على الرغم من توقيع الاتفاق السياسي في مدينة الصخيرات بالمغرب يوم 17 ديسمبر في مشهد مشحون بالعواطف تشابكت فيه أيدي الخصوم السياسيين الليبيين السابقين، إلا أن الاتفاق الذي ترعاه الأمم المتحدة وتسانده قوى إقليمية ودولية ويقضي بتشكيل حكومة وحدة وطنية لإنهاء الأزمة في البلاد، يواجه انقسامات داخلية إضافة إلى التحديات العملية لإنجاحه.

على الرغم من توقيع الاتفاق السياسي في مدينة الصخيرات بالمغرب يوم 17 ديسمبر في مشهد مشحون بالعواطف تشابكت فيه أيدي الخصوم السياسيين الليبيين السابقين، إلا أن الاتفاق الذي ترعاه الأمم المتحدة وتسانده قوى إقليمية ودولية ويقضي بتشكيل حكومة وحدة وطنية لإنهاء الأزمة في البلاد، يواجه انقسامات داخلية إضافة إلى التحديات العملية لإنجاحه.

هذا المشهد شاركت في رسمه بعثة الأمم المتحدة التي سهلت الحوار لأكثر من عام كامل بين أطراف النزاع السياسي في ليبيا، إضافة إلى دول جوار ليبيا والدول الكبرى المهتمة بشأن الدولة الواقعة جنوب المتوسط، حيث عبر ممثلو الدول عن دعمهم للاتفاق قبل توقيعه أكثر من مرة، ورحبوا به بعد ذلك.

يوم الأمل

“هذا يوم الأمل” هكذا وصف مارتن كوبلر مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا يوم التوقيع الذي تم حسب قوله من خلال “رجال ونساء شجعان”، مؤكداً في كلمته التي ألقاها ضمن مراسم الاحتفال على أن التوقيع هو نهاية لعملية التفاوض ولكنها بداية لعمل شاق، يحتاج مشاركة واسعة من كل الليبيين، وفي الوقت ذاته شدد على ضرورة إقامة مصالحة وطنية وحوار أمني ومكافحة الإرهاب، إضافة إلى الاهتمام بالوضع الإنساني في برقة وبنغازي بشكل خاص، مبيناً أن ذلك سوف يدرج على جدول أعمال الحكومة وأنه وعد عميد بلدية بنغازي بإقامة صندوق لإعمار المدينة.

أما امحمد شعيب نائب رئيس مجلس النواب ورئيس وفد الحوار الذي مثله منذ بدء الجلسات، لم يخف سعادته بالوصول أخيراً إلى نقطة الالتقاء مع خصومه السياسيين حيث قال في كلمته “إنه يوم عظيم ستتذكره كل الأجيال القادمة”، مؤكداً أن الأمل لم يفارق المتحاورين منذ بداية عملية التحاور، معتمداً على ما وصفه بـ”البعد الإنساني والوطني والديني القابع في الشخصية الليبية” الذي انتصر في النهاية حسب رأيه.

شعيب الذي أطلقت عليه بعض الصحف الليبية لقب “عراب التوافق” عبر عن أمله في استمرار الإرادة التي رافقت المتحاورين لدعم مجلس رئاسة حكومة الوفاق في مواجهة المصاعب، مشيراً في أكثر من مرة إلى أن “الشخصية الليبية سوف تنتصر على جراحها وآلامها”، وأن المرحلة القادمة في ليبياهي مرحلة توافق، “علينا أن نشيع ثقافة التوافق كفانا حرباً كفانا إقصاءً وتهميشاً”.

ومن جهته تحدث صالح المخزوم نائب رئيس المؤتمر الوطني العام في ذات السياق حيث هنأ المشاركين في الحوار وكل الليبيين بتحقيق ما قال إنها “خطوة جبارة تمثل السبيل الوحيد لبناء ليبيا”، المخزوم اعتبر التوقيع “انتصاراً لثورة 17 فبراير كونه أنهى الفوضى والتشظي والانقسام”، ليعلن في نهاية كلمته أن المجلس الرئاسي سوف يقوم بتشكيل حكومته خلال شهر.

