منذ بدء الجدل الدائر منذ صيف 2014 بشأن تسليم السلطة بين المؤتمر الوطني العام في العاصمة الليبية طرابلس ومجلس النواب (البرلمان) في مدينة طبرق – 500 كم شرق بنغازي –، والانقسام آخذ في الاتساع بين شرق البلاد وغربها على كافة الأصعدة سياساً وعسكرياً واقتصادياً وإدارياً.

منذ بدء الجدل الدائر منذ صيف 2014 بشأن تسليم السلطة بين المؤتمر الوطني العام في العاصمة الليبية طرابلس ومجلس النواب (البرلمان) في مدينة طبرق – 500 كم شرق بنغازي –، والانقسام آخذ في الاتساع بين شرق البلاد وغربها على كافة الأصعدة سياساً وعسكرياً واقتصادياً وإدارياً.

انقسام كرسته الحرب السياسية بين حلفاء المؤتمر الوطني من جهة والبرلمان المنتخب حديثاً من جهة أخرى، وترجمته على أرض الواقع كتائب ومليشيات عسكرية موالية للطرفين، صراع يذكيه من جهة أخرى التنافس على السيطرة على منابع الذهب الأسود المورد الأساس للاقتصاد الليبي والذي يمثل قرابة 95% من الناتج القومي للبلاد إضافة لما تمثله مؤسسة الاستثمار الخارجي من أهمية اقتصادية بأصول تناهز الـ 67 مليار دولار.

الواقع السياسي

البرلمان الليبي الذي اتخذ من طبرق مقراً له بعد تعثر تشكله في بنغازي بسبب الأوضاع الأمنية  هو الجسم السياسي والتشريعي الأعلى سلطة في الشرق الليبي، على الرقعة الممتدة من بنغازي غرباً وحتى بلدة امساعد المتاخمة للحدود مع مصر أقصى الشرق، مع امتداد نحو الجنوب حيث اجدابيا ذات البعد الاستراتيجي المهم كونها الأقرب إلى بنغازي 160 كيلو جنوباً والمتاخمة بحدودها الشمالية والغربية للهلال النفطي حيث موانىء تصدير البترول الليبي إلى العالم.

عملياً منطقة بهذا الاتساع الشاسع والتنوع القبلي والعرقي والأيدولوجي يصعب وضعها في خانة التأييد المطلق أو الرفض المطلق لأي من التيارات السياسية والعسكرية المتناحرة في ليبيا، لكن في الوقت ذاته ليس بالأمر العسير ملاحظة كم التأييد على مستوى القيادات الرسمية والشعبية (شيوخ القبائل) وعوام الناس أيضاً لعملية الكرامة وقائدها المشير خليفة حفتر، الذي أضحى الرقم الأصعب في المعادلة الليبية بعد جولات من الحوار السياسي استمرت لأشهر طوال، حاولت دون جدوى استثناء الرجل أو تجاهله وإقصاءه خارج المشهد السياسي الجديد.

فحكومة الوفاق الوطني التي أنتجها الحوار السياسي في جولاته الأخيرة في الصخيرات المغربية نهاية 2015 لم تحظى بثقة البرلمان المؤيد لحفتر حتى اللحظة، بل إن تشكيلة السراج رُفضت بالأغلبية من قبل البرلمان في آخر جلساته بطبرق مطالباً إياه بتشكيلة مصغرة للمرة الثانية، جلسةٌ وإن أثير الجدل حول قانونيتها من حيث جدول الأعمال وطريقة التصويت من بعض النواب و المراقبين إلا أنها أجلت مصير الحكومة الجديدة إلى حين.

على الصعيد الخارجي الجامعة العربية الداعمة وبقوة لبرلمان طبرق منذ تشكله والحكومة المنبثقة عنه (الحكومة المؤقتة) برئاسة عبدالله الثني المهدد بسحب الثقة من قبل البرلمان أعلنت هذه المرة من القاهرة في جلستها الأخيرة الخميس 8 سبتمبر/ أيلول بأنها لا تعترف بغير حكومة الوفاق الوطني التي يقودها السراج، وأنها الممثل الشرعي الوحيد لليبيا، موقف ليس بالجديد كلية لكن يبقى الجديد في الأمر هي محاولة إقحام المشير حفتر في الاتفاق السياسي بعد الفشل في إقصاءه فعلياً.

