إعداد بسمة مصطفى/ تصوير عبد الرحمن محمد

لم يستلزم الأمر الكثير من البحث من أجل رؤية آثار المأساة التي عبرت على المدينة، حتى بعد مرور ثمانية أيام على انتهاء السيول التي ضربت مدينة رأس غارب ليل الخميس السابع والعشرين من أكتوبر الماضي.

أثناء السير بالطرقات سوف تصل لآذانك أحاديث الأهالي عن هؤلاء الذين ماتوا داخل منازلهم وهم نيام، وعن آخرين لم يستطيعوا الصمود في وجه السيل، رغم محاولتهم للنجاة، وعن بطولات لأناس ضحت بأرواحها من أجل غيرها.

كنا قد وصلنا المدينة في الساعة الثامنة صباحًا، الطريق متصدع ومتشقق، وقفت لنا سيارة يقودها عسكري بالقوات المسلحة قائلًا: “شكلكم صحفيين، تعالوا هوديكم منطقة السيل”.

أثناء جولتنا بالسيارة في المدينة، لم نلمح حياة طبيعية لبشر،ولكن  بيوت مدمرة وآثاث متهالك ملقى على جوانب الطرق، طبقات من الطين تغطي المدينة ومنازلها، صغار وكبار ينزحون المياه من داخل بيوتهم وآخرون جالسون على الأرصفة، شاردة أبصارهم ربما في الدمار الذي حل بهم، أو في المجهول الذي ينتظرهم.

رأس غارب على الورق

بحسب موقع محافظة البحر الأحمر تعتبر مدينة رأس غارب – التي تبعد عن القاهرة ب 370 كيلو تقريبا- “ثاني أكبر مدينة في المحافظة بعد الغردقة –عاصمة المحافظة- وتعتبر من أكبر المدن في مصر لانتاج البترول ويبلغ إنتاجها 67% من إجمالي إنتاج البترول فى مصر.. يعمل معظم سكان المدينة في قطاع البترول والخدمات المساندة له. حيث يعتبر البترول مصدر الدخل الاساسى للمدينة والمحافظة” .

تم اكتشاف البترول بالمدينة عام 1932 عن طريق شركة “آبار الزيوت الإنجليزية المصرية المحدودة”، وهى إحدى فروع شركة “شل” العالمية، وتم حفر أول بئر سنة 1938، يذكر أن الشركة نفسها هي التى اكتشفت حقل الغردقة سنة 1911 ثم حقول سيناء سنة 1949.

يذكر موقع المحافظة أيضا أن المدينة: “لم يكن بها سوى الفنار الذى أنشئ عام 1871 و قد صممه الفرنسى غوستاف إيفل الذى أقام البرج المعروف بأسمه برج إيفل”

لكن يبدو أن تركز البترول في المدينة لم يكن شافعا لها لدى الحكومة لحمايتها من السيول إذ ضربت السيول 6 مناطق بمدينة رأس غارب: جنينة الحاج نور، العبور، محطة الكهرباء، مساكن الـ128، المعاشات، ومساكن الحاج برعي. وأثناء جولتنا بـ”جنينة الحاج نور” هرع الأهالي تجاهنا عندما لمحوا الكاميرا: “انتوا صحفين؟ تعالوا صوروا الدمار الي صابنا”، كُل يريد أن يتحدث عن فجيعته التي أحلت به وبأسرته.

لم يحذرنا أحد!

وحيد سعودي، المتحدث بأسم هيئة الأرصاد الجوية، قال لـ”مراسلون”: “أبلغنا المحافظة قبل حدوث السيل بـ17 يومًا، وأرسلنا بيان تحذيري قبل هبوط الأمطار بيومين” ولفت سعودي النظر إلى امكانية تكرر السيول في الفترة المقبلة، مضيفَا أن المأساة التي حصلت في رأس غارب ستتكرر على الأغلب لأن مجاري السيول غير مجهزة”.

لذا بعد ثمانية أيام من كارثة السيول التي ضربت مدينة رأس غارب، مازال سؤال الأهالي الرئيسي “ليه محدش حذرنا قبل السيل؟” محمد صقر، أحد أهالي منطقة “جنينة الحاج نور” -وهى أكثر المناطق تضررًا- يقول: “المحافظة كان عندها إخبارية بالسيول من هيئة الأرصاد الجوية، ولم ينبهنا أحد، أو يحذرنا حتى المحافظة نفسها لم تستعد لمواجهة السيول وكأن حياة الناس رخيصة”.

ويطرح محمد محمود قاسم، نفس السؤال: “إحنا عاوزين نعرف ليه مكنش فيه تحذيرات للناس، إحنا كنا هنموت بسبب إهمال المحافظة اللي عارفة بالسيل”.

