لا أعرف تحديدًا عدد البيانات التي وقعت عليها انتصارًا لحرية التعبير، أو المؤتمرات والندوات التي حضرتها واستمعت فيها لكلمات بليغة دفاعًا عن حق كاتب في الإبداع، أو كم الموضوعات والمتابعات الصحفية التي انشغلنا فيها برصد الآراء حول سقف الحرية الذي يضيق علينا، لكن ولو أني لا أملك حصرًا دقيقًا بكل هذا، فإن يقيني أننا نحيا في بلد يعادي نظامه الثقافة والإبداع، ومع ذلك يحاول التمحك فيهما من خلال الدستور، وإنشاء هيئات ووزارة للثقافة، بينما الواقع أن هذا ليس أكثر من إدعاء نتمسح به في حضارات نعرف أنها قائمة بالأساس على التفكير والإبداع.

لا أعرف تحديدًا عدد البيانات التي وقعت عليها انتصارًا لحرية التعبير، أو المؤتمرات والندوات التي حضرتها واستمعت فيها لكلمات بليغة دفاعًا عن حق كاتب في الإبداع، أو كم الموضوعات والمتابعات الصحفية التي انشغلنا فيها برصد الآراء حول سقف الحرية الذي يضيق علينا، لكن ولو أني لا أملك حصرًا دقيقًا بكل هذا، فإن يقيني أننا نحيا في بلد يعادي نظامه الثقافة والإبداع، ومع ذلك يحاول التمحك فيهما من خلال الدستور، وإنشاء هيئات ووزارة للثقافة، بينما الواقع أن هذا ليس أكثر من إدعاء نتمسح به في حضارات نعرف أنها قائمة بالأساس على التفكير والإبداع.

ربما يغضب البعض من هذا، وقد يرون أنها كلمات انفعالية سببها الحدث الحالي، ولهؤلاء المسرح مفتوح للاستمرار في التمثيلية، فقط أذكركم أنها أصبحت مملة للغاية، والأهم أن أثمانها باتت فادحة، هناك من يسجنون، ومن قد يفقدون حياتهم.. لماذا لا نعلنها صراحة ونرحم أنفسنا من كل هذا، لماذا لا ينص الدستور صراحة على أن الإبداع في الدولة المصرية ممنوع، يخرج مناديًا: يا أيها الناس حُرم عليكم الإبداع، ومن يضبط بممارسته تسري عليه الأحكام والجزاءات المقررة في قانون العقوبات، ومكانه سيكون بين القتلة واللصوص والمهربين. ألن يكون هذا أفضل من تضليل فئة من المواطنين، ومنحهم حقًا منقوصًا في الكتابة، ثم بعد أن يبتلعوا الطعم نقدمهم للمحاكمة بالتهمة التي سبق وأن تم إجازتها دستوريًا.

الأسبوع الماضي حكمت المحكمة على الروائي والصحفي الشاب أحمد ناجي بالسجن لعامين، وتغريم طارق الطاهر رئيس تحرير “أخبار الأدب” عشرة آلاف جنيه. حكم قاس ورادع يثبت به النظام القضائي ما تحاول الدولة المصرية مداراته عبر سنوات.. أنها لا تفهم ما الذي يعنيه مصطلح “إبداع”، وأنها كلما رأت شيئًا مختلفًا منه نادت نيابتها وشرطتها وقضائها ليجتمعوا: الوطن في خطر. تحاول تقنينه مثل كل شىء، تسعى لوضعه ضمن نظم وقواعد بحيث يكون سهلًا عليها تصنيف ما يخرج منه من روايات وشعر وفن.. يجلس موظفها الأمين إلى مكتبه ويعرض عليه خلال ساعات دوامه ما كتبه المبدعون، يقلب في اللائحة رقم كذا لسنة كذا الصادرة بشأن تنظيم العمل الإبداعي والتي تفسر وتحدد له ما هو فن وما ليس كذلك، وبناء عليه يمنح ختمه على النص بشعار النسر المميز.. إذهب فأنت مبدع بشهادة الدولة المصرية. أو يحل عليك الغضب: عندك ألفاظ بذيئة.. التهمة خدش الحياء العام.. العقوبة عامين. تتعرض لثوابت الدين.. التهمة ازدراء أديان.. العقوبة.. ثلاثة أعوام. تتحدث في السياسة واستنتاجاتك خاطئة.. التهمة.. الإضرار بالصالح العام.. العقوبة أربعة أعوام. لا تعجبك التقاليد والعادات.. التهمة….

