شجعت الدولة خلال السنوات الماضية المواطنين علي تقديم بلاغات ضد مواطنين آخرين، والتي من الصعب وضع ضوابط او حدود لها، عبر حملات وقوانين وقرارات مختلفة. غالبا ما تخص القضايا حرية الرأي والتعبير، وغالبا ما تكون التهم  تظاهر، ارهاب، خدش للحياء، او ازدراء للأديان.

شجعت الدولة خلال السنوات الماضية المواطنين علي تقديم بلاغات ضد مواطنين آخرين، والتي من الصعب وضع ضوابط او حدود لها، عبر حملات وقوانين وقرارات مختلفة. غالبا ما تخص القضايا حرية الرأي والتعبير، وغالبا ما تكون التهم  تظاهر، ارهاب، خدش للحياء، او ازدراء للأديان.

في مارس الماضي قام مواطن مصري، بتقديم بلاغًا ضد اللاعب الأرجنتيني ولاعب فريق برشلونة الإسباني ميسي، يتهمه فيه بالإساءة إلى الشعب المصري وإهانته، على خلفية تبرع اللاعب بحذائه الكروي لصالح الفقراء بمصر. وقال المواطن في البلاغ رقم 2308 اداري قسم العطارين ان ما فعله ميسي إهانة غير مقبولة،  اثار الأمر سخرية كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ورغم سخرية الأمر الا أن هناك بلاغات  ضد آخرين اكثر جدية، وبعضها ينتهي بالسجن.

في نفس الشهر تقدم مواطن آخر يدعي طارق محمود ، محامي،  ببلاغ  للنائب العام حمل رقم 3725 لسنة 2016 ضد كلا من عايدة سيف الدولة مدير مركز النديم للتأهيل النفسي لضحايا العنف والتعذيب، ونجاد البرعي رئيس المجموعه المتحدة وتامر علي المحامي بمركز هشام مبارك وجمال عيد رئيس الشبكة العربية لمعلومات حقوق الانسان وحسام بهجت مؤسس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، متهمهم بالحصول على تمويل أجنبي، ومطالبا بالتحفظ على مقراتهم. وإصدار قرار بإدراج اسمائهم على قوائم الممنوعين من السفر وقوائم ترقب الوصول.

اعلان موقف ام  تصور بحماية المجتمع؟

قضت محكمة جنح احداث بني مزار بالمنيا في فبراير الماضي حكما بحبس 4 من الأطفال الأقباط يتراوح عمرهم بين 15 و17 عام 5 سنوات، فيما حكم بإيداع أصغرهم سنّاً في إحدى المؤسسات العقابية، وذلك قبل اخلاء سبيلهم بكفالة 10 الاف جنيه علي ذمة القضية في 27 مايو الماضي. هؤلاء الأطفال يواجهون تهمة ازدراء الدين الاسلامي والسخرية من شعائر صلاة المسلمين، بسبب فيديو لفقرة مسرحية تم بثها عبر الإنترنت، يدين داعش بعد حادثة ذبح اقباط المنيا في ليبيا في فبراير 2015، فيما كان قد تم الحكم على المدرس المشرف علي العرض بالحبس 3 سنوات، وكانت البلاغات قد تقدم بها اهالي القرية بعد أن تسرب الفيديو من هاتف المدرس بعد سرقته، اعقبه مسيرات غاضبة وعنف طائفي تجاه المدرس وبعض اقباط البلدة انتهت بتهجيره واسرته، ثم برفع الدعوى.

وفي ديسمبر من العام 2015 قضت محكمة مصرية بحبس مقدم البرامج الدينية إسلام البحيري عاما واحدا بعد قبول استئناف تقدم به ضد حكم سابق بسجنه خمس سنوات، بعد إدانته بازدراء الدين الإسلامي. وتعود وقائع القضية إلى بدايات 2015، عندما تقدم محامون ببلاغات ضد البحيري يتهمونه فيها بازدراء الدين الإسلامي عبر برنامج كان يقدمه على إحدي الفضائيات المصرية الخاصة.

تعتقد د. ريم سعد الباحثة واستاذ الانتربولوجي في الجامعة الأمريكية  أن موضوع ابلاغ مواطنين عن آخرين قديم، ولم يكن فقط عبر السنوات القليلة الماضية، وأن الدولة ليست هي من تحول المواطنين إلى “مخبرين” بشكل مباشر، بل أن هذا هو اتجاه مجتمعي أصيل  مدفوع بتصور ثقافي سائد عن المواطن الصالح المسوؤل عن حماية مصر.