المشهد العسكري

رغم كل ما حملته كلمات السياسيين في حفل التوقيع من شحنات أمل إلا أن الأمر في الواقع ليس بهذه البساطة، ففهم المشهد السياسي والعسكري في البلاد ضروري لرسم صورة واضحة لمآل هذا الاتفاق، وهذا المشهد يشكل تحدياً بالتأكيد أمام الحكومة الجديدة في القيام بعملها لإنهاء الأزمة التي قطعت أوصال ليبيا وقسمتها تحت إدارة أجسام مختلفة.

بؤر صراع مختلفة لا زالت تشتعل بين جماعات عسكرية وقبلية في ليبيا بين وقت وآخر فيما يستمر النزاع في مدينتي درنة وبنغازي، ويتركز النزاع العسكري في بنغازي بين القوات المسلحة التابعة لمجلس النواب والتي يقودها الفريق أول ركن خليفة حفتر، ومجموعات تطلق على نفسها “مجلس شورى ثوار بنغازي” الذي يضم أنصار الشريعة.

أما درنة فيتركز الصراع فيها بين ما يسمى “مجلس شورى مجاهدي درنة” وعناصر تنظيم الدولة الإسلامية، وتندلع مواجهات مسلحة قبلية بين وقت وآخر في مدينتي الكفرة وأوباري في الجنوبين الشرقي والغربي وهي صراعات ذات طابع قبلي، إضافة إلى بؤر صراع مصغرة لا تستمر طويلاً في الغرب الليبي.

تعددية الأقطاب

وعلى الرغم من المساندة الظاهرة التي يعبر عنها المؤتمر الوطني وحكومته للمجموعات المناهضة لمجلس النواب وحكومته وجيشه في الشرق إلا أن هذه المجموعات لا ترتبط بشكل إداري رسمي مع المؤتمر وحكومته.

والأمر ينطبق بشكل جزئي على المجموعات المسلحة في شرق البلاد وغربها، التي تناهض المؤتمر الوطني والأخرى التابعة له والمناهضة للبرلمان، ولا سيما في الغرب حيث تظهر خروقات أمنية قد تؤدي إلى صدامات بين المجموعات المتحالفة.

وفي الوقت ذاته يسيطر تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة سرت الواقعة وسط الساحل الليبي، إضافة إلى ضواحيها وأجزاء من الطريق الساحلي بالقرب من المدينة، وفي الغرب الليبي تقع مدينة الزنتان التي تتبع إدارة البرلمان وحكومته وقيادة الجيش، ولكن هذه التبعية ليست كاملة لأن المدينة تحافظ على بعض المواقف المستقلة نوعا ما عن الإدارة، ويمكن اعتبار اتفاق المصالحة الذي جرى بين قوات المدينة وقوات المؤتمر مثالاُ جيداً على ذلك.

كل هذا يشير إلى غياب الوحدة الإدارية والانضباط للمجموعات العسكرية وشبه العسكرية في القطبين السياسيين في ليبيا، وهو ما يؤكد تعددية الأقطاب ما يجعل قراءة المواقف وحساب حجم التأييد والمعارضة للحكومة الجديدة أصعب بكثير.

ردود الأفعال

رغم ما سبق كانت هناك ردود أفعال واضحة يمكن البناء عليها لتقييم البيئة العامة لعمل الحكومة حديثة التشكيل، حيث رفض عقيلة صالح رئيس مجلس النواب توقيع الاتفاق الذي جرى في الصخيرات، ووصف الصيغة التي جرى الاعتماد عليها بأنها “معدة سلفاً ولن يكتب لها النجاح وتتعارض مع كرامة الوطن ولن يرضى بها الشعب الليبي”.

موقف صالح لم يكن مفاجئاً فقد عقد لقاءً في مالطا مع رئيس المؤتمر الوطني العام نوري أبو سهمين الذي يرفض الاتفاق هو الآخر قبل التوقيع بليلة واحدة، أعلنا في ختامه البدء في مفاوضات ليبية ليبية بعيدة عما وصفاها “الوصاية الدولية”، تدعم مسار الحوار الذي عقده في تونس عدد من أعضاء المؤتمر ومجلس النواب في الأسبوع الأول من ديسمبر، وأعلنا عن تشكيل لجانٍ للتواصل وحل الخلافات بين الجسمين المتنازعين على السلطة.