في مرافعة النيابة بقضية أحمد ناجي كان واضحًا أنها تملك تعريفًا مسبقًا لما هو إبداع، خطبة طغت عليها بلاغة قديمة وكأن الخلاف بينها وبين ناجي على تعريف الأدب وتحديد المقصود بالإبداع. بالطبع لم يقرأ ممثل النيابة العامة رواية ناجي “استخدام الحياة” كاملة، اكتفى فقط بالفصل المنشور في “أخبار الأدب”، لا يمكنني تخمين ماذا كانت ستكون رؤيته لو فعل، عالم بأكمله ينهار، أبطال ليس لديهم أي من الأهداف التي يؤمن بها وكيل النيابة، قاهرة تختفي وتتحول أنقاضًا.. ربما لم يكن العمل بأكمله ليعجبه لكنه على الأقل كان سيضع ما أسماه “الألفاظ البذيئة” في سياقها الذي اقتطعها منه، كان ليعرف أن كل نص يفرض لغته، وأنه قد انتهى إلى الأبد عصر اللغة الموحدة المفروضة من الأعلى.. لم نعد في زمن.. لغتنا الجميلة المقدسة، الآن، في العالم كله بالمناسبة، هناك نهوض لما يسمى اللغات البديلة التي هجرت الاستخدامات الجافة للغة، نزلت إلى الشارع تحاكي العامية وترفعها إلى مستوى النص الأدبي.

وكيل النيابة وقف عند حدود اللغة في فصل أحمد ناجي من روايته “استخدام الحياة”، لم يصل إلى المعنى، وهو هنا خلط بين واجبات وظيفتين: وكيل النيابة ومفتش اللغة العربية ذلك الذي يقترح على التلاميذ موضوعات تعبير يختاروا من بينها ليكتبوا ما يفترض أنها أفكارهم، والحقيقة أنهم لينالوا درجات متقدمة عليهم الكتابة بلغته والتأكيد على أفكاره هو ومن وراءه وزارته ثم الدولة. بالمناسبة، لماذا لا تحدد الدولة المصرية شكل اللغة التي ينبغي أن يستخدمها المبدع، والأفكار التي تعتقد في أنها أفضل من غيرها، منشور للجنة القصة والرواية والشعر بالمجلس الأعلى للثقافة يحدد سنويًا مجموعة من الموضوعات للأدباء، على رأسها بالتأكيد الأهداف الوطنية، يليها المجالات الاجتماعية لبث روح الوئام والصفاء بين أفراد المجتمع، وهذا مع منشور آخر استرشادي للألفاظ المسموح بها.

الحقيقة أننا في وضع بالغ البؤس، ليس لأننا نحاكم الأدب والمبدعين ونضعهم وراء الأقفاص بجانب أصحاب السوابق والخارجين على القانون، بل لأن المصيبة الأكبر أن الدولة تفترض في نفسها صفة الناقد الذي يتتبع النصوص ويضع أحكامه عليها، والمصيبة أنه ناقد قديم لا يقرأ، ثم أنه متعصب لرأيه، غاضب على كل من يخالف معتقداته، ناقد لديه قضاء وشرطة وسجون يستخدمهم في التنكيل بالمدارس الأدبية المخالفة له.

