عبد الروؤف لن يعود إلى القاهرة

“قبل الثورة بوقت طويل توقفت القاهرة عن ادهاشي. لا شئ مبهر. كنت اقضي اليوم بيومه. ولكن مع الثورة عادت الدهشة الكبرى التي كنت قد فقدتها، عادت مع المكان ومع الاشخاص، عاد المعنى للحياة مرة أخرى، كانت الثورة بالنسبة لي مسألة شخصية تماما” يقول خليل عبد الرؤوف الذي لا يعرف نفسه بمهنة محددة، سوى أنه قبل الثورة كان مستغرفا تماما في العمل من أجل دفع الايجار، وشراء الطعام. “كانت القاهرة مثل جثة متعفنة، لكنها صحت بشكل مفاجئ مع الثورة”.

عبد الروؤف لن يعود إلى القاهرة

“قبل الثورة بوقت طويل توقفت القاهرة عن ادهاشي. لا شئ مبهر. كنت اقضي اليوم بيومه. ولكن مع الثورة عادت الدهشة الكبرى التي كنت قد فقدتها، عادت مع المكان ومع الاشخاص، عاد المعنى للحياة مرة أخرى، كانت الثورة بالنسبة لي مسألة شخصية تماما” يقول خليل عبد الرؤوف الذي لا يعرف نفسه بمهنة محددة، سوى أنه قبل الثورة كان مستغرفا تماما في العمل من أجل دفع الايجار، وشراء الطعام. “كانت القاهرة مثل جثة متعفنة، لكنها صحت بشكل مفاجئ مع الثورة”.

بالنسبة لعبد الرؤوف كانت الفكرة ببساطة هي الأمل في حياة افضل، أما الآن “فالقاهرة تغرق في العفن مرة أخرى”.

في تقرير للسعادة حول العالم صدر هذا العام ، يقع ترتيب مصر في السعادة بين عامي 2013 – 2015 في المرتبة 120 من أصل 157 دولة. ويعتمد التقرير في احصاءاته على دراسات سياسية واقتصادية واجتماعية وعلى استطلاع أشخاص في بلدان مختلفة حول مدى رضاهم عن حياتهم، وعن مشاعرهم تجاه الخبرات الايجابية والسلبية التي تعرضوا لها وتأثيرها عليهم، وإذا ما كانوا يشعرون بمعنى أو بهدف لحياتهم.

وأظهر تقرير آخر نشره موقع البي بي سي في اكتوبر من العام الماضي نقلا عن دراسة المانية،  أن سكان القاهرة هم اكثر سكان مدن العالم تعرضا للاكتئاب والضغط العصبي، استنادا الى طرق كسب الرزق، والضوضاء، والزحام المروري. فاصبحت القاهرة واحدة من أكثر المدن إزعاجا وإنهاكا لسكانها.

كانت الثورة بالنسبة لعبد الرؤوف تعني الفيلم الذي يريد أن يصنعه، والفتاة التي يريد أن يحبها. كان يرى ويصور عشرات من المشاهد المبهرة لشباب يواجهون الموت. صوّر عبد الرؤوف مادة كبيرة جدا من الثورة تمهيدا لمشروع فيلمه الذي لم يبدأ بعد. ثم كان ما أسماه “القفا” والخيانة التي انهت كل شئ، والتي بدأت بذورها في الاعتصام الأول حين انطلق هتاف “الجيش والشعب ايد واحدة”، وحين ظهر التسامح الزائد مع الفئات الدينية التي بطبيعتها ضد احلام الثورة وشعاراتها. وانتهت الثورة بالنسبة له حين قتل أعداؤها بعضهم البعض، على حد قوله، في اغسطس 2013. كانت تلك هي لحظة وأد الثورة. اضطر عبد الرؤوف الى مقاطعة كثيرين في دوائره القريبة لعدم رفضهم الدم على اطلاقه.