ويفترض خالد علي المحامي الحقوقي والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية عدة دوافع وسياقات للابلاغ من واقع خبرته القانونية والقضائية، فهناك افراد يدفعهم شعور الوطنية، أو رغبة هذا الشخص في إعلان موقف ما سياسي او اخلاقي. وقد يكون الدافع التعبير عن اتجاه فكري معين، وهناك حالات اخرى تكون حماية قيم المجتمع الدينية او الاخلاقية هي الدافع فيها، وهناك مستوى آخر من الدعاوى تكون بهدف تحقيق شهرة ما، وهناك مستوى أخير ان يكون الشخص مدفوعا من شخص آخر او من واحدة من أجهزة الدولة. فالقانون في تفسير علي يسمح لأي شخص برفع أي قضية، ولكن النيابة هي التي تقرر تحريك الدعوى، والمحكمة تقرر جواز الخصومة والاساس القانوني واختصاصها من عدمه والصفة والمصلحة أو الضرر في الدعوى.

التحريض ومعيار تحريك البلاغات

ربما تعود مثل هذه القضايا الي سنوات قبل الثورة، ففي مايو 2008، اسقط مجلس الدولة تهما في الدعوي رقم 15844 لسنة 61 قضائية، المقامة ضد الكاتبة نوال السعداوي، بوضع نوال السعداوي على قوائم ترقب الوصول، وإسقاط الجنسية المصرية عنها، بسبب نشرها مسرحية باسم ” الإله يقدم استقالته فى اجتماع القمة “، تحت دعوى تضمن هذه المسرحية إساءة للذات الإلهية والأديان السماوية والقرآن الكريم. وفي اكتوبر 2011 رفضت محكمة مصرية دعوى قضائية ضد الممثل عادل امام والكاتبين وحيد حامد ولينين الرملي، والمخرجين نادر جلال وشريف عرفة تحت دعوي التعدي على الاسلام في اعمالهم وازدراء الدين الاسلامي والجماعات الدينية مطالبة بمنع عرض هذه الاعمال.

معيار تحريك القضايا المرفوعة بالنسية لعلي قد يكون نابعا من الاهتمام الاعلامي، او دفع القضية من جهة ما، وقد يكون السبب خلف تحريك القضايا من النيابة او القضاء اتجاهاتهم السياسية ايضا او انحيازاتهم الفكرية، فبرغم ان الحق في التعبير مكفول في الدستور لكن حدود الحق في التعبير تختلف من قاضٍ لآخر وهي قيم اخلاقية او دينية غير موحدة، لأن مساحة تدخل عقائد القضاة الشخصية في النزاع كبيرة.

وهو يعتقد أن الدولة تخلق هذا بشكل غير مباشر، أو بطريقة مباشرة سرية، فحين يخرج برنامج تليفزيوني اعداده من المخابرات ويحرض علي مواطنين فهذا فعل الدولة، كما أن قانون مثل مكافحة الارهاب يحرض بشكل غير مباشر حيث يجعل المواطنين مرتبكين ويحاولون منع تعرضهم للعقاب بسببه، بالاضافة الي الاجهزة الامنية التي تحرض على هذا الفعل، وهو شكل من اشكال السيطرة والضغط والتأثير في شكل الوعي المجتمعي، ومنع الافكار التي لا ترغبها الدولة بارهاب الاخرين.  

محاكمة الخيال

في اغسطس 2014 تقدم محامي تعويضات يدعي هاني صالح توفيق ببلاغ للنيابة العامة، يتهم فيه الكاتب والصحفي أحمد ناجي وطارق الطاهر رئيس تحرير مجلة أخبار الأدب بخدش الحياء بسبب نشر الجريدة المملوكة للدولة فصلا من رواية للكاتب وهي رواية استخدام الحياة بتاريخ 3 أغسطس من نفس العام، حول البلاغ الي المحكمة بقضية رقم 9292 لسنة 2015 جنح بولاق ابو العلا.  