ومازالت الأهالي في انتظار إجابات وافية حول أسئلتهم التي تبدو منطقية.

سبب الكارثة.. طريق جديد

ويبدو أن السيول التي ضربت رأس غارب لم تكن فقط نتيجة لغضبة الطبيعة على المدينة، ولكن الأهالي يرجعون الأمر لسبب آخر إذ يؤكد محمد صقر، على أن مشروع شبكة الطرق الجديدة الذي أطلقه الجيش، هو سبب الأزمة، حيث قامت القوات المسلحة بعمل طريق جديد في الجبل، يربط بين محافظة المنيا ومدينة الشيخ فضل بالبحر الأحمر، مشيرًا إلى أن الجبال كانت مصدات للسيول وللأمطار عن رأس غارب، ولأن الطريق الجديد حُفر وسط الجبال، أدى ذلك إلى حدوث تلك الكارثة في الوقت الذي لا توجد فيه أيضًا مجاري أخرى للسيول وإن وجدت فهى غير مجهزة.

وكان الدكتور جلال، سعيد وزير النقل، قد صرح في السادس من أكتوبر الماضي  أن الجزء الجديد من الطريق الواصل بين الشيخ فضل بمحافظة المنيا إلى رأس غارب بالبحر الأحمر،جاء بطول 55 كم وبتكلفة قدرها 435 مليون جنيه، وتضمنت إنشاء طريق عرضه 6 حارات، وكذلك الانتهاء من تطوير طريق الشيخ فضل – رأس غارب ليصبح إجمالي الطريق بطول 90 كم بتكلفة قدرها 317 مليون جنيه تتمثل في إضافة اتجاه جديد بعدد حارتين ليصبح الطريق بالكامل مكونًا من 4 حارات مع إعادة بناء الطريق القديم بالكامل.

حكايات ومشاهدات ليلة شديدة الأمطار

رضا محمد أحمد، سيدة خمسينية:

“جنينة الحاج نور أكتر مكان منخفض برأس غارب، عشان كده المياة كلها صبت حدانا. أنا مريضة ومبقدرش اتحرك، عندي جلطة برجلي، كنا بنتعشى وفجأة المية زاحت الباب ودخلت علينا، ابني وجوزي شالوني وحطوني على ترابيزة، ولما منسوب المية عليّ، حطوا كنبة فوق كنبة وحطوني فوقهم، وسارعوا في إنقاذ أحفادي، كان ضمنهم طفل رضيع لم يكمل الأربعين يومًا من عمره”.

“الخروج من باب المنزل كان مخاطرة كبيرة، المية بتجري بسرعة  وتجرف من يقف بطريقها، حاولنا فتح باب المنزل الخلفي، ولكن مقدرناش من شدة المياه، الباب به شباك كبير ولكن يغطيه سلك معدني، قمنا بقطعه، وخرج منه زوج ابنتي وبدأ في تناول الأحفاد ووضعهم على السطح، ثم قام ابني بحمل شقيقاته ومساعدتهم على الخروج من نفس الشباك وكذا أبيه، حتى آتي الدور عليا، فأنا عاجزة ولا استطيع مساعداته وتحريك قدامي مثلهم، حملني على ضهره وسار بي وسط المياه وبعد محاولات متعثرة استطعت المرور من شباك الباب، واستقبلني في الجهة المقابلة زوج ابنتي حملني على ضهره وصعد بي للسطح حيث الضلمة وصريخ الجيران وعياط الأطفال”.

أمل منصور، سيدة أربعينية:

“لأن وزني ثقيل، لم يستطع أحد حملي، بس الأهالي ربطوني من وسطي بحبل وشدوني على سقالة، كان ممكن أقع في أي لحظة وأغرق بس ربنا ستر ولسه لينا عمر، خسرنا كل حاجة، جزء من بيتنا وقع من المية والجزء التاني الشروخ أكلته”.

الحاجة سعاد، سيدة خمسينية:

“اخويا اتصل بيا وقالنا اطلعوا على السطوح بسرعة عشان في سيل، يادوب طلعنا وكانت المية كسرت الأبواب ودخلت، فضلنا ليلة كاملة على السطح، نزلنا تاني يوم لقينا البيت كله راح، جابوا لنا حصيرة ننام عليها لان كل المراتب ناخت”.

سمير أحمد على سيد، رجل ثلاثيني:

“وقت السيل، كنا نايمين وصحيت، والمية مغطية جسمي، اتفزعت وصحيت عيالي ومراتي وكل اللي في بالي إنهم ماتوا، جريت بيهم على السطح، وبعدها نزلت أجيب أبويا وأمي”.