في الدرجة الأولى من هذه المحاكمة المهزلة استمع القاضي لشهادة د. جابر عصفور، محمد سلماوي، صنع الله إبراهيم، الذين شرحوا بشكل واف ما الذي يعنيه الإبداع، ولماذا تبدو الألفاظ (البذيئة من وجهة نظر وكيل النيابة) طبيعية داخل النص، وبناء على تلك الشهادات أصدرت المحكمة حكمها بالبراءة، فرحنا وقلنا أن القضاء المصري أخيرًا بات يلجأ إلى المختصين في الأدب قبل أن يصدر أحكامه وأن هذه خطوة للأمام تعني أن دولتنا بلغت الرشد، والآن يمكنها أن تقرأ الإبداع مثل الناضجين، وهذا سيقودها إلى الإقرار، أخيرًا، بأن الأدب مجال خاص لا ينبغي محاكمته إلا من خلال النقد، لكننا كنا واهمين للأسف.

صممت النيابة، بصفتها النقدية التي تظنها في نفسها، أن تستأنف الحكم، وفي الدرجة الثانية من التقاضي، وبحكمها بحبس ناجي وتغريم الطاهر، تكون قد قررت أنها الوحيدة المختصة بشؤزن النقد في مصر.

النيابة والقضاء كناقد قديم لم يحاولا معرفة من هو أحمد ناجي، رغم أن هذا أصبح أحد أدوات دراسة النص الأدبي، معرفة صاحبه، المناخ والظروف التي ظهر من خلالهما النص، على اعتبار أنها عوامل لا بد بالتأكيد أثرت في النص، ربما لو حاول وكيل النيابة أو القاضي تطوير أدواتهما النقدية لعرفا ناجي كما نعرفه، ولفهما لما كان عليه أن يستخدم تلك اللغة والألفاظ التي أغضبتهما إلى حد وضعه في السجن، لأدركا أنه كروائي يبحث عن صيغ مختلفة لمعالجة نصه، وأنه مستعد للذهاب بهذا الاختلاف إلى أقصى حد يتطلبه، لن يتوقف، مثل أي مبدع صادق مع نفسه وعمله، عند تخوفات من أي نوع، هو لا يبحث عن جماهيرية وانتشار، ولا يرجو إلا أن يتم قراءة نصه قي سياقه الطبيعي، السياق الأدبي، ولهذا كان محبطًا للغاية عند إثارة تلك القضية لما ستلقيه حول نصه من ظلال لا علاقة لها بالعملية الإبداعية، ولأنه سيتم قراءته بأدوات خاطئة.

لم يفعل ممثل النيابة أو القاضي ذلك، لأنهما بينما منحا نفسيهما صفة الناقد، سحبا من ناجي صفته كمؤلف، هو الآن متهمًا، ليس مبدعًا، لن نحاوره ولن نتحدث إليه ولا إلى نصه، ما نراه قرآنًا لا يأتيه الباطل، لسنا في حاجة إلى من يخبرنا ما هو الأدب وكيف يكون، كل مرافعاتنا، وأحكامنا لها ذلك الطابع.. تعريف الإبداع سهل للغاية وليس قي حاجة إلى كل تلك المناقشات والكتب والترجمات، الأدب هو الوسيلة التي تجعل الناس يتحلون بالأخلاق، والفضيلة، يجعلهم يهيمون في وديان الحق والخير والجمال.. أليس هذا هو الأدب؟

لدي مفاجأة قد تكون مزعجة لكم: أنتم لا تعرفون شيئًا عن الإبداع، وكل نصوصكم المختارة المليئة بالسجع والطباق والتورية والجناس هي أعمال متحفية بامتياز، لا نرفضها مثلما ترفضون أنتم وتحبسون المختلف عنكم، لكننا فقط نعي تطور العملية الإبداعية ومعناها الحقيقي.. التمرد، على اللغة والأفكار والشكل.

كل ما أطلبه أن تكون الدولة المصرية صريحة وواضحة مع نفسها ومعنا، تطلق سراح أحمد ناجي، وكل من تجرأ على الإبداع والتفكير المختلف، تفتح صفحة جديدة مع الجميع بإنذارهم أن الإبداع ممنوع في أرجاء البلاد، ونحن من جانبنا لن نعترض على قانون، ولما لا أليس هذا في صالح الوطن!