وهذا يؤكده ما جاء على لسان المبعوث الأممي إلى ليبيا الألماني مارتن كوبلر حين قال صراحة وللمرة الأولى عبر برنامج تلفزيوني إنه يبنغي لحكومة الوفاق الوطني أن تشرك حفتر في قيادة الجيش في حربه ضد الإرهاب، وإعادة بناء المؤسسة العسكرية التي هي إحدى أهم صلاحيات المجلس الرئاسي التي أثارت جدلاً واسعاً منذ التوقيع على النسخة الأخيرة من الاتفاق السياسي الليبي آواخر العام الماضي بالمملكة المغربية.

الواقع العسكري

موقف كوبلر أتى تماهياً مع ما يحققه حفتر على الأرض في بنغازي بعد السيطرة على أكثر من ثلثي المدينة إثر حرب ضروس دارت رحاها قبل سنوات ثلاث بين قوات الجيش التابع للبرلمان بقيادة حفتر من جهة ومجلس شورى ثوار بنغازي ومقاتلي تنظيم الدولة من جهة أخرى، والحديث عن تراجع مقاتلي ثوار بنغازي وقطع الإمدادت عنهم بشكل شبه كامل وفشل قوات سرايا الدفاع عن بنغازي المشكلة من مقاتلين مدنيين وعسكريين مدعومة من المفتي الصادق الغرياني وبعض أعضاء المؤتمر الوطني الرافضين للاتفاق السياسي من الدخول إلى المدينة لمساندة مجلس شورى الثوار، مما ينذر بقرب الحسم لصالح الجيش التابع للبرلمان.

حفتر الذي لم يغلق جبهة درنة الواقعة بين طبرق وبنغازي بشكل كلي حيث يسيطر هناك بالمطلق مجلس شورى مجاهدي درنة بعد إخراجه تنظيم الدولة قبل أشهر إلا أن درنة لا تبدو له بأهمية بنغازي التي تكاد الحرب فيها تنحصر حالياً في منطقتي الصابري والميناء.

تصريحات كوبلر ربما كانت متوقعة بعد توافد عدد من الشخصيات المهمة إلى طبرق آخرها زيارة السفير البريطاني بيتر ميليت قبل أسابيع، مواقف وتصريحات تبدلت بشكل واضح بعد التدخل العسكري الصريح من قبل فرنسا وبريطانيا مناصرة لحفتر في حربه في بنغازي، تأييد لعملية الكرامة وإن لم يأت صراحة عبر قنوات سياسية ودبلوماسية، لكن أكده وجود ممثلين دبلوماسيين وعسكريين ورجال مخابرات تابعين للبلدين الأوروبيين في طبرق على مرأى ومسمع الجميع، وعقدهم الاجتماعات مع كبار الشخصيات هناك والتحرك بكل أريحية في المنطقة بين طبرق وبنغازي أي في المناطق الخاضعة لسيطرة الكرامة يؤكد هذا التأييد، ويؤكد أيضاً أن الاعتراف الدولي بحكومة الوفاق لا يعني الكثير أمام مشهد أكثر تعقيداً على أرض الواقع.

في منطقة الهلال النفطي غير البعيدة عن بنغازي تبدو الأوضاع أكثر هدوءاً بعد سيطرة قوات الكرامة على أهم المواقع النفطية هناك إثر عملية (البرق الخاطف) التي أطلقها حفتر منتصف سبتمبر الماضي مما عزز من موقع الأخير في الصراع السياسي وموقعه من الاتفاق السياسي، سيما بعد أن اكتفى المجلس الرئاسي بأخذ موقف الحياد وتخليه فعلياً عن قوات حرس المنشآت النفطية بقيادة ابراهيم جضران.

الهدوء الذي أعقب عملية البرق الخاطف رغم محاولة استعادة السيطرة من قبل جضران بعد أيام قليلة ربما مرده إلى أمرين، الأول تجنب الطرفين المواجهات المباشرة العنيقة لحساسية الموقع الغني بخزانات البترول دون إهمال انشغال مصراتة القوة العسكرية الأكبر في ليبيا بحربها ضد تنظيم الدولة في سرت، أما الأمر الثاني يمكن إرجاعه إلى التوازن القبلي الذي تعرفه تلك المنطقة حيث الرابطة الاجتماعية والثقل القبلي فيها أقوى مما هو عليه في مدينة مثل بنغازي التي مازالت نيران الحرب فيها مستعرة حتى اللحظة.