في مرافعتها، والتي اعتبرها المحامون خصومة شخصية وليست قانونية، أمام محكمتي الدرجة الاولى والاستئناف، والتي طالبت بتطبيق أقصى العقوبة، استندت النيابة إلي اقوال مثل ان البعض توهموا ان الحرية ولا سيما الحرية الفكرية تقتضي التفكير من غير ضوابط ولا قيود فتسببوا بذلك في صدم المشاعر الإنسانية وهزوا معايير القيم العليا وعاثوا في الأرض فسادا، واستندت الي المادة 46 من الدستور والتي تخص الحفاظ على الهوية الثاقية المصرية، وحسن السلوك والحديث الذي يراعي المبادئ الاخلاقية، بالاضافة الي بعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن “العذاب الأليم في الدنيا والآخرة” لمن يشيعوا “الفاحشة”.

أما القاضي الذي حكم بالبراءة في أول درجة، قبل استئناف النيابة، فقد استند إلي المادة 67  من الدستور والتي تكفل حرية الابداع وتشجيعه وعدم اجازة توقيع عقوبات سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الادبي أو الفني او الفكري. وأن ما تضمنه ذلك العمل الادبي من الفاظ وعبارات ارتأت النيابة العامة انها تخدش الحياء به ، هو في اطار عمل ادبي وسياق عام لقصه حاكها المتهم الاول من وحي خياله.   

حين وصلت القضية الاستئناف، وفي جلسة 20 فبراير 2015 صدر حكم الاستئناف بحبس ناجي عامين وتغريم طارق الطاهر 10 آلاف جنيه. استند القاضي الي توفر أركان جريمة خدش الحياء العام، إذ ثبت بعد مطالعة رواية “استخدام الحياة” أن الكاتب استخدم ألفاظا وعبارات بذيئة بذاتها وأخذ يرددها بفصول الرواية جميعا. وأنه تناسي أن لحرية الفكر ضوابط تتقيد بها وأن تكون تلك الحرية فى إطار المقومات الأساسية للمجتمع من دين وتقاليد وقيم أخلاقية راسخة فى المجتمع المصري، وأن الكاتب خالف ذلك بكتابته تلك الرواية المسمومة وسعى الى نشر فصولها بإحدى الصحف المملوكة للدولة.

تقدمت هيئة الدفاع عن احمد ناجي بطلب نقض الحكم في ابريل الماضي. وفقا لياسمين حسام الدين، محامية حقوقية وصديقة مقربة لناجي، وهي في فريق الدفاع عنه في النواحي البحثية والاعلامية ، ففي بداية القضية تصور ناجي أن الامر “هزار”، وبعد البراءة تعامل مع الامر أنه “مصادفة عبثية”، وكان لديه يقين أن وكيل النيابة يعاديه بشكل شخصي ويكن له الكراهية، وتصوروا مخطئين أن العقوبة لن تتجاوز الغرامة، فاحمد ناجي هو أول شخص يسجن في قضية نشر في التاريخ الحديث وفقا لحسام الدين. يقضي ناجي الآن فترة سجنه في طرة يعلّم عساكر الأمن المركزي المحبوسين القراءة والكتابة والشعر، وفتح نادي للأدب في زنزانته لباقي المساجين، وكان أخوه قد تسلم بالنيابة عنه مؤخرا جائزة ادبية أمريكية في حرية الابداع.

كيف يصبح الابداع مزدريا أو خادشا؟

يواجه محمود عثمان، محامي وباحث قانوني في برنامج حرية الابداع بمؤسسة حرية الفكر والتعبير وموكل أحمد ناجي حتي النقض الذي تولاه المحامي الحقوقي نجاد البرعي، بلاغات مماثلة اثناء عمله، ففي نوفمبر 2015 قام المحامي سمير صبري برفع دعوى قضائية أمام القضاء الاداري لوقف برنامج “ابلة فاهيتا” وبرنامج اخر تحت دعوي خدش الحياء العام، كما قام مواطن برفع دعوى قضائية ضد السيناريست أحمد عاشور متهمه باهانة القضاء ومطالبا بمنع تصوير مسلسله لأن البحث في السيناريو يشير أن “ريا وسكينة” ليستا مجرمتين بل كانتا جزء من الحركة الوطنية ضد الانجليز وتعرضتا للتشويه عقابا لهما على وطنيتهما.

