لم يكن أمام سالم الخيتوني من سبيلٍ لحل مشكلة المياه في منزله سوى الحصول عليها عن طريق وصلة أنابيب غير نظامية يربط بها خزان المياه بالخط الرئيسي للنهر الصناعي المتوجه إلى طرابلس عبر أراضي منطقته سوق الخميس (45 كيلومتر غرب العاصمة).

يقول الخيتوني أنه اضطر والعديد من أهالي المنطقة إلى توصيل خط مياه بهذه الطريقة بعد أن طفح بهم الكيل من شراء مياه الصهاريج باهظة الثمن.

لم يكن أمام سالم الخيتوني من سبيلٍ لحل مشكلة المياه في منزله سوى الحصول عليها عن طريق وصلة أنابيب غير نظامية يربط بها خزان المياه بالخط الرئيسي للنهر الصناعي المتوجه إلى طرابلس عبر أراضي منطقته سوق الخميس (45 كيلومتر غرب العاصمة).

يقول الخيتوني أنه اضطر والعديد من أهالي المنطقة إلى توصيل خط مياه بهذه الطريقة بعد أن طفح بهم الكيل من شراء مياه الصهاريج باهظة الثمن.

هذا الرجل واحد من حوالي ثلاثين ألف نسمة يعيشون في منطقة سوق الخميس، جميعهم لا تصل المياه إلى منازلهم، ذلك أن المنطقة استحدثت منذ حوالي 15 عاماً، أي بعد وضع مخططات تنفيذ مشروع النهر. وفيما لم تشملهم تلك المخططات لم تقم الدولة بتوفير أي حلول بديلة للمنطقة.

النهر الصناعي

بدأت القصة عند اكتشاف كميات هائلة من المياه في الجنوب الشرقي لليبيا أثناء التنقيب عن النفط في عهد الملك إدريس السنوسي، ولكن بسبب الميزانية الضخمة التي يحتاجها استخراج المياه من باطن الأرض وإيصالها لمدن الشمال فقد تم صرف النظر بشكل مؤقت عن المشروع في ذلك الوقت.

في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي تم فعلياً البدء في مشروع استخراج هذه المياه، وحمل هذا المشروع اسماً يليق بمشاريع معمر القذافي المتهوّرة: “النهر الصناعي العظيم”.

تقوم فكرة المشروع على استخراج المياه من الآبار الجوفية في الجنوب وإيصالها إلى مدن الشمال عبر أنابيب ضخمة يصل قطر كل واحد منها إلى 4 أمتار، بتكلفة إجمالية وصلت إلى 23.3 مليار دولار أمريكي.

أنشئت في ذاك الوقت خمس منظومات مائية موزعة على مناطق ليبيا الرئيسة. هذه المنظومات تتحكم في تدفق المياه إلى المدن والمزارع. وقد بدأ تدفق الماء بشكل فعلي من خلال هذه المنظومات عام 1993.

بعد الثورة

يقول الخيتوني إن أهالي منطقته قبل الثورة حاولوا مراراً مد خطوط المياه من الخط الرئيس المار عبر المنطقة إلى مدينة طرابلس، لكن الجهات الأمنية منعتهم من ذلك، وكانوا يخافون من العقاب الذي يحل بكل من يتعدى على ممتلكات الدولة.

لكن ومع انشغال البلاد بمشكلات الأمن والسياسة بعد أحداث فبراير 2011 سارع الآلاف إلى الحصول على ماء الشرب بطرقهم الخاصة كما هو حال الخيتوني.

سليمان عبود مدير مكتب الإعلام بوزارة الموارد المائية يعزو عدم وصول المياه لعدة مناطق ليبية من بينها سوق الخميس، بأن المخطط لم يشملها. فالكثافة السكانية بحسب قوله استحدثت بعد مخطط النهر الصناعي الذي تم وضعه في ثمانينات القرن الماضي. وأضاف أن الأهالي يرون أن الاستفادة من مياه النهر “حق مشروع”، فمنهم من يسعى للحصول على مياه للشرب، وبعضهم لغرض إقامة مشروع زراعي.

المطالبات بحق الاستفادة من المياه تأتي من واقع أن تكاليف إنشاء مشروع النهر الصناعي شارك فيها جميع موظفي الدولة الليبية، حيث كانت ضريبة النهر لصناعي تستقطع من رواتب الليبيين حتى صدور قرار من قبل المجلس الانتقالي بعد 2011 بإيقافها.

في حين أن هناك العديد من المدن والقرى والمناطق خارج العاصمة طرابلس تشتري المياه وتنقلها بسيارات النقل، وتترواح أسعار المياه المنقولة عبر السيارات التي تحمل 30 ألف لتر، بين خمسين إلى مائة وثمانين ديناراً بحسب المنطقة ودرجة توفر المياه فيها.

“فتوى مائية”

قانون المياه الليبي رقم (3) لسنة 1983 في المادة الثانية منه ينص على أن “مصادر المياه هي ملك للشعب، ويلتزم كل شخص بالمحافظة عليها وعدم الإسراف في استخدامها”، كما أن قانون الجرائم الاقتصادية رقم (2) لسنة 1979 يعاقب بالسجن والغرامة المالية كل من “يلحق ضرراً في الإنتاج الوطني والذي يسبب إغلاقه أو عرقلته ضرراً بالمنشآت العامة والخاصة”.

تطال هذه النصوص القانونية من يتعدون على خط أنابيب النهر الصناعي، ولكنها في نظر وزارة الموارد المائية ليست كافية، حيث سعت الوزارة في سبيل تخويف الناس الذين تحصلوا على المياه بطريقة غير قانونية للحصول على فتوى من دار الإفتاء تبين حكم هذا الفعل شرعاً.

