كانت شاحبة الوجه رغم نشاطها الواضح وروح الدعابة التي لا تفارقها. وضعت الفنانة التشكيلية أمل الديلاوي (42 عاماً) فنجان القهوة على الطاولة، ليداهمها هدوء فجائي ملحوظ فتنطق بضع كلمات قائلة “حسناً يا أستاذ، هكذا بدأت حكاية صراعي مع المرض.. بمقتل طبيبي”.

كانت شاحبة الوجه رغم نشاطها الواضح وروح الدعابة التي لا تفارقها. وضعت الفنانة التشكيلية أمل الديلاوي (42 عاماً) فنجان القهوة على الطاولة، ليداهمها هدوء فجائي ملحوظ فتنطق بضع كلمات قائلة “حسناً يا أستاذ، هكذا بدأت حكاية صراعي مع المرض.. بمقتل طبيبي”.

هذه السيدة هي واحدة من آلاف المرضى الليبيين المقيمين في تونس بغرض العلاج، والمقدر عددهم بـ50 ألف مريض ليبي، وتعاني كغيرها في هذه الفترة من تبعات الضائقة المالية التي تمر بها ليبيا، ومن ارتفاع سعر الدولار مقابل العملة الليبية ليصل إلى 4 دينار مقابل دولار أمريكي واحد للمرة الأولى عبر تاريخه.

لكن تجربة أمل مع مرض السرطان لم تزدها إلا إصراراً على الحياة، وكانت سبباً مباشراً في نجاح مشروعها الخاص الذي تقول إنها أنفقت حتى اليوم نصف أرباحه على العلاج.

اكتشاف المرض

كون أمل من محبي تربية القطط فإن ذلك جعلها عرضة للإصابة بأكياس مائية في الغدة الدرقية، وهو ما اعتقدته في البداية حين توجهت لعيادة الطبيب الذي أخبرها أن الأمر أكثر خطورة، وأن الانتفاخ في غدتها سببه وجود كتلة سرطانية.

كان الخبر صادماً لكنها قررت مواجهته، وإذ نصحها الطبيب باتخاذ إجراء سريع طلبت منه مهلة عشرة أيام لتعرض قططها للتبني، إلا أن القدر قال كلمته: “تفاجأت بمقتل الدكتور عبد العظيم الطبجي خلال هذه المدة”.

تغيرت نبرة صوت أمل بشكل ملحوظ وهي تصف الحالة النفسية التي مرت بها عقب مقتل الطبيب المشرف على علاجها بسبب قذيفة أصابت بيته عام 2013، ثم عاودت الابتسام وقالت “قررت بعد فترة عزلة قوقعت بها نفسي أن أبدأ علاجي في تونس”.

لا تبتزني

“رغم مرور فترة طويلة على اكتشافي للمرض، إلا أنني حتى تلك اللحظة لم أكن قد أخبرت أهلي بالأمر” تقول.

ولأسباب تتعلق بشخصية أمل الاستقلالية، قامت بالسفر في الحافلة وحيدة عبر البر باتجاه تونس، لكن دخولها إلى هذا البلد تعرقل، حيث تم إيقافها عند الحدود التونسية دون مبرر إلا “الفساد” حسب قولها، فقد حاول ضابط الحدود ابتزازها عله يحصل على شيء من المال مقابل فسح المجال لها للدخول، ولأنها رفضت الانصياع طبعاً لم تفلح في ولوج الأراضي التونسية.

توقفت عن الحديث هنا وأخرجت إلى شاشة هاتفها صورة توثق عودتها خائبة من تونس ذلك اليوم، حيث كانت يائسة الملامح ولكن مبتسمة ترفع أصابع النصر على محاولة الابتزاز، كجندي يقف جريحاً في أرض المعركة.

مواجهة مباشرة

لملمت أمل نفسها بعد هذه الخيبات وقصدت الجارة الشرقية مصر، حيث بدأت المواجهة المباشرة مع مرضها، وأول ما قامت به هو خسارة 15 كيلوغراماً من وزنها لتفادي أي مشاكل صحية أخرى، وخضعت لجلستي علاج كيماوي للحد من انتشاره بعد عملية دامت ست ساعات متواصلة استؤصل خلالها حوالي 72% من الورم.

“أثناء عودتي لطرابلس، رفضت أن أضع شالاً أو قبعة على رأسي لإخفاء الصلع”، كانت صحة أمل تعود إلى سابق عهدها تدريجياً، رغم الأعراض البادية عليها جراء العلاج الكيميائي كسقوط الشعر والأظافر، لكنها وبذات الروح التي تقودها لتحطيم كل ما هو نمطي رفضت أن تقوم بإخفاء رأسها.

“تعمدت ذلك لأنني أردت التركيز على درجة القبول الاجتماعي للناجين من مرض السرطان” حسب قولها، ولهذه الغاية شاركت في العديد من المحافل وورش العمل التوعوية لمرضى السرطان والتنمية البشرية، وأصبحت بعد مدة وجهاً مألوفاً لأغلب الجمعيات التطوعية في ليبيا.

العلاج مكلف

تحملت أمل تكاليف العلاج حتى هذه المرحلة على نفقتها الشخصية، لأن الشركة الأجنبية التي كانت تعمل بها في طرابلس غادرت البلاد بعد حرب المطار عام 2014.

“بعد العودة من مصر لم أجد في جيبي إلا 100 دينار”، وكان هذا تحدياً جديداً لأمل العاطلة عن العمل والتي تحتاج متابعة بقية علاجها، حيث كان يتحتم عليها مباشرةً أن تقوم بالكشف عن سرطان الثدي، وهذا الكشف “ثمنه باهض” بحسب وصفها، الأمر الذي دفعها إلى البحث عن مصدر للمال، ومن هنا بدأت فكرة جديدة تلوح في بالها.

تمارا

بعد أن فشلت في العثور على عمل في مجال اختصاصها فكرت في ابتكار مشروع خاص بها، وبسبب خلفيتها الفنية وحبها للشوكولاتة قررت مزجها مع المورد الطبيعي ذو الجودة العالية وغير المستغل في ليبيا.. التمر.

“تمارا” كان اسم منتجها، والاسم يعني “الشجرة المثمرة”، وبمجرد الترويج لمنتجاتها عبر الفيسبوك لاقت “رواجاً كبيراً” حسب قولها، وبدأت تنهال عليها الطلبات لكميات من المنتج أصبحت تقدم في المناسبات والأفراح، لأنه لم يكن يشبه أي شيء آخر موجود في السوق.

كانت فكرة المشروع في البداية لتوفير مورد يغطي تكاليف باقي العلاج في تونس، ولكن العمل ازدهر وأصبح لدى أمل اليوم معمل في طرابلس ومخزن وموظفون يعملون لديها، إلا أنها ترفض فتح فروع أخرى لتمارا لأنه حسب قولها “ليس منتجاً تجارياً بقدر ما هو لمسة شخصية، هذا منتج أمل وليس المحل”.

ورغم ما يحققه مشروعها من أرباح لا زالت تجد تكاليف الإقامة وعيادة الأطباء في تونس مرتفعة جداً، ما اضطرها لمشاركة الشقة التي تستأجرها مع زميلة لها.

وضعت أمل جانباً فنجانها الذي خلا من القهوة، وقدمت لي يدها مصافحة وغادرت، لأكتشف بعد خروجها أنها دفعت ثمن قهوتي كذلك، كيف لا، فسيدة مثلها ستتمرد بلا شك على الصورة النمطية لـ”الجنتلمان” التي حاولت الظهور بها.