بعد عدة أشهر قضاها فرج في علاج ابنه حمزة المصاب باضطراب طيف التوحد، قرر إقفال ملف الطفل في مركز العلاج بجمهورية مصر والعودة إلى ليبيا. ذلك أن الطفل لم تظهر عليه أية بوادر تحسن رغم أن والده صرف كل ما يملك على علاجه خارج البلاد.

يقول فرج: “قرارنا هذا يعني إجهاض التجربة بالكامل دون أي فائدة للطفل، بل هي خسائر مادية طائلة تكبدّناها على حساب باقي أفراد الأسرة”، فضلاً عن إرباك الاستقرار الأسري الذي تسبب به بعده وزوجته عن بقية أفراد العائلة.

بعد عدة أشهر قضاها فرج في علاج ابنه حمزة المصاب باضطراب طيف التوحد، قرر إقفال ملف الطفل في مركز العلاج بجمهورية مصر والعودة إلى ليبيا. ذلك أن الطفل لم تظهر عليه أية بوادر تحسن رغم أن والده صرف كل ما يملك على علاجه خارج البلاد.

يقول فرج: “قرارنا هذا يعني إجهاض التجربة بالكامل دون أي فائدة للطفل، بل هي خسائر مادية طائلة تكبدّناها على حساب باقي أفراد الأسرة”، فضلاً عن إرباك الاستقرار الأسري الذي تسبب به بعده وزوجته عن بقية أفراد العائلة.

حمزة هو واحد من 200 طفل خضعوا للتشخيص في جمعية طبرق الأهلية للتوحد، منهم 80 طفلاً التحقوا بالجمعية لبدء برنامج العلاج، والبقية لم يلتحقوا إما لكونهم يتعالجون خارج ليبيا أو لتجاهل ذويهم برنامج علاجهم وعدم إلحاقهم بأي مركز متخصص، أو لأنه لم تثبت إصابتهم بالتوحد، بل يعانون من مشاكل أخرى تتشابه في الأعراض معه.

العلاج في الداخل

يقول خليل معيوف رئيس مجلس إدارة جمعية طبرق الأهلية للتوحد إن فقدان المهارات الأساسية لدى أطفال التوحد كالمهارات الاجتماعية واللغوية لن يكتسبها الطفل بصورة مثلى في غير بلده، وفي غير لغته، وفي غير محيطه.

وذلك – حسب قوله – أثبتته دراسة تقدم بها في المؤتمر العلمي الأول لاضطراب طيف التوحد في ليبيا، حيث تستنتج الدراسة أن “علاج طفل التوحد في الخارج يترتب عليه تنمية مهاراته المختلفة باستخدام لهجة تلك الدولة، وهذا له أثر سلبي عند رجوعه لموطنه وأسرته؛ بسبب عدم فهم اللهجة. ما يستوجب إعادة تدريبه من جديد باللهجة الليبية، ما يُعَدْ هدراً للوقت، ويضيع فرصة التدخل المبكر للطفل”.

إضافةً إلى المصاريف التي وصفها معيوف بـ”الباهظة” والتي تتحملها الأسر لعلاج هذا النوع من الاضطرابات، فقد تعامل مع أولياء أمور “باعوا بيوتهم وسياراتهم من أجل توفير مصاريف إقامتهم وتنقلاتهم واحتياجاتهم في الخارج”، أما من يتلقون العلاج على حساب الدولة فهم حسب رأيه يسببون “هدراً غير مبرر للمال العام”.

تكاليف العلاج

وبالحديث عن المصاريف يمكن ضرب مثل بدولة الأردن إحدى البلدان التي يقصدها ذوي أطفال التوحد، وتتكفل الدولة الليبية بمصاريف علاج الأطفال هناك، وحيث المراكز التي تقدم الخدمة هي مراكز خاصة ربحية، تقدر تكلفة علاج الطفل شهرياً بقيمة 1500 دينار أردني حسب أولياء أمور خاضوا التجربة، ولأن سعر الصرف للدينار الأردني يعادل ما قيمته دينارين ليبيين حسب تسعيرة مصرف ليبيا المركزي؛ فإن تكلفة علاج الطفل الليبي تقدر شهرياً بحوالي 3000 دينار ليبي.

وعلى افتراض أن دولة الأردن تؤوي 300 طفل ليبي كحد أدنى – حسب مصادر متطابقة – وتكلفة علاج الطفل الواحد سنوياً تصل إلى 36.000 دينار ليبي، فإن تكلفة جميع الأطفال سنوياً ستبلغ 10.800.000 (عشرة ملايين وثمانمائة ألف) دينار ليبي، وهذا المبلغ الذي يُقدم للحد الأدنى من عدد الأطفال يمكنه أن ينشئ مراكز تخدم أكبر عدد من أطفال التوحد داخل الوطن، وتضمن تفادي السلبيات الأخرى المتعلقة بالبيئة والثقافة و أعباء الأسرة.

تشريعات خاصة

هذا الرأي الذي يشدد عليه معيوف تبناه أيضاً المشاركون في المؤتمر العلمي المقام في طبرق، بمشاركة عدد من المتخصصين والعاملين مع أطفال التوحد في أغلب المراكز العامة والأهلية العاملة في ليبيا، حيث ورد في توصيات المؤتمر المطالبة بتوجيه هؤلاء الأطفال للعلاج بالداخل، والتطوير والرفع من كفاءة وقدرات المراكز الحكومية، و شراء الخدمة من المؤسسات الأهلية شريطة انطباق معايير الجودة على هذه المؤسسات.

