كان ذلك وقت زلزال 92، بدايات عملي الصحفي، ونصيحة أحد الأساتذة الكبار في ذلك العالم فرضت علي الانطلاق من قسم الحوادث، مطبخ الصحافة.

الزلزال كان مفاجأة قاسية للجميع، الأرض ليست راسخة كما عشنا مطمئنين، نصف دقيقة واحدة هي كل ما تطلبه الأمر لتتساقط بنايات وتتداعى أخرى، وعلى إيقاع ضربته وتوابعه التي استمرت أياما، ترتبك الدولة بأكملها، لم يكن ينقص ملفاتها المتراكمة غضب غير مبرر من الطبيعة.

طلب مني رئيسي وقتها وأحد الأساتذة في عالم الصحافة المشاركة في الإعداد لسلسة من التحقيقات لتغطية الحدث في الشارع، وعلى مدى أسبوع كامل كنت وزملائي من فريق العمل نرصد كل ما يحدث، المشردون الذين يبيتون على الأرصفة، الجرائم، الفساد الرهيب في المحليات، التردي الحكومي في التعامل مع الأزمة، والكثير من القصص الإنسانية.

للآن أذكر الحماس الذي كان يحركنا فننسى الذهاب إلى بيوتنا، نخشى أن يفوتنا موضوع أو صورة تستحق التسجيل، ممارسة حقيقية للصحافة بخلاف العمل الروتيني في المرور على أقسام الشرطة وقاعات المحاكم وكتابة تقارير تافهة لا تقترب بحال من الواقع المرير لمن يضطرون للتعامل مع منظومة العدالة المصرية. 

خلال تلك الأزمة كنا نسأل ونبحث وغرضنا الوحيد: الحقيقة. المقدمات والعناوين وطرق الصياغة للموضوعات لم تكن في حاجة إلى مجهود كبير، بلا مبالغة كان الناس المجهدون والمتعبون في الشوارع يكتبون أنفسهم عبرنا.

لكن ذلك كان له أن يتوقف فجأة. بعد مرور 22 سنة لا زلت أذكر هذا المشهد: رئيسي يخرج من مكتبه إلى صالة التحرير، يطلب بكلمات مبتورة تغيير وجهة النظر في التعامل مع الحدث، يرفض أن يعطي تفسيرا، اكتفى بالرد على إلحاحنا وغضبنا بتعبير تعمد أن ينطقه بشكل ساخر وبشعور ما بالمرارة وكأنه يمرر لنا رسالة ما: الصورة وردية..

ما الذي جرى؟ وبفرض أننا فهمنا كيف يمكننا تحويل صورة ما لتصبح وردية وهي ليست كذلك! فقدنا حماسنا للعمل على الفور، وكان وقتا مناسبا للراحة والتسلي بمراقبة الكيفية التي تتغير بها الحقائق: انتهى الزلزال الشرير بتوابعه وآثاره وعادت الحياة إلى طبيعتها، امتلأت الصحف بتصريحات ومتابعات إخبارية لمسؤولين يصرحون ويؤكدون ويشددون على أن الوضع تحت السيطرة.

بعدها عرفت أنه قد وردت إلى رئيسي مكالمة، لا أعرف ممن، لكني سأعتاد بعد ذلك على تلك الصيغة، المكالمات التي تأتي من جهات غامضة لرؤسائي ورؤساهم، تتدخل في التوجيه والمتابعة والنصح والعقاب في بعض الأحيان. سأعرف أن الصحافة عملية تتدخل في صياغتها عناصر عدة من خارجها، لا يحكمها الكليشيه الشهير “السعي للحقيقة”، كما أن كود الصحافة الذي يتم تدريسه عما ينبغي الالتزام به ليس أكثر من نظرية يتم تطبيقها أو إهمالها حسب رغبة رئيس التحرير.

بعد الزلزال بسنوات انتقلت للعمل بالصحافة الأدبية مسلحا بتجربة الشارع والصورة الوردية، لأكتسب خبرة إضافية، عن جهات أخرى تتدخل، عن صراع المصالح، دور الصحافة في صناعة نجوم لا قيمة لها ليظل المشهد الأدبي والثقافي ثابت ودائر في فلك مجموعة محددة من الأسماء.. قررت يوما أن أجري سلسلة تحقيقات أدبية عن سيطرة جيل الستينيات على المشهد بلا حق، بعده فاجأتني الاتهامات والتي كان مصدرها ناقد أدبي شهير، بأني مكلف من قبل جهة أمنية بهذا التحقيق للإجهاز على هذا الجيل بوصفه حائط الصد الوحيد الباقي ضد تخلي الدولة عن ثوابتها، وأمام تلك الاتهامات، والتي ساندها جيل الستينيات بقوة، كان للتحقيق أن يتوقف وتعود الصورة وردية من جديد.