الثورة بالنسبة له لم تكن في اللقطات الواسعة التي عرضت على الشاشات، بل كانت في اللقطات الضيقة لأشخاص رأى لمعة عيونهم وهم ذاهبون نحو الموت. تأكد لعبد الرؤوف، انه لم يعد يسعد بشئ في القاهرة، وشعر أنه لا افق ولا أمل بها، ورغم أنه في الاصل من الاسكندرية الا أنه اراد استكشاف مكان جديد، لطالما سمع عنه، وعن أنه “براح” و”حر” وبه أفق. وبالفعل ذهب الى سيناء بلا خطة في اكتوبر الماضي، وبمبلغ مالي بسيط، اقام لمدة شهر في كامب مقابل تلوين جدرانه، ثم عمل عبد الرؤوف اعمالا كثيرة طوال عامه هناك، اغلبها كانت تطوعا كالبناء، والطبخ، وصنع مصنوعات يدوية، وتعليم آخرين كيف يصنعونها، مقابل الاقامة، حتى أن المال فقد قيمته هناك، ولم يعد يحتاج له. مؤخرا بدأ ببعض الاعمال الحرة في ترجمة الأفلام من هناك.

“عرفت الصمت في سيناء، على البحر هناك هدير الموج، ولكن في الجبل لا صوت على الاطلاق، ربما تكون سيناء مملة للسياح، لكن الحياة فيها بها الكثير، الكثير من الوقت مع النفس، الكثير من الوقت لفعل اي شئ وكل شئ، بدءا من الصعود للجبل، والبناء والتلوين وغيره”.

يضيف عبد الرؤوف أنه رغم الحياة الصعبة في سيناء، فهي “التيه” في المخيلة الانسانية، الا أنها تعوضك عن الجهد والقسوة، وحتى بعض العنصرية التي واجهها مع أهل المكان، لم تدم طويلا. فحين كان يعمل لست ساعات متواصلة في درجة حرارة مرتفعة، كان يفكر أنه قد يقضي ست ساعات بلا جدوى في القاهرة، في المواصلات، ما يعاني منه هناك هو قلة الخدمات، فالمستشفى المجهز يقع فقط في شرم الشيخ، بعيد عن مناطق دهب ونويبع.

أصبح لدى عبد الرؤوف مشكلة في التعامل مع القاهرة الآن، مع الناس والسيارات والضوضاء، اشتم عبد الرؤوف رائحة الشياط  فور دخوله للقاهرة للمرة الأولى بعد عام، وحين التقى باصدقائه، تأكد أنه اتخذ القرار الصحيح، فـ “الناس مش سعيدة هنا”. لن يعود عبد الرؤوف إلى القاهرة إلا في حالة واحدة، وهي أن تقوم ثورة جديدة. حتى الآن خطته هي إدارة مكان هناك يكون بمثابة بيته وأهله.

جابر: القاهرة بطيئة وكسولة

كان لمحمد جابر علاقة قوية بشوارع القاهرة التي اعتاد أن ينام بها حين يكون غير راغبٍ في العودة الى منزله، أو لا يملك المال. كان يفترش ميدان التحرير – قبل أن يفترشه الآلاف لاسباب سياسية في 2011- ولأنه كان فنان شارع مستقل كانت علاقته حتى بقبح المدينة الذي اعتاده، كما يصفها، ملهم له في عمله.  

مع قيام الثورة، وتغير المشهد الفني وفن الشارع خاصة، لم يكن جابر مرتاحا لفكرة أن الجميع يدعون أنهم فنانون شارع. انسحب من الشارع تدريجيا، وبدأ اكتئاب ما بعد الثورة معه مبكرا، ففي مايو 2011 قرر قرارا مفاجئا بالرحيل الى بيروت.

يقول جابر الذي يعمل حاليا كمصمم خطوط وجرافيكس “انا رحت طفشان، قررت اني مش هاقعد انتحر هنا، ماحسبتش حاجة، اخدت شغل الفري لانس اللي بعمله والقرشين اللي محوشهم واللي مايكفوش 3 اسابيع في بيروت الغالية وسافرت، من غير خطة واضحة، ومسكت الفرشاة في الشارع تاني هناك”. ورغم أن بيروت لم تظهر لجابر وجهها الجميل، بل أظهرت قسوة في وجهه، على حد قوله، إلا أنه لم يفكر في العودة للقاهرة. عاد للمرة الأولى الى للقاهرة في اجازة في اكتوبر 2011، في اليوم التالي لمذبحة ماسبيرو.