الواقع المعيشي

حماس الليبيين في الشرق بدأ يخفت تجاه من يؤيدون هذا الطرف أو ذاك، فلم يعد تأييد البرلمان أو قائد جيشه ذو أهمية تذكر بقدر ما انشغل تفكيرهم بالأوضاع المعيشية التي تزداد سوءاً كل يوم، حيث نقص السيولة في المصارف وغلاء أسعار السلع الأساسية إن وُجدت بعد شح العملة الصعبة ووصول سعرها لثلاثة أضعاف السعر الرسمي تقريباً، حيث لم يغير استئناف تصدير النفط بعد سيطرة قوات الكرامة على الموانئ ووضعها تحت إمرة المؤسسة الوطنية الموحدة للنفط من واقع الاقتصاد المتردي شيئاً.

فضلاً عن النقص الحاد في الأدوية لأصحاب الأمراض المزمنة كالضغط والسكري وتردي الخدمات على جميع الأصعدة حيث يصل انقطاع التيار الكهربائي حتى 10 ساعات في بعض المناطق، أمور باتت الشغل الشاغل للمواطن في الشرق الليبي زيادة على الأوضاع الأمنية المتردية في أغلبية المناطق التي ينتشر فيها القتل العمد والعشوائي والاختطاف والإخفاء القسري، هناك حيث القبيلة هي من يحكم فعلياً في غياب مؤسسات الدولة.

ويبلغ الانقسام مداه حين نرى مصرفاً مركزياً في البيضاء مقر حكومة الثني موازياً للمصرف المركزي في طرابلس، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل ويباشر مركزي الشرق بطباعة أوراق نقدية جديدة غير التي يطبعها مركزي طرابلس، انقسام يمكن إسقاطه على كافة مؤسسات الدولة وإداراتها المختلفة، فلكل مؤسسة أو إدراة في الغرب ما يوازيها في الشرق حتى تلك التي تُعنى بالأحوال المدنية واستخراج جوازات السفر.

الخلاصة

يبقى حل الأزمة الليبية وإنهاء الانقسام بين شرق البلاد وغربها مرهوناً بعدة عوامل، أهمها إنهاء الانقسام السياسي بدخول البرلمان فعلياً في الاتفاق السياسي الذي يحاول المجتمع الدولي جعله أمراً واقعاً، الأمر الذي ربما يجبر صناع الاتفاق على إعادة النظر في موقفهم من قائد الجيش التابع للبرلمان المشير خليفة حفتر، سيما بعد الحسم في بنغازي والذي ربما يعيد النظر في إعادة بناء المؤسسة العسكرية وإنهاء الاقتتال.

في حين يُرجح أن يلعب التوازن القبلي في منطقة الهلال النفطي دوراً مهماً في استقرار المنطقة وإعادة تصدير البترول لسابق عهده، وخاصةً بعد دخول حقول المنطقة الغربية حيز التشغيل أيضاً، مما سيسهم في إنهاء الانقسام الاقتصادي، خاصةً بعد توحيد المؤسستين النفطيتين في الشرق والغرب، والتقارب الواضح بين المصرف المركزي في طرابلس ونظيره في البيضاء، مما سيسهم في انتعاشة الاقتصاد وتلبية الحاجات الأساسية للمواطن الليبي لإعادة الثقة في الحكومات ومؤسسات الدولة.

ولا ننسى ما ستسفر عنه حرب مصراتة القوة الأكبر عسكرياً في الغرب الليبي ضد تنظيم الدولة في سرت، حيث دعوات المفتي الصادق الغرياني لقوات البنيان المرصوص للتقدم شرقاً بعد سرت، ومحاولات أخرى ربما بدأت فعلياً لجر مصراتة مجدداً إلى مستنقع العاصمة طرابلس وتعقيداتها العسكرية، مما قد ينذر بمزيد من التأزم على المستويات كافة.