وجاءت تصريحات أبو سهمين مشابهة لموقف صالح في مطالبة المجتمع الدولي بدعم مساعيهما التحاورية، إلا أنه لم ينسَ التشكيك في نزاهة بعثة الأمم المتحدة من خلال الإشارة إلى التسريبات التي نشرت حول المبعوث الأممي السابق برناردينو ليون وعلاقته بدولة الإمارات التي عرضت عليه العمل على أراضيها بعد انتهاء مهمته مقابل مكافأة مالية مجزية.

أبو سهمين الذي اعتبر التوقيع غير قانوني وحمل أعضاء المؤتمر الذين قاموا به المسؤولية القانونية لتصرفهم، لوح بأنه لن يسلم للحكومة الجديدة، مرجحاً تكون حكومة ثالثة في البلاد إذا كان “التعثر في الحوار الأممي مقصوداً” حسب وصفه.

كوبلر في الشرق

قبل لقاء رأسي السلطة في ليبيا بساعات، وفي مدينة المرج بالشرق الليبي هذه المرة كان المبعوث الأممي مارتن كوبلر يعقد اجتماعاً مع الفريق خليفة حفتر القائد العام للقوات العربية الليبية المسلحة التابعة لمجلس النواب، عقدا في ختامه مؤتمراً صحفياً أثنى فيه حفتر على المبعوث الأممي ووصفه بأنه “يقف مع القوات المسلحة ويريد مساعدة الجيش على رفع حظر السلاح ومكافحة الإرهاب”، مبيناً أنه يرى تطابقا في الرؤى بينهما، وقال عن كوبلر: “أمامه معضلات كبيرة قضى على أغلبها وتبقى أمامه أمر بسيط ووعدنا أنه معنا لا علينا”.

ولكن رغم هذا التعاطي الإيجابي عبر حفتر عن عدم رضاه على مسودة الاتفاق، ولكن ذلك حسب قوله “لا يعني ضرورة الوقوف ضدها ومقاطعتها”، مبيناً أنه وجه 12 ملاحظة إلى رئيس بعثة الأمم المتحدة للنظر فيها بجدية، وجدد التأكيد على أن الحوار متروك للسياسيين، وأن “الجيش سوف يسير في المسودة أو خارجها في سبيل مصلحة الليبيين”، حسب تعبيره.

موقف حفتر هذا بالطبع يعني أن المؤيدين له من مجلس النواب أصبحت مواقفهم أقل تشدداً تجاه حكومة الوفاق، ما يجعل من الممكن القول أن التيار المؤيد لعقيلة صالح أصبح أقلية في المجلس الذي يدعم غالبية نوابه الحكومة الجديدة.

ما تناقلته وسائل الإعلام هو أن كوبلر اشترط أن يقف حفتر مع الحكومة كي يتم رفع الحظر عن تسليح الجيش، أما كوبلر فقد أكد أنه كان له “تبادل وجهات نظر مثمر جداً مع الجنرال حفتر، هدفنا الاستقرار والأمن لليبيا ونحن متفقون على أنه يجب مواجهة تهديد الإرهاب، وهذا يحتاج جيشاً قوياً في البلاد وجمع كل الأطراف.”

كوبلر الذي كان يسعى لحشد التأييد للاتفاق السياسي قبل توقيعه التقى أيضاً بعمر البرعصي عميد المجلس البلدي بنغازي والمندوب المفوض عن بلديات شرق ليبيا، وبعد الاجتماع أصدر المجلس بياناً عبر فيه عن ترحيبه بجهود البعثة مع تضمين بعض الشروط والمطالب، على الرغم من أن المجالس كانت قد عبرت قبل ذلك بأيام عن رفضها لكل الاجتماعات التي تحمل مسمى حوار سياسي.

جهود كوبلر أثمرت في مجلس النواب على ما يبدو أكثر من المؤتمر الوطني العام الذي لا زال أكثر من نصف أعضائه يصطفون خلف أبو سهمين ويرفضون الحكومة، ومن غير الواضح بعد مواقف المجموعات المسلحة التي تنتشر في العاصمة والتي ربما تطمح لأن يكون لها دور في تأمين الحكومة القادمة إن تقرر أن تتخذ من العاصمة طرابلس مقراً لها.