أحمد ناجي وطارق الطاهر منذ ديسمبر 2015..هكذا وضعتنا تجربتنا أمام سؤال كبير: كيف نتحدث عن الأدب في حين أن أدب زميلنا كان سبب سجنه لعامين؟

منذ حدث ذلك تمر الجريدة بأزمة، نعيش كابوسًا، نعيش ذنب أننا لم نستطع أن ندافع عن زميلنا.

الآن حينما أتأمّل طبيعة عملي في هذا المكان أجدني مترددًا لا أعرف أن أحدد موقفًا بين التردد والبحث عن حماية.. مجرد جري في المكان لم يغير من الأمر شيئًا، ولن يفعل. أفكر في هذه الروح المحافظة التي تمنع أي شيء أن يكتمل في مصر حتى لو كان ضخمًا مثل ثورة أو بسيطًا مثل بعض الألفاظ ضمن عمل أدبي في جريدة أسبوعية لا تسبب إزعاجًا لأحد.

تصوير: صبري خالد