سعيد عاشور- طرابلس

لم يعد التاجر أحمد باشا (44 عاما) من سوق المشير بطرابلس قادرا على تأمين احتياجات محله المختص ببيع لوازم الأفراح. فالعملة الصعبة غير متوفرة لدى التجار لاستيراد المنتجات اللازمة من أسواق تركيا والصين، والعملة الوطنية تشهد انهيارا متواصلاً أمام الدولار، وبسبب ذلك كله لا تتوقف أسعار المعروضات في هذا المتجر عن الارتفاع.

سعيد عاشور- طرابلس

لم يعد التاجر أحمد باشا (44 عاما) من سوق المشير بطرابلس قادرا على تأمين احتياجات محله المختص ببيع لوازم الأفراح. فالعملة الصعبة غير متوفرة لدى التجار لاستيراد المنتجات اللازمة من أسواق تركيا والصين، والعملة الوطنية تشهد انهيارا متواصلاً أمام الدولار، وبسبب ذلك كله لا تتوقف أسعار المعروضات في هذا المتجر عن الارتفاع.

يقول باشا لـ “مراسلون”: “كلما تراجعت قيمة الدينار الليبي انخفض عدد الزبائن الذين يبتاعون لوازمهم من متجري”.  

ليس بعيدا عن هذا المكان، يوشك تاجر المواد الغذائية عادل محمد (37 عاما) على إغلاق متجره مبكراً اليوم. فالسوق يبدو خالياً إلا من قلة من الزبائن.

يؤكد هذا التاجر أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت بمقدار 15 ديناراً عن الصندوق في كافة السلع، وهي زيادة فرضها تجار الجملة على كافة المواد بشكل عشوائي.

بسبب هذه الزيادة الخارجة عن إرادته يتعرض محمد إلى المساءلة من المستهلكين، تصل حد المقاطعة أحياناً. “كما ترى، المحل فارغ من الزبائن وأبقى أنا مضطراً لدفع إيجاره في الموعد المحدد” يتابع بأسف.

الخطر القادم

ترزح ليبيا تحت ضغوط اقتصادية غير مسبوقة مع تراجع قيمة العملة الوطنية واستمرار شح العملة الصعبة بعد توقف العديد من حقول النفط عن الإنتاج والتي تعد المصدر الوحيد للدخل وللحصول على العملة الصعبة في البلاد.

عصام زنوبة محلل اقتصادي حذر في لقائه مع “مراسلون” من استمرار هذا الانهيار للدينار الليبي، مؤكدا أن الشريحة الأولى المتضررة هي المواطن ذو الدخل المحدود، وخاصة المعتمد على الدولة.

ويذهب زنوبة لأبعد من ذلك محذرا من تفشي ظاهرة البطالة والركود الاقتصادي الذي سيطال شريحة أصحاب المشاريع الصغرى، إذ سيضطر أصحاب بعض الأنشطة الاقتصادية لتقليص عدد العمال والاستغناء عن خدماتهم او إلى إغلاق المشروعات الاقتصادية بالكامل.

حظر العملة

فضلا عن توقف معظم حقول النفط الليبية عن الانتاج، يعزو محللون اقتصاديون تدهور قيمة الدينار الليبي إلى سياسات مصرف ليبيا المركزي الموجود بطرابلس لعدم اتخاذه إجراءات للمحافظة على النقد الأجنبي.

ويقول هؤلاء إن المصرف أقحم نفسهُ في اختصاصات أخرى كتنفيذ الموازنة العامة والسياسات الاقتصادية، وترك دوره الفاعل وهو مراقبة الاقتصاد.

لكن المتحدث باسم مصرف ليبيا المركزي عصام العول يرد بالقول بأن المصرف يخضع لإجراء دولي يقضي بحظر استيراد العملة الصعبة من الخارج بسبب الأوضاع الأمنية، وبالتالي لا يستطيع المصرف ضخ الدولار للمصارف الحكومية العاملة في الدولة الليبية.

الحل برأيه بيد المواطنين الذين حثهم العول في حديثه لـ”مراسلون” على المطالبة فوراً بفتح حقول النفط والموانئ النفطية الواقعة تحت سيطرة جهاز حرس المنشآت النفطية وسط ليبيا، ووضعها بعيداً عن التجاذبات السياسية ووقف “العبث بقوت الليبيين”.

ويمضي قائلا: “مع إنتاج النفط يتدفق الدولار وينخفض سعره في السوق الموازي”.

إجراءات جديدة  

المتحدث باسم المصرف المركزي كشف لـ”مراسلون” أيضاً عن جملة من القرارات اتخذها المركزي من شأنها تخفيف الضغط الذي وصفه بـ”المفتعل” من قوى السوق المضاربة.

