عندما كان يعمل وهو صغير في تهريب الملابس المستوردة من المنطقة الحرة ببورسعيد لبيعها في سوق ليبيا بمدينة الإسكندرية كان يحمل معه كتابًا ليقرأ فيه، لذا كان التجار يطلقون عليه لقب”سيد التلميذ“.

عندما كان يعمل وهو صغير في تهريب الملابس المستوردة من المنطقة الحرة ببورسعيد لبيعها في سوق ليبيا بمدينة الإسكندرية كان يحمل معه كتابًا ليقرأ فيه، لذا كان التجار يطلقون عليه لقب”سيد التلميذ“.

كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي بعد أن أصدر السادات ”ورقة أكتوبر“ (١٩٧٤) التي قال فيها أن اقتصاد مصر في ”أمس الحاجة إلى موارد خارجية“ و” انفتاح على العالم كله شرقه وغربه“ ثم أعقب ذلك صدور القانون ١١٨ لسنة ١٩٧٥ الذي فتح مجال الاستيراد والتصدير للقطاع الخاص والأفراد بعد أن كان مقتصرًا على القطاع العام، وفي يناير ١٩٧٦ أُعلنت بورسعيد منطقة حرة تتمتع بحق الامتياز في المعامله الجمركية على السلع الواردة.

ألمانيا الشرقية المصرية!!

قبلها كانت مصر أشبه بألمانيا الشرقية، فلقد أغلق عبد الناصر الأبواب على اقتصاد مصر، وآمم قناة السويس والشركات والبنوك الأجنبية، وبنك مصر والشركات الصناعية المرتبطة به، ووزع الأراضي الزراعية على عموم الفلاحين بعد أن كانت غالبية الرقعة الزراعية حكرًا على الإقطاعيين من أسرة محمد علي وحاشيتهم، ما جعله يحقق اكتفاءً ذاتيًا من المحاصيل الزراعية، ثم عمد إلى إنشاء مشروعات صناعية ضخمة بالتمويل الذاتي دون الحصول على قروض أجنبية أو معونات.

وكان الاستيراد محدود للغاية ويتم في نطاق ضيق وبمعرفة شركة النصر للتصدير والاستيراد، كبري شركات قطاع الأعمال العام العاملة في مجال التجارة الخارجية، وكانت المحلات المصرية تعرض وتبيع منتجات مصرية من مأكولات وأثاث وأجهزة كهربية وملابس، ما جعل بيع السلع المهربة من مأكل أو ملبس أو أجهزة أقرب لبيع الممنوعات.

وكان القانون ٦٦ لسنة ١٩٦٣ يعاقب علي ”التهريب أو الشروع فيه بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه و لا تتجاوز عشرة الآف جنيه ( حوالي ما يقارب ٧٥ دولار إلى ١٢٥٠ دولار وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت) أو بإحدي هاتين العقوبتين“.

كان السوق الوحيد الذي يبتاع منه المصريون حاجاتهم من الملابس المستوردة والخزف ومستلزمات البيت في الستينيات قبيل ١٩٦٧ هو سوق غزة القديم الموجود في قطاع غزة. وكانت رحلات الباص التي تقل العائلات وطلبة المدارس والجامعات من القاهرة ومن محافظات القناة إلى غزة معتادة. وبلغت شهرة هذا السوق في مصر لدرجة أن تجار مصريون أقاموا سوقًا في الزاوية الحمراء أطلقوا عليه ”سوق غزة“ بعد أن جاءت النكسة وأغلقت الطرق المؤدية إلى القطاع.

وبعد عام ١٩٦٧ ولانشغالها بالجبهة العسكرية المفتوحة في سيناء، خففت السلطات المصرية من قبضتها على الحدود مع ليبيا، وغضت الطرف عن رواج تجارة السلع المهربة بين البلدين، لدرجة أن واردات ليبيا زادت لسد الطلب على سوق السلع المهربة في مدينة مرسى مطروح، غرب الإسكندرية، الذي كان يطلق عليه ”شارع التهريب“ أو ”سوق ليبيا“ وكان يتردد على هذا الشارع وافدون من الإسكندرية ودمنهور وطنطا والجيزة وصولا للقاهرة لشراء ما يحتاجونه من سلع مهربة تمتاز برخص سعرها مع جودتها العالية.