لكن ما كان خافيا قبلا في كيفية إدارة مؤسسة الصحافة والتدخلات من الأطراف المختلفة أصبح الآن على الملأ. المؤتمر الصحفي الذي أقامه طارق عامر محافظ البنك المركزي للإعلان عن تحرير سعر الصرف يصلح مدخلًا مناسبا للإطلالة على عالم الصحافة في مصر، تحديدًا كيف تنظر السلطة إليها وإلى وظيفتها والعاملين فيها.

أحمد فتيحة مراسل “بلومبرج” الأمريكية لم يحصل خلال المؤتمر على ما هو حق له، رفض محافظ المركزي منحه فرصة السؤال لأنه وبنص كلمات عامر: “أنت لا تكتب حاجة إيجابية عن مصر خالص”، وعلى الأغلب فإن هذه واحدة من أغرب الطرق المعروفة للآن في التعامل مع وسائل الإعلام.

عامر، كما يفترض، هو الرجل المسؤول عن السياسات النقدية للبلاد، ما يعني أن إجاباته لا بد أن تكون كلها علمية ومدعومة بالأرقام وليس اتهامات كانت تستخدم في عصور سابقة وثبت أنها كانت سياسات فاشلة..

الحكومات والمسؤولين في مصر على الدوام لا ينظرون إلى الصحافة إلا باعتبارها صدى صوت لما يقولون، الميكرفون الذي يتحدثون عبره إلى الشعب، وسيلة اتصال ليس من المفترض أن يكون لها رأي، إلا إن كان تأييدا لما يتخذونه من إجراءات.

تظن الدولة الرسمية أن هناك مؤامرات تحاك، وربما يكون هناك بالفعل، المؤامرات على أي حال جزء من عالم السياسة، وساذج من يظن أن بإمكانه إيقافها، والتعامل على أن الفترة التي نمر بها استثنائية ومن ثم لا بد من قواعد خاصة للتعامل معها، وعلى رأس ذلك فرض قيود على الصحافة يعني ببساطة أن كل من يقول رأيا يخالفك هو عدو لك، وكي نكون واقعيين، وحتى لا ننظر إلى الأمور بمثالية فمن التوقع بالطبع أن تكون لبعض وسائل الإعلام أجندة ما بخلاف ما يفترض منها غير أن ذلك أيضا لا يمنح المسؤول مبررات للتعامل معها بخلاف الإلتزام بقواعد الحوار.

ما يظنه طارق عامر على أي حال هو التعبير المختزل والأكثر وضوحا على العلاقة الملتبسة بين الصحافة والسلطة في مصر، منذ ظهرت المهنة، وهي بأشكال مختلفة العلاقة نفسها على المستوى العربي. أن تكون صحفيا يعني ببساطة تبعية شبه كاملة لوجهة نظر السلطة،

ليس مهما هنا حجم الموهبة الصحفية، تلك تأتي لاحقة على الانتماء، بل إنها أصبحت في كثير من الأحيان عائقا أساسيا في الترقي صحفيا، فالمهارة الأساسية في مهنة الصحافة تكمن في الوصول إلى الوقائع والكشف عنها، وذلك على العكس تماما مما هو مطلوب من الصحافة الآن وسابقا: وسيلة تعبوية لحشد الرأي العام تجاه سياسات بعينها.

غير أن الأهم مما تريده السلطة من الصحافة، ما تريده الجماعة الصحفية المصرية نفسها وسلسلة الأخطاء التي وقعت فيها على مدار تاريخها، وتحديدا من بعد قيام ثورة يوليو 1952، فإن كان من الممكن تفهم الرؤية التي تستند إليها السلطة في نظرتها للصحافة، على اعتبار أن ذلك ما قد تقوم به أي سلطة سياسية إن لم تجد مقاومة ما، فإن ما ترتكبه المؤسسة الصحفية المصرية هو الأكثر فداحة وضررا ليس فقط في حق المهنة بل أيضا في حق الوطن بشكل عام، ذلك أني أستطيع الزعم وبثقة أنها لم تتمكن من ترسيخ المفاهيم الأساسية لواجباتها وحقوقها على مستوى السلطة وعلى مستوى الشارع.

مشكلتي مع الصحافة سؤال لم أتمكن من الإجابة عليه للآن ولا أظن أني سأقدر: هل أفسدتها السلطة أما أن بذرة فساد ما كانت كامنة هناك، المهنة التي لم تعد تتطلب أي مواصفات في المنتسبين إليها، لتصبح كما يقال عنها: مهنة من لا مهنة له. وما ينتج عنها يتم وصفه احتقارا: كلام جرايد.

تصوير: صبري خالد