الحياة في منطقة شعبية بالقاهرة، يعني أن تلتقط الأذن خليطا من الموسيقى ما بين المهرجانات والأغاني الشعبية وبعض أغاني البوب الحديثة واسعة الانتشار. الفترة بين الظهيرة وحتى منتصف الليل هو خريطة صوتية مميزة للغاية تتحول فيها الأصوات إلى بنية موازية للعمران غير المتجانس لهذه المناطق. ما بين المحلات والميكروباصات والتكاتك، وأصوات مكبرات الصوت الصينية الرخيصة التي تركز على “الإيقاع” وتضخيمه كأساس للصخب السمعي.

الحياة في منطقة شعبية بالقاهرة، يعني أن تلتقط الأذن خليطا من الموسيقى ما بين المهرجانات والأغاني الشعبية وبعض أغاني البوب الحديثة واسعة الانتشار. الفترة بين الظهيرة وحتى منتصف الليل هو خريطة صوتية مميزة للغاية تتحول فيها الأصوات إلى بنية موازية للعمران غير المتجانس لهذه المناطق. ما بين المحلات والميكروباصات والتكاتك، وأصوات مكبرات الصوت الصينية الرخيصة التي تركز على “الإيقاع” وتضخيمه كأساس للصخب السمعي.

كل هذا اللوحة السوريالية الصوتية، تنتظم في لون صوتي واحد على يد “دي جي كانّي كُسبة”، الدي جي الشاب الذي يعيش في عزبة النخل. ما أن يدخل كسبة بلوحة مفاتيحه إلى المكان، حتى يتحول إلى خلية تحاول تركيز أضواء الكهارب على مركزية موقعه، ومن ثم تحطيه السماعات متصلة بعدة أجهزة يقف عليها، لتبدأ فقرته.

كُسبة، دي جي عملي للغاية، لا يحمل آمالا فنية كبيرة مثل سابقيه مؤسسي المهرجانات السادات وفيفتي وحاحا “الدكتور” الذي يكن له تقديرا عاليا. هو مشغول فقط بكيفية تنظيم الصوت العشوائي –على حد تعبيره- في صوت واحد يتحكم هو فيه بأزراره.

يقف كُسبة على منصات الزفاف، باعتبارها التمثّل الأقصى للبهجة الشعبية، حيث العقد غير المكتوب بين سكان المنطقة وأصحاب الفرح في قبول “المحرمات”، التواطؤ المقبول في حدود أرض الزيجة الجديدة. في هذا الوقت يحرك كُسبة أزراره حتى لا يترك حجرا على حجر في مكانه في الفرح. “فرحتي أنا في أي فرح أروحه، إني أشوف المعازيم مش على بعضها.. بيكونوا شربوا السيجارتين وشعشعت معاهم، أشقلب كيانها أنا” يقول كسبة.

نوعية الأفراح التي “يشقلب كيانها”، تصنيفة أخرى في عوالم هذه المناطق الشعبية، أمر آخر بعيدا عن التقسيمة الطبقية الكلاسيكية، حتى في هذه المناطق فالأفراح أنواع وإمكانات، يمكن العين الخبيرة أن تعرف حجم الفرح وتأثير صاحبه من عدد السماعات المبدورة في ساحة الفرح، والتي كلما زادت كلما أثبتت مكانة اجتماعية خاصة لصاحبها. كُسبة هو الدي جي صاحب السماعات الأقل في المنطقة.

افتتاح الحياة في هذه المناطق لا يكون بالزواج فقط، بل في مناسبات اجتماعية أخرى أقل حضورا وحيوية، لكنها بدأت تجد لنفسها مكانا على الخريطة الاجتماعية: ليلة الحنة، السبوع، أعياد ميلاد الأطفال، العقيقة (وهو التقليد الديني المختلف عن السبوع، بالذبائح، الذريعة المواتية لأكل اللحوم). ولأن هذه المناسبات لم تأخذ مكانها بعد في مزاحمة الفرح بموروثه وأثره، فمازال صوتها محدودا. ينزعج كسبة من فكرة تحديد نوعية خاصة من الأغاني في كل مناسبة “هي الناس عاوزة تنبسط إن شالله شغنالهم سمر على حق طول اليوم، على كام أغنية حافظينها من الجداد، ليه لازم يعني أشغل أغنية يارب ياربنا بتاعت حمادة هلال كل سبوع”.

ربما تحضر هذه الافتتاحات خافتة وراء الفرح، لكن المناسبة الوحيدة التي تزاحم الفرح في مكانته، وفي كوده الاجتماعي المتواطئ، هو افتتاح محل جديد، والذي هو فرح “رأس المال” البسيط، دعاية مجانية، إعلان يستهدف قاعدة المستهلكين المحتملين، وهي –أيضا- المناسبة الأحب لقلب كُسبة على الإطلاق “لما بيكلموني علشان محل، بانبسط قوي، بيسيبوني أشغل اللي أنا عاوزه محدش بيبقاله طلبات مادام هابدأ بأسماء الله الحسنى لهشام عباس وشوية قرآن، بعد كده أعمل الميكس اللي أنا عاوزه، ومحدش قاعد فوق راسي من الناس، اللي حابب ييجي وينبسط معايا أهلا وسهلا”.

هل يستطيع كُسبة العيش من مهنته كصانع للبهجة؟ يرد على هذا السؤال باقتضاب قائلا: “مستورة الحمد لله”. بعض أصحاب المحلات يقولون إن ما يحصل عليه في حفل افتتاح أحد المحلات يتراوح ما بين ٣٠٠ إلى ٥٠٠ جنيه، حسب المعدات التي يصطحبها. أما الفرح فيصل أجره فيه إلى ٥٠٠ جنيه، بالإضافة إلى جزء من النقطة حسب الاتفاق مع أصحاب الفرح.

اختراع التقليد الجديد لافتتاح المحلات، فتحت باب رزق جديد ومكثف ومستمر لكسبة، صارت الأفراح هي فاكهة الأسبوع، لا مصدر رزقه الوحيد. يرى أنه يؤسس لنفسه مكانا خاصا في منطقته، بلمسة بسيطة للغاية على الأغاني التي يضعها في قائمته، بعيدا عن صدى الصوت وتضخيم الطبول في الخلفية، ويطمح بأن يفهم أكثر فكرة أن يكون أكثر من مجرد “ميكسر أغاني” “أهو منها انبساط ومنها رزق زيادة يجي لي، بس الهم اللي ورا الواحد كتير”