“عيالي بقالهم اسبوع بيلبسوا هدوم شحاتة من الجيران اللي عايشين في أدوار علوية لان كل اللى عندنا راح، وبنام عند الجيران عشان مينفعش عيالي يناموا على السطح، هيمرضوا أو هيموتوا من البرد”.

وفاء حامد، سيدة ثلاثينية:

“من ساعة السيل، أمي كل ما تشوفني تقولي وشك أسود، متعرفش إن الخضة شيبتني عشرين سنة.. الساعة كانت 12 بليل وابني اللي عنده سنتين مش عاوز ينام، الحمدلله انه منامش، كان زمنا في خبر كان.. فجأة باب البيت اللي على الشارع اتكسر، والمية غرقت الشقة، سرعتها كانت رهيبة، فكرت أني لو حاولت أخرج للشارع المية ممكن تجرفنا، ملقتش حل غير الصريخ، لغاية ما الجيران في الدور اللى فوقنا سمعوني، ندهوا من البلكونة بتاعتهم، ومسكوا في بعض حتى وصلوا لشباك الأوضة وانقذوا ابني ..أما أنا لفيت ليهم من باب الشقة، يادوب فتحت الباب، شدوني بسرعة على السلم قبل ما المية تسحبني ومن ساعتها عايشين عند الناس لأن حاجتنا راحت”.

موتى مختفين

شبح الموت يخيم على المدينة المنكوبة، لا صوت يعلو فوق أصوات النحيب في سرادقات العزاء.  مستشفي رأس غارب قدرت عدد الوفيات بـ12 شخصًا لقوا مصرعهم أثناء السيل، إلا أن الأهالي يؤكدون أن عدد الضحايا أكبر من الارقام المعلنة، وغير محدد وصعب حصره حتى الآن.

أم بسملة التي فقدت كل آثاث منزلها، وتعيش فقط على الحصير الذي جلبه لها جيرانها، تقول: “السيل جرف الجثث بعيد، عشان كده مش عارفين نوصل لجثامين كل المختفين” مشيرة إلى أنها فقدت زوجة خالها يوم السيل، كانت مع أحفادها وحدهم في المنزل وعند دخول المياه لمنزلها، صرخت حتى سمعها الجيران وتمكنت من تسليمهم الأطفال لهم من خلال بلكونة تطل على الشارع، وعندما عاد الجيران لم يجدوها، وفي اليوم التالي وجدوا جثتها بعيدًا عن منزلها.

وتشير أم بسملة إلى صدمة ابنتها الوحيدة، عندما علمت بأن ثلاثة من زملائها بالفصل غرقوا، قالت لي: “يا ماما كتبي راحت وصحباتي كمان راحوا”. وذكرت أن المدارس قد توقفت لأجل غير مسمى، حيث أن مدرسة ابنتها قد جرفها السيل، والمدرسة الآخرى تم فتحها كمآوى للأسر المتضررة.

وتقول أمل منصور: “في ناس ماتت وهي نايمة، جيران لينا، الراجل منسوب المية رفعه للسقف ومات، ومراته حاولت تنفد بجلدها، بس ملحقتش، طلعوا جثتها وهي ماسكة مقبض الباب”.

وتتابع: ” تاني يوملقينا ناس ميتة وجثثها في الأرض، ولما اتجمعنا عشان نعمل محاضر، كذبوا علينا وخوفونا بأن في سيل تاني، فكلنا جرينا طلعنا على الأسطح وبعدها محصلش حاجة”.

أما محمد متولي، الذي فقد ابنه يقول: “لو كانوا حذرونا كنت لحقت ابني اللي عنده عشر سنين، لما المية دخلت علينا، الدولاب اتقلب عليه ومات”.

ويقول شعبان متولي: ” ساعة السيل لقيت المية داخلة من الشبابيك ومعاها جثة عيل صغير، قلبي اتخرع “.

إدارة أهلية للأزمة

تحمل أهالى رأس غارب عبء الأزمة كاملاً منذ اللحظات الأولى، واستخدموا كل ما في إمكانهم لانقاذ المحاصرين وسط المنازل الغارقة، وانتشال الجثث العائمة في المياه، يقول فتحي عبدالعزيز: “أنا مشفتش حكومة، انا مشفتش غير جيراني”

وتابع: “وقت السيل كنا نايمين وصحيت على صوت الجيران بيندهوا علينا اطلعوا على السطوح، صحيت اولادي بسرعة، وخرجنا لقينا المية منسوبها حوالي مترين، شيلت عيالي وحطتهم على اسطح السيارات العائمة، وقام الجيران بالقاء احبال لنا تمسكنا بها وسحبونا إلى الأسطح”.