وبحسب كلام المتحدث باسم الوزارة فإن دار الإفتاء أفتت في بعض الحالات بالتحريم فيما يخص التعديات على مسارات النهر، خصوصاً في جبل نفوسة غرب طرابلس.

موت مليون شجرة 

الخطورة بحسب عبود ليست في نقص الكميات المخصصة من المياه بل في “خراب المنظومة بالكامل”، مدللاً على كلامه بحادثة انقطاع المياه عن بعض مناطق غرب طرابلس لأكثر من سبعة أشهر بسبب تعديات وقعت على مسارات النهر في منظومة “الحساونة” (جنوب طرابلس). هذه الحادثة  تسببت في موت أكثر من مليون شجرة مثمرة في مناطق غريان والرياينة (غرب طرابلس) حسب قوله.

وفي حال انقطعت المياه عن العاصمة طرابلس بسبب خلل في المنظومة نتيجة الوصلات غير النظامية على مسارات المياه فستحتاج عملية إصلاحها عدة أشهر، يقول عبود، لأن قطع الغيار لا يمكن توفيرها بشكل سريع، مبينا أن الوصلات التي يقوم الناس بتركيبها تسبب تآكلا في صمامات الخط الرئيسي، وتسرب أكثر من ربع كمية المياه المنقولة، محذّرا من احتمال انهيار منظومة المياه بالكامل إذا ما استمر الاعتداء على المسارات الرئيسة.

خسائر فادحة

يؤكد المهندس “خالد ضبوح” مدير خزان التجميع والموازنة بمشروع النهر الصناعي (20 كيلومتر جنوب اجدابيا) أن المشروع يتلقى خسائر فادحة بسبب الوصلات غير النظامية، فحسب كلامه وصلت تكلفة إصلاح ما أفسدته بعض هذه الوصلات في مدينة اجدابيا إلى أكثر من 100 ألف دينار ليبي (77 ألف دولار أمريكي).

ضبوح وضح أن الصيانة في الأوضاع الحالية هي أمر بالغ الصعوبة، ولكن ليست الخسائر المالية فقط هي التي تزعجه، فقد كان متضايقاً بشكل كبير عندما تحدث عن حجم المياه التي تتم خسارتها أثناء صيانة كل ضرر، والتي تصل إلى أكثر من 70 ألف متر مكعب في كل مرة.

إلى ذلك يضيف المهندس محمد الحجاجي مدير إدارة منظومة “الحساونة – الجفارة” بمشروع النهر أن 160 بئراً مائياً من الآبار التي تغذي النهر متوقفة عن الإنتاج من أصل 484 بسبب الوصلات غير النظامية.

حسب الحجاجي فإن المستهدف في الأصل كان إيصال 2 مليون لتر مكعب من المياه يومياً إلى طرابلس، بينما المناطق التي لا تتوفر بها مياه خارج العاصمة يمكن أن تُعوّض بحفر آبار ارتوازية، وهو ما يصعب تنفيذه داخل المدينة خصوصاً بالأماكن المكتظة بالمباني والطوابق المتعددة. “الآن نحن ننتج فقط 1.2 مليون لتر يوميا، فيما يتسرب أكثر من 300 ألف لتر بسبب التعدي على المسارات” يقول المسؤول في مشروع النهر.

الاعتداءات على مسار المنظومة تتم بواقع وصلة غير نظامية بعد كل مسافة 600 متر وفق ما كشف الحجاجي لـ”مراسلون”، فيما الخطوط التي يتم توصيلها هي خطوط صغيرة جداً مقارنة بحجم المسارات الهائل، “ما ينذر بحدوث انفجارات في أي لحظة نتيجة الضغط المرتفع لتدفق المياه، والذي بدوره سيتسبب في إهدار كميات كبيرة جداً من المياه ناهيك عن احتمالات توقف المياه وانقطاعها” حسب قوله.

حلول مؤقتة

لحل مشكلة الاعتداءات يقول المتحدث باسم وزارة الموارد المائية إنه تم تشكيل لجنة مؤخراً من الوزارة وشركة المياه والصرف الصحي وجهاز النهر الصناعي وأعضاء عن البلديات التي تعاني من هذه الاعتداءات على مسارات النهر بها، ووصلت اللجنة لحلول مؤقتة يمكن التعجيل بها إلى حين استكمال مشاريع البنية التحتية بحيث يتم منع الاعتداءات.

الحلول تمثلت في مقترح لوضع فتحات في خطوط النهر لتزويد السكان بالمياه لغرض الشرب، وكذلك تخصيص خزان قديم – تحت البناء – يزود منطقة غرب طرابلس ومنه للمساكن. “ستكون تكلفة نقل المياه من الخزان للمساكن أقل على السكان بسبب قرب مكان التزود ووفرة المياه” حسب عبود.

من ضمن الحلول المؤقتة أيضاً يقول عبود الاستعانة بقوات أمنية تقوم بحراسة المسارات الرئيسية إلى حين تجهيز مخطط من وزارة الزراعة، “فنحن نطمح مستقبلاً لإقامة مشاريع تحلية لمياه البحر وترك مياه النهر للزراعة”.

قد لا يتاح للخيتوني وسكان منطقته في ظل الوضع الليبي الراهن الاستفادة من مياه النهر التي دفعوا ضريبة توصيلها من مرتباتهم، فحسب كلام الحجاجي إن الطاقة التصميمية للنهر تستمر حتى 50 عاماً بدءاً من عام 1997، وأن ليبيا عليها الاستعداد للأسوأ مائياً بعد ذلك.