في بيت أشبه بكوخ في دولة النيجر يسكن ضرار البراني (32 عاماً) منتقلاً من حياة القصور والرفاهية التي كان يعيشها في ليبيا، وذلك بعد خروجه منها هارباً عام 2011 على خلفية اتهامه بقتل أحد المتظاهرين أول يوم في ثورة فبراير بمدينة اجدابيا.

“لم أقتل أحدا”

في بيت أشبه بكوخ في دولة النيجر يسكن ضرار البراني (32 عاماً) منتقلاً من حياة القصور والرفاهية التي كان يعيشها في ليبيا، وذلك بعد خروجه منها هارباً عام 2011 على خلفية اتهامه بقتل أحد المتظاهرين أول يوم في ثورة فبراير بمدينة اجدابيا.

“لم أقتل أحدا”

هي ذات الجملة التي يرددها ضرار في كل مرة أحادثه فيها عبر وسائل الاتصال المختلفة، وبصوته الذي أصبح هادئاً متزناً مختلفاً عن نبرته الحادة السريعة التي عرفتها فيه أثناء وجوده في ليبيا يكرر “سأعود إلى ليبيا، ولكن عندما يعود إليها القانون”.

حال البراني كحال كثيرين اضطروا لمغادرة البلاد بسبب اتهامهم بتهم مختلفة أصغرها تأييد نظام القذافي وأكبرها قتل المتظاهرين أو الاعتداء عليهم أو على ممتلكاتهم، ولكن هذه الاتهامات لم يتم الفصل فيها أمام محاكم مختصة، أو حتى تسويتها عرفياً ضمن صلح مجتمعي ينهي فترة النزاع وطلب الثأر.

يعترف ضرار الذي كان جاري قبل الثورة في إحدى محادثاتي معه عبر “السكايب” أنه ليس مؤيداً لثورة فبراير، ويعترف أيضاً بأنه توجه بسيارته “تويوتا لاند كروزر” المعروفة بـ”المفخرة” لمكان تجمع المتظاهرين في الساعات الأولى من تحركهم، وذلك بسبب عمله في ما يعرف في ذلك الوقت بـ”جهاز الحرس الثوري” بالمدينة الذي كان يترأسه والده محمد البراني.

إلا أن سبب ذهابه كان البحث عن شقيقه الأصغر الذي كان مؤيداً للثورة بين المتظاهرين، “ولكنني لم أقتل أحداً” يصر على ترديد هذه الجملة وهو يعبث بلحيته الشقراء الكثيفة التي كان يحافظ دائماً على تشذيبها وتقصيرها عندما كان في ليبيا.

حياة جديدة

لم يكن أمام ضرار خيار في ذلك الوقت إلا الخروج من اجدابيا (165 غرب بنغازي)، بعد أن انتشرت هتافات الثورة بسرعة في كل شبر من أنحاء المدينة، متجهاً إلى بلدة النوفلية (455 جنوب غرب بنغازي) مسقط رأس والده، ومن ثم إلى طرابلس قبل سقوطها في أيدي الثوار في أغسطس من نفس عام الثورة، ليغادر بعدها ليبيا تاركاً وراءه طفله الأول في بطن زوجته، ولتبدأ حياة أخرى في إفريقيا لم تكن تخطر لذلك الشاب المدلل على بال.

كل شيء كان مختلفاً بالنسبة لضرار عند وصوله للنيجر التي تشارك ليبيا الحدود الجنوبية من جهة سبها، هذا ما قاله واصفاً النهار في تلك الدولة الفقيرة بأنه “أصفر”.

لم يكن ضرار يملك شيئاً حينها إلا مبلغاً من المال سرعان ما نفد بانتهاء أول شهرين، ذلك أنه استأجر في بداية الأمر ڤيلا سكن فيها لفترة ومن ثم خرج ليسكن في غرفة بفندق أقل تكلفة، اضطر لمغادرته عندما نفدت أمواله ليكتشف بعدها الحياة الحقيقية في صحراء لا تعترف على رمالها الملتهبة إلا بالقوي.

ومن الڤيلا إلى الفندق؛ وجد ضرار نفسه في بيت مسقوف بالصفيح، مستسلماً لحياته الجديدة، فكيف سيعيش؟ ومع من سيعيش؟ وهل سيعيش أصلاً؟ كلها أسئلة كانت تزاحم وحشة المكان المفروش بالتراب حتى في زوايا البيت الداخلية.

المهم البداية!

كان لابد لضرار أن يبدأ، والبداية كانت ببيع كل شيء يملكه في ليبيا، حيث باع عن طريق ابن عمه بيته الذي استبيح من قِبل الثوار في اجدابيا، بالإضافة إلى سيارة فارهة كان يملكها قبل مغادرته ليبيا، ليشتري شاحنة ويبدأ عليها بتجارة الملح التي رآها مناسبة في تلك الدولة.

البداية كانت خجولة بسبب المعوقات الكثيرة أمامه، والتي أهمها محاولة استغلاله من قبل التجار القدامى من النيجريين، “بسبب شكلي، أو لوني الأحمر، أو اعتقادهم أنني أملك المال الكثير، لا أعرف” يقول ضرار، ولكنه استمر رغم كل شيء.