وأضاف: “المسئولين مش عاوزين ينزحوا المية من جوه البيوت، بيقولوا لنا مهمتنا الشوارع وليس البيوت”.

“كان نفسنا نشوف الجيش الى بينتشر في ست ساعات” هكذا علق، محمد صقر، على آداء القوات المسلحة التي لم تظهر سوى في اليوم الثالث كي توزع على الأهالى كراتين معبئة بالمعلبات وزجاجات مياه، “كانوا عاوزين يصورنا بيها بس احنا رفضنا ومرضيناش ناخد الكراتين”.

وتكمل أم بسملة :”بقالنا 8 ايام عايشين في دمار ومحدش سأل فينا لا محافظة ولا مجلس مدينة ولا حتى نواب مجلس الشعب، حتى رئيس مجلس المدينة طلع في التلفزيون في الأماكن الغير متضررة لكي يقول أن غارب بخير والوضع تحت السيطرة في الوقت اللي أهالينا كانوا بيموتوا فيه ومش لاقين اللى ينقذهم”.

ويقول محمود السيد : “ماشوفناش حد منهم، لا محافظ ولا رئيس مدينة ولا لودر واحد تبع مجلس المدينة، مضيفًا الأهالى كانوا ينقذون الضحايا منذ منتصف الليل حتى الخامسة فجراً بأيديهم، وأول من ساند أهالى رأس غارب كانت الشركة العامة للبترول التي أرسلت معداتها الساعة الخامسة فجر الجمعة”.

وعن كيفية نقل الاهالي العالقين، يقول المهندس مصطفي محارب: “استخدمنا كل لوادر الأهالى، استخدمنا الحبال لسحب المتضررين خارج منازلهم والسيل كان قافل أبواب البيوت على الناس ومش عارفين نفتحها”.

مضيفَا: “عندنا في غارب 15 سيارة إسعاف، ماشوفناش واحدة منهم ونقلنا المصابين في سيارات ملاكي وأجرة وحملنا الجثث على أبواب المنازل الخشبية التي حطمها السيل، مشيرًا إلى أنه ساعد في انتشال أربعة جثث من تحت إحدي العربيات العائمة وسط المياه”.

وجاءت حلول مجلس المدينة للأسر المتضررة مخيبة للآمال حيث اقترح رئيس المجلس، نقل المتضررين من السيول إلى المدارس الحكومية، بعد رفضه لاقتراحات الاهالي بفتح شقق الإسكان الاجتماعي أمام الأسر المتضررة بشكل مؤقت.

 دفع ذلك التصرف الأهالي إلى التظاهر أمام المجلس مطالبين برحيل رئيس المجلس والمحافظ، يقول محمود السيد: “الفشلة لازم يمشوا سواء رئيس المجلس أو المحافظ، مشيرًا إلى أن كلام رئيس مجلس المدينة لا  يناسب طبيعة أهالي رأس غارب قائلاً: “إحنا صعايدة، كيف نسمح لبناتنا أن يناموا في الخلاء”. وعلى الفور قامت العائلات التي لم تضرر منازلها جراء السيل وأغلبهم يسكنون ادوار عليا، بفتح بيوتهم لاستقبال جيرانهم المتضررين، ومن أمثلة هؤلاء، أسرة المهندس مصطفى محارب، الذي يمتلك عمارة كبرى مكونة من أربع طوابق، ورغم أن السيل دمر له الطابق الأول، إلا أنه فتح كافة الشقق بعمارته لاستقبال المتضررين من جيرانه، وقامت بناته الخمسة المتزوجات خارج رأس غارب بجمع معونات من المحافظات اللاتي يعيشن فيها لأهالى بلدتهم.

أي تعويضات؟

بعد كارثة السيول، تبارت أجهزة الدولة في الحديث عن تعويض الأهالي ولكن يبدو أن الأمر كان مجرد دعاية إعلانية بحسب محمد صقر، الذي أكد انه منذ بداية السيل وحتى يوم زيارة “مراسلون” لمنطقة الحاج نور، لم يتقاضٍ هو أو غيره أى تعويضات.
جديربالذكر أن محافظ البحر الأحمر اللواء أحمد عبد الله، قال أنه تم التصديق على مبلغ ٥٠ ألف جنيه لأسرة كل متوفى جراء السيول بمدينة رأس غارب و 10 آلاف جنيهًا لكل مصاب. وتقول أم بسملة: “أي تعويضات هتعوض خسارتنا؟ هتعوض أهلنا اللي ماتوا؟ ولا بيتنا وحالنا اللي اتهد؟!”.