يبدأ التجمع حياته في الصباح الباكر بمشهد سيزيفي بامتياز: نساء وفتيات أمام التجمعات والمولات يدفعن الرمال أمامهن بمكانس يدوية مخصصة لجهد كهذا، يبعدنها إلى جانبى الطريق، في الليل تنشط الرياح لبعثرة ما أنفقن الساعات في لمه، وتضيف الأراضي الفضاء الفسيحة المزيد إليه، هذا سيضمن لهن عملا لسنوات قادمة، وسيبقى معهم الجناينة، المهنة التي كادت تنقرض في مصر وأعادتها للحياة المدن الجديدة، هنا الكل في حاجة لهذه الخبرة، كيف نتعامل مع النبات؟ ما الذي يصلح لينمو في الصحراء، تصادفهم دوما يسقون المساحات الخضراء حول الأسوار وفي الجزر الوسطى للشوارع، بعضهم يهذب الأشجار يصنع منها تكوينات وأشكالا، وآخرون مسموح لهم باحتلال أرصفة، حولوها لحدائق مصغرة تتنافس فى كيفية العرض لجذب الزبائن المحرومة قبلا من تربية النباتات.

هنا تبدو السماء أقرب، لا شىء يسد الأفق، يمكن مراقبة الطائرات في صعودها وهبوطها، وبجوارها النجوم.. لا دخان يخفيها. القرب من المطار كان حاسما في الوصول لتلك النتيجة: لا ارتفاعات. وبعده جاء التنظيم الذي اشترط وحدة الشكل، ومسافات قياسية بين المباني وبعضها.

الطقس أكثر صفاء، يمكن في التجمع معرفة إلى أي حد وصل التلوث الذي تعيشه القاهرة القديمة.. عوادم السيارات، الضوضاء السمعية والبصرية كلها لا وجود لها هنا، الحد الأدنى من الدخان وكلاكسات السيارات والشجارات والحوادث، من المعتاد أن يبدأ المنتقلون حديثا في الإحساس باختلاف ملموس على مستوى صحتهم الجسدية والنفسية، غير أن الطقس يتطلب بعض الوقت للتأقلم معه، في الصيف تسطع الشمس أكثر مما ينبغي، وفي الشتاء يتحول “التجمع” إلى “التجمد” كما يسميه البعض.. برد صحراوي مفاجئ لم يعتده أهل الدلتا الذين ألفوا طقسا لا تكاد تبين معالم فصوله من بعضها.

ثلاثة عوالم متوازية تعيش في القاهرة الجديدة، لكل منها ملامح واضحة وطريقة مغايرة في الحياة، الطبقة الفقيرة تنفصل في مساحات بعينها بعيدة عن الأخريتين: الوسطى والغنية، لديهما نقاط التقاء، على الأقل في أماكن التسوق، وبعض أماكن النزهة العامة، غير إنه كانت الطبقة المخملية من حقها النزول وقتما شاءت فإنه لا يمكن التسلل إلى عالمها الخاص ذلك الذي بدأ يثير فضول الصحافة مؤخرا.. الحادثتين الأبرز إحداهما تعود للعام الماضي عندما أقام شباب إحدى المدارس الثانوية حفلا لتخرجهم أحيته راقصة مصر الأولى للوقت الحالي: صوفينار. ملأت صوره الجرائد، أما الثانية فجرت قبل شهر تقريبا وأخذت صدى أوسع من سابقتها.. حفل مراهقين آخر “pool party” وتذكرة الدخول فقط سعرها 350  جنيه، تسربت منه صور لمواقع صحفية استخدمتها للتحريض بعناوين ساخنة (حفل للـ”العري والخمور” ضد القيم الأخلاقية والتعاليم الدينية) لكن الأزمة تم وأدها في مهدها.. هنا الكثير من النفوذ والسطوة والجاه، وألعاب مثل تلك لا تجوز.

أهل الطبقة الوسطى يبدون على الدوام مهووسين بشبح يطاردهم لإسقاطهم إلى الطبقة الأدنى، والأمثلة تجدها طوال الوقت مثارة للنقاش المفتوح في اجتماعات وجروبات خاصة على السوشيال ميديا.. يشكو سكان المدينة الأقدم في القاهرة الجديدة “الرحاب” من تزايد الظواهر السلبية، تم رصد أكثر من ظاهرة تحرش، سرقات، انتشار العمال في المدينة ومشاركتهم السكان في بعض مناطقها خصوصا الأقرب لأماكن عملهم، يستأجرون كل عشرة أو أزيد شقة واحدة.. مثلما يفعلون عندما يسافرون إلى الخليج. يشكو سكان مدن أخرى من ضعف اتحادات الملاك التي تسمح لسكان من تنفيذ تعديلات في وحداتهم تضر بالشكل العام، أو عدم التزام البعض بالمعيار الأخلاقي الذي تم التوافق عليه لحقوق الجيرة.