يعتقد عثمان أن الدولة ترهب أي مبدع حر يتناول أي شيء يخص الاديان أو الجنس او هيبة السلطة والدولة، وبسبب عدم منطقية الاتهامات كما في قضية ناجي لا يستبعد أن يكون السبب سياسيا، كما أنهم يجعلون من سياسات الدولة خط أحمر، لذا يحاربون أي عمل ابداعي يسخر من سياسات الدولة،  لذلك يحاكمون فرقة “اطفال شوارع” علي فيديو ساخر.

في رأي عثمان السلطة تتجاوز عن قانون المرافعات الذي يشترط المصلحة الشخصية المباشرة او الضرر المباشر كأساس لرفع الدعوي، وفي قضايا خدش الحياء لا يوجد ضرر شخصي، لكن الدولة تطوع القوانين لمحاربة الابداع. والجرائم بدون قصد جنائي غير مجرمة، فلا يحق لشخص الابلاغ عن تظاهرة طالما لم تضر بمصلحته، حسبما تري حسام الدين.

من ناحية أخرى فان الدولة لم تضع ضوابط او معايير لتحديد الفعل الخادش للحياء، فمن المستحيل تقييم اعمالا أدبية وفنية بوصفها مبتذلة ام صالحة لأن هذا يختلف من شخص لآخر ومن سياق لآخر. يقول عثمان أن حل هذا الأمر في تطبيق الدستور، فلا يمكن توصيف اي عمل ابداعي انه اجرامي (خادش للحياء، او مهين للقضاء، او يزدري الأديان) ، ومن ثم يجب الغاء الحبس في قضايا الابداع والنشر، ولا يجوز ان يكون هناك مواد في قانون العقوبات ضد النشر والابداع الي في حالات التحريض او التمييز، وحتى في هذه الاستثناءات لا يجوز الحبس الا اذا ترتب عليه فعل عنف او تمييز.

منظومة قضائية منحازة؟

تشير حسام الدين إلي أن قانون السلطة القضائية يمنع القضاة ان يكون لهم اراء سياسية او التعبير عن معتقداتهم الشخصية في القضايا المنظورة امامهم، لكن هذا يحدث يوميا، على منصات المحاكم. ودعاوى المخاصمة ضد القضاة المتحيزين لا ينظر فيها، فقاضي مثل محمد ناجي شحاته، اقيمت دعاوى مخاصمة ضده، وحفظت كل الدعاوى، لأنه عبر عن رأيه السياسي اكثر من مرة ضد الثورة على منصة المحكمة اثناء انعقاد الجلسة، وهذه جريمة وتخالف قانون السلطة القضائية ويستحق العزل على اثرها.

ومثله يفعل وكلاء النيابة، تقول حسام الدين في قضية أحمد ناجي “الظابط سألني في اليوم الاول في قسم بولاق عن القضية المتهم فيها، فقلت له خدش حياء (نشر) فقال لي “يعني مش ازدراء اديان؟ عشان لو ازدراء اديان هاطلع ميتين امه”، وفي مرافعة وكيل النيابة فضل يشير لناجي بشكل شخصي باعتباره منحل ومنحرف، اما قاضي الاستئناف قال للمحامين اثناء الجلسة “اللي كاتبه ده حرام، وماليش دعوة بالدستور”. وتضيف أن كثير من وكلاء النيابة في أكثر من قضية يخبرونهم انهم “يأخذون تعليماتهم من الأمن الوطني”. وبالتالي فمن المهم كما يطرح عثمان تدريب القضاة ووكلاء النيابة ليفهموا مواقعهم في الدولة، حتى لا يسقطوا انتماءاتهم الشخصية وأرائهم في القضايا التي ينظرون بها، وأن يكونوا موضوعيين ومحايدين ويخضعون للرقابة الحقيقية.

تسخر حسام الدين من الوضع قائلة إنه برغم ان الأخوان حاولوا فعل امورا مماثلة الا أنهم خافوا من الغضب الشعبي ، لكن الآن السلطة التي تدعي التحرر والمدنية هي اكثر فاشية واكثر تطرفا من الآخوان. فالرئيس يطرح نفسه باعتباره راعي القيم والاخلاق واكثر تدينا وأدبا ولا ينطق بالعيب. الامر بالنسبة لها سياسي والرسالة واضحة ” اي حديث يجب ان يكون داخل الاطار” لأن اي نوع من الحريات سيفتح الباب لانواع اخرى من الحريات، وبالتالي يكون الحل تكميم الافواه في كل المجالات، وهذا هو الشكل الكلاسيكي للدكتاتورية العسكرية.