كان جابر ينتوي أن يمكث في القاهرة لاسبوعين، لكنه وجد نفسه متورطا في احداث بالشارع كأحداث شارع محمد محمود الأولى في منتصف نوفمبر 2011، الامر الذي ذكره بأن هناك أمورا لم يكن عليها أن تحدث له ولجيله لآثارها النفسية القاسية، فقرر العودة الى بيروت بعد اسبوع واحد. واستمرت علاقته بالقاهرة على هذا النحو، يأتي في زيارة قصيرة كل عدة أشهر على أخبار الدم في الشوارع، ليتأكد له أن قراره بالرحيل كان صائبا.

في منتصف العام 2013، مرضت أخت جابر بورم نادر في المخ، فبقى في القاهرة بجوارها، وعادت علاقته المكثفة بشوارع القاهرة ولكن بشكل اسوأ من ذي قبل يقول ” كنت بقضي وقت طويل في الشارع بدور على أدوية، وعلى دكاترة، وفي النص حصل انقلاب، والدم في الشارع بيزيد، فبقت علاقتي اسوأ بالمدينة”. حين توفيت أخته في بداية هذا العام، قرر جابر بعد شهرين من وفاتها العودة لبيروت وتأسيس شركة هناك، لا يربطه بالقاهرة الآن سوى والدته، وحين تطول اقامته في مصر يذهب الى الجونة –على ساحل البحر الأحمر-  ليقيم بها بعض الوقت هربا من القاهرة، رغم أنه لا يرتاح بها كثيرا، ولا يحب نمط روادها.

في بيروت يستطيع جابر تنفس هواء نظيفا، فرغم مشكلة القمامة الأخيرة هناك، التي تزامنت مع عودته في المرة الأخيرة، إلا انه لم يشعر بشئ، يقول “كنت بشوف الناس ماشية بكمامات في الشارع، ولما دورت على الزبالة من باب الفضول لقيتها ماتجيش نص أي خرابة ورا أي عمارة في القاهرة”، كما أن بيروت بالنسبة له مدينة نشطة، بعكس القاهرة البطيئة وكسولة الايقاع. السبب الأهم لعدم قدرة جابر على العودة هو الذكريات المؤلمة في كل الشوارع، والتي يحاول علاج نفسه منها حتى الآن، فهناك شوارع في وسط المدينة لم يعد يدخلها ابدا، عودته الى مصر اصبحت تشبه التروما، لا يتنفس جيدا في القاهرة بسبب ثقل الهواء وكثافته، لا يريد التعامل مع أحد، وتزداد نوبات القلق والذعر والاكتئاب كلما عاد الى القاهرة، وقد يجعله هذا يلازم فراشه لأيام.

في القاهرة لا يوجد تنوع، على حد قول جابر، الجميع يريدون ان يشبهون بعضهم البعض، نفس اللغة، نفس البناء، نفس الزي، حتى من يعيشون خارج القاهرة يريدون ان يكونوا “كربونة” من القاهرة، شوارع القاهرة لا يمكن التمشية بها، سكان القاهرة لا يحترمون الحرية الشخصية، متطفلون، قليلي الذوق، لديهم عنف وخشونة في التعامل، لا توجد أي مساحة في القاهرة للحرية الشخصية، ولا يوجد احساس بالأمان، فيستطع أي شخص أن يزعجك في يومك بلا سبب، ورغم أن بيروت في حالة تأهب دائم لاشتعال الحرب مجددا، وهو أمر واضح جدا حتى في آثار الرصاص والقذائف الباقية على بعض البنايات، الا أنه يشعر هناك بالأمان. القاهرة بالنسبة لجابر مدينة ميتة، وحتى ان قامت ثورة جديدة فبالنسبة له لو حكم مصر “المسيح” فالمشكلة في الناس قائمة لن تتغير، وليس فقط نتيجة ظروف اقتصادية صعبة، ولكن لأن الناس لا يهتمون بالتفكير وتنمية عقولهم، في رأيه.