وجاء السادات ليفتح الأبواب ويحول مصر إلى ألمانيا غربية فلم تحتمل الطبقة المتوسطة التبعات الاجتماعية لهذا التفكيك السريع للنمط الاشتراكي الناصري بمكتسباته الاجتماعية ثم الصعود الصاروخي لاقتصاد خدمي قائم بالدرجة الأولى على التجارة والتوزيع والاستيراد والتصدير والسمسرة والمتاجرة بالعملة والإسكان الفاخر والنقل الخاص وسياحة الأغنياء،وهو ما أدى لا شتعال احتجاجات  ١٨ و١٩ يناير  ١٩٧٧ أو ما عُرف فيما بعد بــ”انتفاضة الخبز“ احتجاجًا على غلاء المعيشة.

الأكثر رواجًا

”تحولت الحكومة في مصر خلال السبعينيات إلي دولة رخوة،“ يقول جلال أمين في كتابه ”مصر والمصريون في عهد مبارك“ ويكمل ”وتضاءلت مكانة الوزراء، وظهر من الموظفين من يذهب إلي مكتبه الحكومي في الصباح ويتاجر في العملة بعد الظهر، وأصبح كل شيء خاضعا للمفاوضة والمساومة، وكل شيء متوقف في النهاية علي الشطارة.“

وكغيره كان ”سيد التلميذ“ ابن الأسرة الصعيدية التي امتهنت تجارة بيع الملابس في القرى والنجوع يسعى هو الأخر لينال نصيبه من الرزق المتدفق من بوابات مصر المنفتحة على العالم شرقه وغربه، من التجارة في الملابس المستوردة من بورسعيد.

كان يذهب لشراء طلبية من الملابس المستوردة على ضمان اسمه وكان التجار لثقتهم فيه يجعلونه يأخذ البضاعة ثم يدفع فيما بعد. بعدها كان يتفق مع مهرب ليتولى إخراج البضاعة من بوابات المنطقة الحرة حيث التفتيش والتدقيق الصارمان على ألا يُسمح بخروج بضاعة أو سلعة واحدة دون  مخالصة جمركية. وكانت أتعاب التهريب تدفع بناءا على عدد القطع. يخرج هو المنطقة وينتظر المهرب الذي تتعدد حيله من أجل خروج البضاعة دون رسوم الجمارك.

”ساعات المهرب كان بيتفق مع سواق عربية البيجو (يقصد سيارات من ماركة البيجو حمولة ٧ راكب وتعمل على نقل المسافرين بين المحافظات) عشان يخفي البضاعة جوا عربيته “يقول سيد لـــ ”مراسلون“ ويضيف ”كانت الهدوم بتتحط في باب العربية، أو الكنبة أو تحت الدواسات …وساعات بيكون منسق مع مفتش من مفتشين الجمارك يسهله خروج البضاعة نظير عمولة.“

بعدها كان سيد يحمل بضاعته ويعود إلى الاسكندرية ليبيعها في السوق الذي نشأ في مدينة الإسكندرية لبيع السلع المهربة على غرار سوق ليبيا السابق في مرسى مطروح وراجت تجارته مع الانفتاح حيث كانت تُباع فيه المستلزمات المنزلية والعطور ومستحضرات التجميل والشامبوهات والحلويات والأحذية والملابس المستوردة. ويقال أن كثيرًا من الروس كانوا يبيعون فيه الكثير من الاشياء خصوصًا الكاميرات وكان يشترون منتجات جلدية منه.

”سوق ليبيا كان وقتها السوق الوحيد على مستوى اسكندرية في بيع الملابس المستوردة….كان سوق بيخدم الدلتا كلها تقريبًا. دمنهور، كفر الدوار…وكان في الأول عبارة عن ساحة بيفرش فيها التجار بضاعتهم إما على بسطة أو على تربيزة.“ يقول سيد ويضيف ”في السبعينيات كانت الملابس المستوردة بتيجي من إيطاليا ولبنان…وكان المستورد هو الأكتر رواجًا عشان جودته. “

على كف عفريت

ما بين عامي ١٩٨٠ و١٩٨٥ وصلت الواردات المصرية الكلية إلى حوالي ٦٢٧٤ مليون جنيه، بحسب مقال لاستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة، د. رياض عمارة،  بينما وصل متوسط الصادرات الكلية إلى ٢٢٧١ مليون جنيه، وهو ما أدى لعجز في الميزان التجاري بلغ نحو ٤٠٠٣ ملايين جنيهًا. وظل سوق الملابس المستوردة رائجًا، رغم عمليات ترشيد الاستيراد التي بدأت منذ عام ١٩٨٠/١٩٧٩ وشملت ترشيد الملابس الجاهزة والصيني (الخزف) والعطور إلى حد ١٠٠ مليون جنيهًا.

