رمزية الميدان في المجال العام المصري ليست خافية على أحد، وأهميته كمكان للتظاهر والتجمهر هو ما سبب تغيراتها السياسية في السنوات الأخيرة؛ لكن الميادين بطاقاتها البشرية المليونية، وبكل دلالاتها السياسية والاجتماعية والرمزية، وجدت عند بعض العاملين في الدولة بديلا لتملأ به مساحاتها الفارغة، عبر إقامة “تماثيل” (الكلمة التي يمكن استخدامها تجاوزا لوصف هذه الكتل) أو عبر إعادة إنتاج التماثيل الموجودة بالفعل بتعديلها وتلوينها، فكانت النتيجة استثنائية في بشاعتها.

رمزية الميدان في المجال العام المصري ليست خافية على أحد، وأهميته كمكان للتظاهر والتجمهر هو ما سبب تغيراتها السياسية في السنوات الأخيرة؛ لكن الميادين بطاقاتها البشرية المليونية، وبكل دلالاتها السياسية والاجتماعية والرمزية، وجدت عند بعض العاملين في الدولة بديلا لتملأ به مساحاتها الفارغة، عبر إقامة “تماثيل” (الكلمة التي يمكن استخدامها تجاوزا لوصف هذه الكتل) أو عبر إعادة إنتاج التماثيل الموجودة بالفعل بتعديلها وتلوينها، فكانت النتيجة استثنائية في بشاعتها.

تسببت هذه التماثيل في إثارة الكثير من اللغط والانتقادات حتى أن رئيس مجلس الوزراء المهندس شريف إسماعيل أصدر قرارا في السابع من سبتمبر الحالي بحظر ترميم أو وضع تماثيل بالميادين العامة، إلا بعد الرجوع إلى وزارتي الثقافة والآثار.

فقد انتبهت شبكات التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك وتويتر وغيرها من أدوات المتابعة المتحررة من قيود الحظر والرقابة، انتبهت إلى الاحتلال الجديد لميادين مصر في مدنها المختلفة، بالدهشة أولا من مستوى التردي في تصوير الشخصيات التاريخية الذي يسابق نفسه في رداءته، ثم بالسخرية بمحاولة البحث عما يشابه هذه التكوينات في الحقيقة، وسموا هذه التماثيل بأسماء مستعارة دالة للغاية، لتتحول نفرتيتي إلى جمالات كفتة، والعقاد إلى أحمد التباع، وأحمد عرابي إلى الرجل الأخضر، وأم كلثوم إلى جاي زي، وعبد الوهاب إلى الإعلامي سيد علي، وعروس البحر إلى الراقصة صوفينار. غير تماثيل قطونيل وقبضة مازنجر والببرونة. كلها صارت “كوميك” ذا انتشار واسع ونقد ذكي لما تمثله هذه الكتل الإسمنتية الغريبة.

السخرية الناقدة، تحولت على الفور إلى غضب من تمثال احتل واحدا من ميادين مدينة سوهاج في صعيد مصر، يحمل اسم “أم الشهيد” عبارة عن امرأة يتحرش بها جندي من خلفها. وهو الذي لفت نظر الجارديان وواشنطن بوست نقلا عن أسوشيتد برس، بتقارير ترصد التفاعل العام مع التمثال الغريب. التمثال المتحرش دافع عنه نحاته وجيه يني (60 عاما) وقال لـ”أسوشيتد برس” إنه يرفض أي اتهامات بعدم الاحتشام، والجندي يرمز إلى “روح الشهيد”، التي تحمي مصر. رغم ذلك فإنه بالفعل بدأ بتغيير التمثال، وإزالة الجندي تماما واستبداله بفرع زيتون تُمسك به يد المرأة، وحمامات بيضاء ترمز للسلام، وسيعلو رأس المرأة هلال.

الرمزية التي اعتمدها النحات في “أم الشهيد” بكل حمولتها القديمة والكليشيهة السخيفة، هي ما فتحت باب التأويل، ونظرا للوضع السياسي الحالي للبلد، بدا التمثال “بالصدفة” واقعيا في معناه كما ذهبت تعليقات مواقع التواصل الاجتماعي.

بعد الاهتمام العالمي، تكلم أخيرا وزير الثقافة الصامت إلى برنامج “السادة المحترمون” مع يوسف الحسيني، وقال إن هذه التماثيل تتجاوز التشويه إلى الجريمة، وإنه بصدد تكوين لجنة لحصر التماثيل، بعد قرار مجلس الوزراء بعدم إقامة تماثيل إلا بالرجوع إلى وزارتي الثقافة والآثار. وأن الوزارة لا تمثل طرفا في هذه التشويهات. وهو ما أكده الدكتور خالد سرور رئيس قطاع الفنون التشكيلية لـ”مراسلون” أن القطاع عرض على المحافظات ورؤساء الأحياء تقديم استشارتها إليهم في إقامة تماثيل، وأن مصر بها العديد من النحاتين الكبار، لكن أحدا لم يستفد بخبرات القطاع “التي يقدمها مجانا” على حد تعبيره.

حاول بعض المتذاكين، الدفاع عن هذه التماثيل، باعتبارها شكلا جديدا للنجت، منقبين في مدن العالم المختلفة عن مختلف التماثيل والمنحوتات المعاصرة، التي لا تعطي للنسب الواقعية أهمية، وبها قدر كبير من تشوهات النِسب أو غيابها تماما. وهو ما يسهل الرد عليه، إذ أن مسيرة النحت في أوروبا شهدت تحولات كبيرة امتدت لقرون من الحضارات القديمة إلى العصر الحديث، متخذة موقفا فنيا من الواقع وتمثلاته الفنية، تتراوح بين محاكاته الكاملة أو الثورة عليه باعتبارات جمالية. أما التماثيل المصرية ليست إلا نتاج قريحة موظفين حكوميين قرروا ملء الفراغ في الميادين ببعض الكتل، دونما أي موقف جمالي أو فني يذكر.. ولنتخيل المشهد: موظف حكومي يستصدر قرارا لبعض العمال بتلوين تماثيل أو إقامة بعضها بغرض “تطوير المدينة وتجميلها” فأي موقف فني في هذه الهيراركية الإدراية الحكومية التي يعرف الجميع الآن مآلها البصري الفادح.