الفروق بين الطبقة الوسطى والفقيرة تكاد تتلاشى، الاحتكاك بينهما يحدث يوميا، يلجأ أهل الطبقة الوسطى للأحياء الشعبية والتي تتواجد كمساحات مفتوحة بلا أسوار داخل مناطق بعينها في القاهرة الجديدة، الأسعار لدى الفقراء أقل بكثير من المولات، والأسواق التجارية داخل “الكمباوندات”، هناك كل المنتجات والخدمات بلا استثناء أعلى من مثيلاتها في أي مكان آخر، وعندما تسأل لماذا يقولون لك الإيجارات مرتفعة (يصل إيجار بعض المحلات في الأسواق التجارية بالأحياء الغنية في المتوسط ما بين 30 و50 ألف جنيه شهريا، وكثيرا ما انسحب بعض التجار لعدم قدرتهم على مجاراة هذا السوق).

في الأحياء الفقيرة يسكن العمال في كل التخصصات، وسائقو الميكروباصات التي لا يجد ساكن الطبقة الوسطى سواها لتنقله من محل عمله في القاهرة القديمة إلى بيته الصحراوي، قبل تدخل حكومات ما بعد ثورة 30 يونيو للدفع على استحياء ببعض أتوبيسات النقل العام التي تبدو على قلة عددها، وتباعد مواعيد رحلاتها كأنما لا وجود لها.

في ساعة ما من مساء يوم ما يتصادف أن تتواجد الطبقات الثلاث في مكان واحد، ربما في “كايرو فيستفال سيتي” مجمع المولات الأضخم، هنا افتتح “إيكيا” البراند السويدي الشهير فرعه الأول في مصر، يأتي إليه سكان التجمع للتسلي بشراء أثاث مفكك وتعلم كيفية تركيبه، وفي بداية الشهر يشارك الآلاف في سباق من يعود بأكبر كم منتجات من كارفور، الآباء يدفعون عربات البضائع وأولادهم الصغار بداخلها، الأطفال أكثر تدليلا في عربات مخصصة للحركة داخل المول الواسع، يستكشفون من خلالها عالمهم بينما يتأمل الآباء فى محلات لمنتجات باهظة الثمن، أخيرا وبعد أن يفرغ كل من جولته يجتمع اهل الطبقات الثلاث أمام النافورة الراقصة، تذوب الفوارق على صوت أم كلثوم مصاحبا الألعاب المائية الملونة.

في التجمع لا يوجد شارع للناس، باستثناء العمال، والمتنقلون بلا عربات، عدا هذا لا تجد أفواجا من الناس تسير في الطرقات مثلما المعتاد في أحياء القاهرة والجيزة، ربما لعدم وجود محلات تطل واجهاتها على الشارع، وأيضا لأن الرصيف لا وجود له، محتل بالمساحات الخضراء حول الأسوار والمباني، البديل دوما المول أو النوادي الاجتماعية، وتلك ميسر الدخول إليها الآن، تسعى بتقديم التسهيلات لاجتذاب أعضاء إليها، غير أن أقلها لا يقل رسم عضويته عن خمسين ألف جنيه، وفرص الدخول إليها تتقلص كلما تزايد الإقبال واكتملت الإنشاءات، كل عام تقريبا تكون هناك زيادة مالية جديدة على أسعار العضويات، بما فيها الأندية الحكومية.

بخلاف هذا لا حدائق عامة، باستثناء تلك التي بدأ إنشائها تحت اسم سوزان مبارك، لكن الثورة فاجأت السيدة الأول قبل افتتاحها، آلت بعدها إلى جهاز خدمات القوات المسلحة، ورغم حسن تنظيمها إلا أنها صغيرة ورسمية بعض الشئ، وكل خطوة فيها تستلزم رسوما، باستثناء جزء صغير لحيوانات تبدو غير مرتاحة في أماكنها.

مؤخرا فقط بدأت حياة ليل التجمع في رسم صورتها، حياة محافظة إلى حد بعيد، لا وجود للبارات، ولا للقهوة بمفهومها في القاهرة القديمة، الاقرب كافتيريات تتنافس بشكل  حاد على جذب الزبائن إليها، أي واحد منها الأكثر راحة وأناقة، والأكثر ابتكارا فيما يقدمه، وهناك من يضيف حديقة أطفال مصغرة مع مشرفة تعتني بصغارك بينما تقضي وقتك مع أصدقائك أو عائلتك. خلال الصيف يسهر التجمع إلى حدود الثانية صباحا، هذا مسموح طالما هناك إجازات من المدارس، وطالما يسمح الطقس الذي لا يمكن احتماله خارج البيوت شتاءً.

يقضي السكان، ومؤخرا الزائرون، وقتهم بين السينمات والمقاهى والنوادى والمولات، وفي الغالب ستجد مظاهر الراحة المادية، والإقبال على تلك الأنشطة يحفز على تسريع وتيرة إنجاز مشاريع مشابهة.. خلال سنوات قليلة ستكون القاهرة الجديدة المكان الذي يضم أكبر عدد من المولات مع أغرب التقاليع.. في الأيام الأخيرة افتتح أحدهم بيتا للرعب مع دعاية بأنه الأول، غالبا لاحظ أن تلك الرفاهية تفتقد حيوية القاهرة القديمة، في النهاية هنا كل شئ وراء الأسوار.