ثم تخرّج ”سيد التلميذ “ من كلية الحقوق وظل يواصل عمله في تجارة الملابس المستوردة من جينزات وقمصان وملابس رياضية، وصار اسمه في السوق ”سيد الاستاذ“ وكبر حجم تجارته وصارت الحقائب التي تُنقل فيها البضاعة صناديق تحملها سيارات نصف نقل، ومع زيادة البضاعة زادت الخطورة رغم دفعه للرسوم الجمركية!!

”الشرطة حتى لو كان معاك ألف مخالصة جماركية بتتحفظ على البضاعة. “ يقول سيد ويضيف ”أصل بتطلع لهم مكافأت من ضبطية البضائع المستوردة. أي مستورد بالنسبة لهم متهرب وإن ثبت العكس. “

وكانت مغامرة نقل البضائع من بورسعيد للإسكندرية تبدأ بمجرد الخروج من المنطقة الحرة. وكان عبور السيارة نصف النقل للمدقات المُطِلة على بحيرة المنزلة ببورسعيد وتجاوز كمائن التفتيش وهي محملة بالبضائع هو الجزء الأكثر خطورة في الأمر، ”الموضوع عايز سواق قلبه جامد“ يقول سيد الاستاذ ويضيف ”سواق ميقفش لما يشوف الكمين.“   

”حياتي من ساعة بدايتي لشغلانة دي وهي على كف عفريت “ يقول وهو يشرح كيف كان دخول البضاعة إلى سوق ليبيا، الذي كانت شرطة مكافحة التهريب تحاصر مداخله باستمرار، بمثابة مغامرة أخرى،إلا أن تجار السوق -بحسب سيد- كانت لهم مداخلهم الخاصة التي لا تعرف عنها الشرطة شيئًا، حيث كان التفريغ البضاعة يتم في سرعة متناهية. ”حركة… وبيع وشرا… السوق كان شغال لحد أول الألفينيات وبعدين بدأ يصيبه الركود “ يقول سيد.

انتقامًا من ”أبو العربي“

في سبتمبر ١٩٩٩ وأثناء زيارة مبارك لمدينة بورسعيد، وبينما كان يعبر في موكبه ويلوح للمواطنين من نافذة سيارته، اندفع شخص يدعى ”السيد حسين سليمان “ وشهرته ”أبو العربي“ نحو الركب الرئاسي بآلة حادة محاولًا اغتيال الرئيس إلا أن المحاولة باءت بالفشل وأصيب مبارك بجرح سطحي بسيط بينما أصيب قائد حرسه في اصابع يده أصابة بالغة وهو يحول بينه وبين سيد الذي أرده أفراد الحراسة الخاصة قتيلًا.

لكن عائلة ”السيد“ أنكرت رواية حرس مبارك، وقالت أن ابنها كان يحمل في يده ورقة كتب بها استجداء للرئيس بخصوص أحوال أهل بورسعيد، وأن طاقم الحراسة تسرع في إطلاق النار عليه. سواء كان ذلك صحيحًا أم لا، المؤكد في الأمر أن بورسعيد هي التي دفعت الثمن.

وحُصرت المدينة اقتصاديًا وتقطعت موارد رزقها مع صدور القانون رقم ٥ لسنة ٢٠٠٢ بإلغاء العمل بقانون ونظام تحويل مدينة بور سعيد إلى منطقة حرة. ومع تردي الأوضاع الاقتصادية والتجارية كثرت في المدينة المشكلات الاجتماعية مثل البطالة والطلاق والجريمة. وانطفئت بورسعيد. واتجه التجار إلى سوق مدينة القنطرة غرب الواقعة جنوب بورسعيد.