ومن المعوقات أيضاً كانت اللغات المحلية المتعددة التي يتحدث بها النيجريون إلى جانب الفرنسية، فكان يكتفي بالابتسام وهز رأسه تارة خجلاً وغالباً خوفاً عندما يحادثه أحد أو تجتمع عليه جماعة ما وخاصة في بدايات عمله، ولكن وبعد أشهر بسيطة استطاع ضرار أن يتعلم ما يمكّنه من التواصل مع محيطه.

تغيرت ملامح ضرار شيئاً فشيئاً وهو يتجول بملحه تحت سطوة شمس إفريقيا الحارقة، فقد اكتسب لوناً أصهباً بدلاً عن لون بشرته الأحمر، وتجعّد شعره الذي كان يلمع دائماً بأجود أنواع الكريم، ولكن ذلك لم يكن إلا علامات على التعايش في بيئته الجديدة.

لقاء بعد غياب

استطاع ضرار بعد سنة وشهرين أن يتأقلم تماماً مع حياته الجديدة، متخذاً قراره بالاستقرار في ذلك البلد، وعليه فقد طلب من زوجته وأمه القدوم إليه، وفعلاً لم تتأخرا كثيراً في الوصول، ففي أول يوم من عام 2013 استقبل ضرار أهله في مطار نيامي، ولكنه لم يكن يرى أحداً أمامه سوى ابنه “محمد” الذي كان يبلغ من العمر 6 أشهر حينها، “حتى أمي لم أنتبه إليها”، وبعد موجة عناق وبكاء مع ابنه يقول ضرار “انتبهت لصوت أمي وهي تقول دوري الآن في البكاء معك”.

بعد أيام من استقبال ضرار لعائلته، قررت والدته العودة إلى ليبيا، وبعد أسبوع من عودتها جاءه خبر وفاتها بسبب فقر الدم الحاد، ليكون هذا أقسى خبر يعيشه ويتلقاه الابن البكر لأمه، “ليتها بقيت معي ولم تعد” يقول.

“الموت يلاحقني”

ضرار الذي كان يتنقل في ليبيا بسيارته المصفحة عندما كان آمراً لمعسكر الحرس الثوري باجدابيا؛ أصبح يتنقل في الغالب على رجليه بين قرى النيجر التي تجتاحها الأوبئة والأمراض والنفايات، وفي إحداها أصيب بحمى الملاريا وأخرى بالتيفود الذي كاد أن يودي بحياته لولا خلطات الطب الشعبي التي عالجه بها أحد الأفارقة الذين تعرف عليهم في الغربة.

شُفي ضرار من المرضين ولكنه صُدِم بمرض آخر وصفه بأنه “طريق واضحة نحو الموت”، فبعد أن اشتد عليه الألم في المعدة توجه إلى مركز طبي في أغاديس أكبر مدن النيجر، ليخبروه بنتيجة التحاليل والكشوفات التي أظهرت أنه مصاب بسرطان القولون، “ولكن لا مفر من الموت يا صديقي”.

موت آخر نجا منه البراني عندما أوقفه قطاع الطرق في إحدى رحلاته التجارية نهاية 2015، وتلك التجربة كانت أقساها عليه لأنه رأى الموت بعينيه حسب كلامه، فقد كسرت تلك العصابة فكه السفلي وكتفه الأيسر بمؤخرة بندقية كلاشن كوف، وأخذوا ماله الذي جمعه طوال السنوات الماضية ويقدر بـ 23 ألف دولار، أما الشاحنة فقد تركوها بعد أن ثقبوا إطاراتها بالرصاص أثناء مطاردته.

“لا أدري كيف عدت بتلك الإطارات المثقوبة والموت يلاحقني” يتنهد ضرار عبر “السكايب” وهو يحدثني من إحدى المكاتب التي توفر خدمة الإنترنت في النيجر، وهو يرتشف قهوة من كوب قديم يده مكسورة.

العقارب صديقتي

كل شيء تغير في شخصية ضرار، فقد أصبح صبوراً جداً بسبب قيادته للشاحنة أياماً تصل إلى شهر أحياناً، وتحول إلى شخص حليم بعد أن كان عصبياً من الطراز الرفيع، وذلك حتى يتسنى له العيش وسط أصحاب الأرض.

حتى أكله تغير من أصناف الطعام الشهية إلى أكل الجراد المقلي، ولم يعد يستحم كثيراً لندرة المياه في تلك القرية التي يعيش بها بعد أن كان يستحم مرتين يومياً، “تغيرتُ بالكامل وبدأتُ أنسى أنني ليبي”.

من الأشياء التي يرويها ضرار بطرافة أنه لم يكن يحب أن تقع ذبابة عليه أو تلامسه، ولكنه الآن يلاعب العقارب السامة ويلاطفها، بل ويجعلها تمشي على جبهته، “بعد خمس لسعات أصبحت العقارب صديقتي”.

زهد ضرار في العودة إلى ليبيا، فهناك حياته الجديدة التي قال إنها تناسبه في بيته البسيط، ولا شيء يربطه ببلده الأصلي خاصة بعد أن تخلى أقاربه عنه في بداية محنته، “ربما أعود إلى ليبيا يوماً، ولكن بعد عودة القانون” يختتم ضرار بهذه الجملة التي كان يكررها طوال الحديث مع نفيه قتل أي أحد في ليبيا.