فالمصرف بدأ حسب قوله بمعالجة الطلب الشخصي على النقد الأجنبي لأغراض الدراسة والعلاج، وفتح الاعتمادات المستندية للموردين للسلع بانتظام، وكذلك مستلزمات الإنتاج ومواد التشغيل للمصانع، مع الأخذ بالاعتبار حجم الاستهلاك الحقيقي للفرد وللمجتمع”.

إجراءات المصرف على ما يبدو لم تستفد منها فاطمة (23 عاماً) من طرابلس التي تؤكد لـ “مراسلون” أنها لم تتحصل على أي قيمة أو تسهيل من المصارف الليبية، رغم أنها تخضع منذ أكثر من عام ونصف للعلاج في تونس، ولكنها توقفت بسبب عدم استطاعتها توفير المبلغ اللازم نتيجة لانهيار الدينار الليبي أمام العمللات الأخرى.

وبلغ سعر الدينار التونسي حوالي 1.76 ليبي هذا الشهر، بينما وصل سعر الدولار لأول مرة إلى 4 دينار ليبي في السوق الموازي، فيما سعره الرسمي في المصارف الليبية 1.38 دينارا للدولار.

“الإنقاذ” توقف الدعم

التاجر محمد وغيره ليبيون كثر لا يهتم كثيرا للبيانات الصادرة من الجهات المالية والساسة الاقتصاديين، فكل ما يطلبه هو مراقبة السوق وتجار الجملة، لتخفيض أسعار السلع التي غالبها تأتي من خارج ليبيا، خصوصاً أن بعض التجار يتخذ من انهيار العملة ذريعةً لفرض أسعار مبالغ بها، على حد وصفه.

رجال الحرس البلدي يبررون أسباب عدم اتخاذهم إجراءات للحد من هذا التزايد المهول في الأسعار بأن صلاحياتهم تقف عند حد مراقبة السلع من حيث الجودة، وصلاحية الاستهلاك، مؤكدين أن التجار يخضعون لقانون تحرير السلع رقم 23 الذي يبيح التنافس ويلغي تحديد هامش الربح.

من جانبه يقول مدير صندوق موازنة الأسعار جمال الشيباني لـ”مراسلون” إن هناك قراراً من حكومة الإنقاذ بطرابلس يقضي بإيقاف التعاقدات لجلب سلع الجمعيات الاستهلاكية المدعومة، مقابل استبدال الدعم بالدعم النقدي، لذلك لم يتم خلال العام 2014 و2015 التعاقد لتوريد السلع الغذائية باستثناء الدقيق، ولكن حتى الآن لم يتم تطبيق هذا القرار.

تنامي السوق السوداء

تعتمد ليبيا في تغطية معظم احتياجاتها على استيراد السلع من الخارج، والتي تشكل 90% من احتياجات السوق المحلي.

ويقول المحلل الاقتصادي أحمد الخميسي إن عدم التعامل مع تنامي السوق السوداء له عواقب وخيمة على ارتفاع أسعار السلع، ليس أقلّها شح الدولارات لدى المصارف التجارية.

ويضيف أن الاعتمادات المُستندية تُفتح للموردين في نطاق ضيق، لاستيراد مادّة الدقيق وبعض السلع الضرورية، وهو ما يدفع الموردين إلى شراء العملة الصعبة من السوق السوداء الأمر الذي سبب في ارتفاع الأسعار إلى حوالي 60% عن معدلها الطبيعي.

للتعامل مع هذه المشكلة، أكد المصرف المركزي أنه اتفق مع المصارف التجارية منح الاعتمادات المستندية للتجار للحصول على النقد الأجنبي، مشترطاً أن يكون منح هذه الاعتمادات تحت إشراف المصرف المركزي عبر منظومة إلكترونية.

المركزي أوضح أيضاً أنه سيجتمع مع التجار ويحثهم على المشاركة في تحمل مسؤولية توفير الغذاء والدواء للمواطنين، مؤكداً على أن ذلك “واجب وطني بعيداً عن الربح والاحتكار”.

غير أن التاجر خالد الترهوني، صاحب محل بيع أجهزة الكترونية، متخوف من فتح الاعتمادات لفئات محددة دون غيرها.

فحسب كلامه، إن المستفيدين من هذه الاعتمادات سوف يبيعون الدولار الذي يحصلون عليه للتجار الآخرين في السوق السوداء بسعر أعلى، وبالتالي سوف تستمر مشكلة انهيار الدينار الليبي.

وبحسب مراقبين للوضع الاقتصادي في ليبيا فإن التجار والموردين يحتكرون استيراد السلع الغذائية ومن ثمة ينفردون بضخها داخل السوق السوداء، ومن هنا يكون للتجار فرصة التحكم في سعر البيع دون منازع أو منافس لبضاعتهم باستثناء عدد بسيط من المنتجات.