نوارة: أبطال الفيلم في السجن

لم تكن تلك المرة منذ عامين هي الأولى التي تفكر فيها نوارة مراد، مخرجة سينمائية، أن ترحل عن القاهرة. فحين كانت والدتها تقترح عليها أن تشتري لها منزل في القاهرة، كانت تخبرها أن بيتا أو ارضا في سيناء افضل كثيرا، فهي بالنسبة لها أرضا مقدسة، حتى لو شابها نمط تجاري في السنوات الأخيرة.

في صيف 2014 ذهبت مراد الى سيناء واقامت هناك لمدة 6 أشهر، كانت تعمل كمعلمة لبعض الاطفال هناك، تعلمهم الللغة العربية والتمثيل والاخراج مقابل اقامتها في أحد “الكامبات”. كان نمط حياتها هناك مختلف تماما، واكثر اتساقا مع الطبيعة، التي لم تخلو أيضا من قسوة، لم يكن ضيقها من أي شئ يطول، رائقة البال، تستيقظ في الفجر، تمارس اليوجا والتأمل. لم يكن الأمر سهلا في البداية، فالتآلف مع الطبيعة البدائية هناك وأهل المكان، مع النحل القارس، والناموس البري المزعج، والصخور الصعبة في الشواطئ، والأسماك الخطرة استغرق وقتا، لكن في النهاية هذا التآلف جعلها جزء من المكان، وصعوبته علمتها أمورا كثيرة حول نفسها، وغير بها الكثير.

بدأ الأمر قبل ذلك بقليل، ربما بسبب الثورة، كانت مراد تتعرض لنوبات فزع، ينوبها هاجس بأن الأمن سيقتحم منزلها، يفتشه ويقتادها الى السجن، وهو أمر بالنسبة لها كان مرعبا أكثر من الموت، وتزامن ذلك مع انتهاء علاقة عاطفية سيئة. بدأت نوبات الذعر تلك قرب انتهاء مراد من فيلمها الذي كانت تخرجه عن الثورة، بدأته قبل ذلك بعام، مع عدة اشخاص شاركوا في الثورة، ارتبطت بهم، وفي نهاية العام كان غالبية ابطال فيلمها اما مسجونون، او قد هاجروا خارج مصر، وهذا قد دمرها تماما. لذلك حين ذهبت الى سيناء لقضاء الأجازة اتخذت القرار بالبقاء، لكن ما اعادها بعد ستة أشهر أن المكان الذي كانت تعمل به لم يعد لطيفا معها.

لازالت مراد ترغب في العودة الى هناك للاقامة الدائمة، لتعمل على مشاريعها الفنية المؤجلة، هي تتخيل حياتها وهي عجوز هناك في مشروعها الخاص، في بيئة بسيطة بعيدا عن المدينة التي تقتل مشاعر الناس بنمط الحياة الذي يفرض البحث الدائم عن لقمة العيش. حين عادت مراد الى القاهرة كانت شخصا مختلفا، تقدر تفاصيل الحياة المرفهة أكثر، كالمياه والتكييف، والبيوت الدافئة، فكلا من الحرارة والبرودة في سيناء قاسيان، حتى أن شكلها تغير وطريقة مشيتها اختلفت.

تعلمت مراد في سيناء أن تستمع أكثر من أن تحاول اثبات شئ ما، وادركت مصدر الغضب الكبير الذي خلفته الثورة بداخلها، والذي يذهب بفهمه والسيطرة عليه، ذلك الغضب الذي عاد لها بعودتها الى القاهرة، مما اضطرها لبذل مجهود مضاعف للسيطرة عليه مجددا. عادت لتسترجع كيف أن القاهرة تخلو من الأمل، من الجمال، ومن السعادة، وكيف أن القاهرة قد نمت لديها الخوف الاجتماعي والعزلة أمام الأقنعة التي يرتديها الناس والكذب، فالخوف الاجتماعي ذلك الذي بدأت بالشعور به قبل الثورة، لم تتجاوزه إلا بقيامها، حيث عادت لمواجهة الناس والشارع مرة أخرى، ومع فشل الثورة عادت مجددا إلى عزلتها.