وصار سوق القنطرة بديلًا عن المنطقة الحرة ببورسعيد، وخاصة مع تزايد بضائع الملابس المستوردة التي تُهرب من ميناء بورسعيد دون تحصيل الرسوم الجمركية، وساعد قرب المسافة بين المدينتين على نفاذ كميات كبيرة من الملابس والمفروشات والأدوات المنزلية.

ركود سوق ليبيا

وفي وقت قصير أصبح السوق من أشهر الأسواق الشعبية المشهورة فى محافظات الجمهورية خاصة للمحافظات القريبة مثل الاسماعيلية والشرقية ودمياط والقاهرة وشمال وجنوب سيناء والسويس والدقهلية وبعض من محافظات الصعيد، لبيع الملابس المستوردة والمحلية بأسعار تتناسب كافة الدخول.

”من ساعة ما سوق القنطرة اشتغل بعد قفل المنطقة الحرة في بورسعيد وسوق ليبيا في النازل زي ما انت شايف“ يقول سيد وهو يشير إلى محال كانت حتى مطلع الألفية مقصد الشباب لشراء الجينز والملابس المستوردة والآن أُغلق بعضها وخوت أرفف البعض منها من البضاعة.

ويوضح قائلًا ”السبب أن وسايل النقل زادت. والطرق من القنطرة لباقي المحافظات أكبر وأأمن، الأول كان نقل البضاعة خطر. وكمان شكل الاسواق اتغير، يعني محلات بيع المستورد بقت في كل مكان مش بس متركزة في سوق ليبيا. ده غير إن نظام الجمارك اتغير. “ يقول سيد.

ففي ١٩٩٩ انضمت مصر رسميًا لاتفاقية النظام المنسق، وهو نظام لتصنيف وتبويب السلع يعتمد على النظم التكنولوجية لتفادي العيوب وأوجه النقص التي ظهرت نتيجة التطبيق الفعلي لجدول ”تعريفة بروكسل“ وهو جدول يحتوي على بند إحصائي دولي وفق التقسيمات التي وضعتها الاتفاقية الدولية للتجارة والتعريفات المعروفة بـــ”الجات“.

وأول تعريفة جمركية مصرية، جاءت متماشية مع النظام المنسق هي تلك الصادرة بموجب القرار الجمهوري رقم ٣٠٠ لسنة ٢٠٠٤ والمعدلة بالقرار الجمهوري رقم ٤١٠ لسنة ٢٠٠٤. ثم صدرت تعريفة ٢٠٠٧ بموجب القرار الجمهوري رقم ٣٩ لسنة ٢٠٠٧ تماشيًا مع التعديلات الواردة وفق منظمة الجمارك العالمية، وعدلت مرتين عامي ٢٠٠٨، ٢٠٠٩ دون المساس بهيكل النظام المنسق بل بالفئات الضريبة الجمركية علي بعض السلع. وكان آخر تعديل مع  صدور قرار رئيس الجمهورية رقم ١٨٤ لسنة ٢٠١٣.

”زمان الجمارك على الملابس كانت بالقطعة…. والناس كانت بتتحايل على النظام ده بأنها كانت تجيب قطعة مكونة من تلات قطع وتقول عليها قطعة واحدة وكان في ناس بتربط القميص ببنطلون وتقول عليه طقم واحد. دلوقت زادت التعريفة الجمركية على الملابس وبقت بتتحسب بالكيلو، ووصلت ما بين ٧ لــ ١٤ دولار للكيلو. وده خسرنا لأن الهدوم تقيلة. البنطلون الجينز وزنه نص كيلو. ده غير اللبس الشتوي التقيل.“ يقول سيد.

وبحسب احصائيات البنك المركزي قفزت حجم الواردات من الملابس الجاهزة إلى الضعف في العام ٢٠٠٦/٢٠٠٧ حيث بلغت قيمتها ٦٤٧٫٥ مليون دولار، بعد أن وصلت في العام ٢٠٠٥/٢٠٠٦ إلى ٣١٠٫٥ مليون دولار. هذا وقد بلغت قيمة الواردات من الملابس الجاهزة في العام ٢٠١٢/٢٠١٣ إلى ٩٩٤ مليون دولار.

”الناس بتفضل المستورد“ يقول سيد حسن الذي يتاجر الآن في الملابس المستوردة القادمة من دبي ويضيف ”لأن المصري مش بجودة المستورد. لا نفس الخامة ولا نفس جودة التقفيل….“