عضو مجلس النواب ورئيس لجنة الشؤون الاجتماعية سلطنة المسماري تفاعلت مع التوصية التي تنص على “ضرورة مراجعة التشريعات الموجودة وتحديثها بما يخدم هذه الفئة”، وقالت لـ “مراسلون” إن مسؤولية وضع تلك التشريعات “هي في عنقي بشكل خاص، وفي أعناق كافة أعضاء مجلس النواب”، وأكدت على نيتها في الدفع باتجاه إصدار تشريع يتوافق مع متطلبات الخصوصية لأطفال التوحد، ويحد من إهدار المال العام.

هذا التشريع لو تم سنه سيساهم في رفع كفاءة الخدمات الداخلية ويساعد الأطفال في التقدم ضمن مراحل التدريب التي تنتهي بإدماجهم في نظام التعليم العام، ما يفتح سؤالاً حول مدى استعداد المؤسسات التعليمية للتعامل مع هذه الحالات الخاصة.

الدمج متعثر

“مراد” البالغ من العمر 7 سنوات خضع لمدة أربع سنوات لبرنامج علاج بجمعية طبرق الأهلية للتوحد. بعدها أصبح جاهزاً للاندماج في التعليم العام. يقول والده المرضي عطية (40 عاماً): “يهمني عامل الوقت كثيراً، وأتمنى أن أجد الجو الملائم لدمج ابني الخارج لتوهِ من برامج تعديل السلوك وتنمية المهارات، وأخشى من تعرقل عملية الاندماج الذي قد يعود بنا إلى المربع الأول”.

ومثل “مراد” يوجد بالجمعية عدد ليس بقليل من أطفال اضطراب التوحد جاهزين للاندماج، إلا أن فايزة محمد قادير مدير مركز بنغازي للتأهيل الشامل لأطفال التوحد تخشى من أن يؤدي الدمج إلى زيادة عزلة هؤلاء الأطفال عن المجتمع المدرسي.

ورغم الإيجابيات التي تحدثت عنها قادير لدمج الأطفال والمتمثلة في “إزالة المسميات والتصنيفات عن هؤلاء الأطفال، ما يعطي لهم ولذويهم حالة من الشعور بالمساواة والثقة بالنفس، والتركيز على خدمتهم في بيئاتهم والتخفيف من الصعوبات التي يواجهونها في التكيف والتفاعل والتنقل والحركة”، تبقى هناك سلبيات يمكن حصر أهمها في عدم توفر معلمين مؤهلين ومدربين جيداً في مجال التربية الخاصة في المدارس العادية، الأمر الذي قد يؤدي إلى إفشال برامج الدمج مهما تحققت له من إمكانيات، ويؤدي إلى زيادة الفجوة بين الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد وباقي طلبة المدرسة.

خاصة أن المدارس العادية – حسب قادير – تعتمد على النجاح الأكاديمي والعلامات كمعيار أساسي، بينما أطفال اضطراب التوحد يمكن أن يكون معيار تقييمهم هو “تفريد” التعليم المتوفر في مراكز التربية الخاصة، كما تخشى قادير من أن تفوق المتطلبات المدرسية أحياناً قدرة طفل التوحد وإمكانياته، ما سيساهم عندها في تدعيم فكرة الفشل والمفهوم السلبي عن الذات ويؤثر على حماسه للتعلم.

عملية معقدة

الدمج في المدارس حسب د. ميرفت التارقي، أستاذة التربية وعلم النفس بكلية التربية بنغازي، يتطلب التخطيط الواعي والتنفيذ المناسب لهذه العملية المعقدة والمتعددة الأوجه، حيث لا بد من تشكيل “لجنة خاصة في كل مدرسة مكونة من المدير والأخصائي النفسي، والمرشد الطلابي، ومعلم في برنامج الدمج، ومعلم التدريبات السلوكية، وأخصائي عيوب النطق والكلام، لمتابعة نمو الطفل في الجوانب المختلفة”، بالإضافة إلى غرفة مصادر تتوفر على “أجهزة كمبيوتر، ومقاعد خاصة ومعلمة ظل، ومزودة بكاميرات للمتابعة الدقيقة لما يفوت المعلم، بالإضافة إلى الطلاء الخاص، المنتقى بعناية بحيث لا يشتت انتباه الطفل”.

ولا يبدو أن ثمة خطة قريبة لمثل هذه البرامج وليست من أولويات مكتب الفئات الخاصة بتعليم طبرق؛ الذي تقول مديرته المكلفة نعيمة عقوب إنها تحيل كل حالة فئات خاصة تصل إليها من أي جهة أو مركز تأهيل بكتاب رسمي إلى أقرب مدرسة في نطاق سكنها، وهنا ينتهي دورها، لعدم امتلاكها إمكانيات التعامل مع تلك الحالات.

وهكذا يبقى أطفال التوحد رهينة الحلول الوقتية التي لا تراعي ظروفهم في كل مرحلة من حياتهم، والتي لن يكون حلاً ناجعاً لها إرسالهم باستمرار خارج البلاد دون الالتفات إلى تطوير بنية تحتية داخلية تحتويهم وتلبي احتياجاتهم.