تونس: آمال قرامي

لِم كان مطلب أغلب التونسيين في الاستمتاع بالحرّيات عصيّا على الإنجاز؟ ما الجرم الذي يقترفه المرء حين يطالب باحترام خياراته الفكرية والسياسية والدينية والحياتية؟ لم اعتبر ‘بورقيبة’ ومن بعده ‘بن عليّ’ أنّ الحكم يقتضي تسلّط السياسي على الرعيّة؟ ولم شنّ هذين الرئيسين حربا على الحرّيات؟

تونس: آمال قرامي

لِم كان مطلب أغلب التونسيين في الاستمتاع بالحرّيات عصيّا على الإنجاز؟ ما الجرم الذي يقترفه المرء حين يطالب باحترام خياراته الفكرية والسياسية والدينية والحياتية؟ لم اعتبر ‘بورقيبة’ ومن بعده ‘بن عليّ’ أنّ الحكم يقتضي تسلّط السياسي على الرعيّة؟ ولم شنّ هذين الرئيسين حربا على الحرّيات؟

تدفعك هذه الأسئلة وغيرها إلى تفهّم فرحة التونسيين حين هرب ‘بن عليّ’ وتزاحُمهم أمام عدسات الكاميرا كلُّ يريد أن يعبّر عن مشاعره وطموحاته وأحلامه. لعلّنا لا نبالغ إن اعتبرنا أنّ أهمّ مكسب تعلّق به التونسيون هو حرية التعبير: التعبير عن آرائهم ومعاناتهم ومطالبهم بأشكال مختلفة، ومتفاوتة من جيل إلى آخر ومن فئة اجتماعيّة إلى أخرى ومن جندر إلى آخر.

ولأنّ التونسيين لم يألفوا مناخا يساعدهم على بناء مواطنيتهم وتفهّم شروط التحرّر وضوابط السلوك فإنّهم سرعان ما ارتموا في أحضان الفوضى أو لنقل الإفراط في التعبير عن الخيارات الشخصيّة دون إدراك لقواعد العيش معا.

هكذا تجاورت أشكال متباينة للتعبير عن الحرّية تعكس الهجانة وتُبين عن اختلاف التصوّرات وتعدّد فهوم الناس للحرّيات وطرق تمثّلهم لها. فأن تكون حرّا في نظر بعضهم، معناه أن تخرق القوانين، وتعبر الحدود، وتوظّف كلّ الوسائل لتحقيق طموحاتك وأحلامك ولذا عاينّا خيما دعوية تنتقل من مؤسسة تعليميّة إلى أخرى، ومن ساحة عامّة إلى أخرى وشاهدنا حرّاس الشريعة يهبّون من مراقدهم ليقوّموا سلوك الناس ويؤسلموهم من جديد، وبلغتنا أخبار من دكّوا أضرحة الأولياء الصالحين، وحرقوا الزوايا، واعتدوا على النساء غير المحجبات بدعوى أنّهم منفلتات، وهشّموا قاعات السينما وأنزلوا الممثلين من الركح إلى غير ذلك من الأحداث التي توضّح سوء فهم قيمة الحرّية وأزمة التفكّر في معنى الحرّيات ، وخاصّة الحريات الفردية.

ولئن كثرت النقاشات داخل المجلس التأسيسي وخارجه حول الحرّيات وتعدّدت المطالب (اعتبار الشريعة أصلا من أصول التشريع، تجريم المقدسات، حرية الضمير ، تحييد المساجد…) فإنّ تناول هذه القضايا لم يكن معمّقا بالدرجة المطلوبة يكفي أن نشير إلى تجنّب معظم المختصّين في القانون والعلوم الشرعيّة والمثقفين والإعلاميين الخوض في حريّة عدم الاعتقاد والتحوّل من مذهب إلى آخر ومن دين إلى آخر، والتعبير عن بعض المعتقدات في وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها .

انطلاقا من هذا الموقف الذي يفصل بين حرّية الأغلبيّة المسلمة في ممارسة الشعائر الإسلاميّة وبين حرّية الأقليّة في أن تعتقد في ما تراه ملائما لها أو في عدم الاعتقاد بدا فهم الحرّية الدينيّة مختزلا في ضمان حرّية ممارسة الشعائر. ونجم عن ذلك أنّ عموم التونسيين لم يتوصّلوا إلى إدراك مختلف أبعاد الحرّية الدينية.

ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى الحرّيات الفرديّة إذ بقي النقاش في الغالب نخبويا (مؤتمرات وندوات تعقد في الفنادق..) أو مقتصرا على الإعلام الجديد (الفايسبوك، الصحف الإلكترونية…). وظلّت بعض حوادث الاعتداء على المثليين أو المتداولين للصور الكارتونية عن  الرسول على الفايسبوك، حوادث مثيرة للجدل المُناسباتي والبسيط الذي لا يرقى إلى مستوى التفكيك والتحليل المعمّق والتناول المعرفيّ المتعدّد الاختصاصات.

كما أنّ حوادث الاعتداء على الحرّيات الفرديّة بقيت موضوع احتجاج الناشطين الحقوقيين أو مناصري الأقليات (العرقية أو الدينية أو الجنسانية…) ولم تتسع دائرة الجمهور المدافع عن هذه القضايا، ولم ترتفع أصوات المقتنعين بأنّ الحريات الفردية في علاقة وطيدة بالمواطنة وتمثّل الوجه الآخر لتكريس الديمقراطية.

تعدّدت حكومات ما بعد الثورة وتحقّقت جملة من المكاسب ككتابة الدستور وإجراء الانتخابات وتركيز المؤسسات العاضدة للممارسة الديمقراطية وإصدار عدد من القوانين الداعمة لحقوق النساء أو المهمّشين وغيرهم ولكن ظلّ نسق الاعتداء على الحرّيات الفرديّة متواصلا حتى مع حزب حاكم (حزب النداء) راهن على  الحفاظ على نمط عيش التونسيين وعلى الدفاع عن الحرّيات.

ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى آخر الانتهاكات: اقتحام بيت امرأة دون إذن قانوني وإلقاء القبض عليها وعلى صديقها بدعوى تهمة الزنى، والحكم على عدد من المثليين بالسجن (3 سنوات) والنبذ من مدينة القيروان (5سنوات).

يتّضح من خلال هذه الأمثلة وغيرها أنّ إشكالية احترام الحرّيات الفرديّة في المجتمعات العربية الإسلامية ذات وشائج ببناء مفهوم الفرد. فهل نحن مجتمعات تقرّ للفرد بأن يكون حرّا بعيدا عن الرقابة التي تفرضها عليه الجماعة/ الأمة؟ ثمّ لِم يُضحّى بالحياة الخاصّة في سبيل الحياة العامّة والضبط الاجتماعي والامتثاليّة؟ لِم يُطلب من الفرد أن يتّبع ويجاري السائد، ويطيع؟ لم تصادر  الحكومات حقّ الفرد في الاختيار؟ هل يعود الأمر إلى الخوف من الفرد الحرّ الذي يُمثّل تهديدا للأنظمة ؟ هل يرجع الأمر إلى أنّ الخصوصيّ والفرديّ يرمزان إلى بناء فرد مختلف يتماهى مع شخصيّة المتمرّد والعصيّ عن المراقبة؟

تبدو معركة الحرّيات الفرديّة ذات صلة عضويّة بعلاقة الفرد بالجماعة من جهة، وعلاقة الفرد بالدولة من جهة أخرى، وطرق بنائها سياسيّا وتاريخيّا.  وليس احتقار الفضاء الخاصّ وكرامة الأفراد ونبذ أشكال التعبير عن الفردانية إلاّ علامة دالة على ارتهان هويّة الفرد في المجتمعات المعاصرة. فالشخص محدّد بخيارات ضبطتها الجماعة نيابة عنه وأحيانا دون علمه ثم ألزمته بالتقيّد بها كما أنّ الفرد ليس في مركز اهتمام واضعي السياسيات إنّما هو وسيلة وليس غاية في حدّ ذاته. يُضاف إلى كلّ ذلك أنّ الجماعة لازالت تضرب الوصاية على الفرد ولا تنظر إليه باعتباره كائنا مستقّلا وراشدا وقادرا على الاختيار.

وليس تسفيه الأصوات المدافعة عن الحريّات الفرديّة (تجريم العلاقات الرضائية، والمثلية، وتجريم المفطر في رمضان ومصادرة حقّ التنظيم والاحتجاج) وغيرها وتجريدها من كلّ الفضائل إلاّ حجّة على الخوف من المغاير وكره المختلف واستمرار العمل بآليات الإقصاء والنبذ والتهميش بدعوى الدفاع عن الخصوصيّة وعسر ترسيخ مبدأ العيش معا وفق منظومة قيم مترابطة: الحرية والمسؤولية والكرامة والمساواة.

إنّنا لا نحتاج إلى قوانين الحسبة بل إنّ قوانين تجعل الفرد غاية. إنّنا لا نحتاج إلى نظرة تجزيئيّة للحقوق بل نظرة شموليّة.

من المؤكّد أنّ فرحتنا بالثورة لا توصف وسنوات انخراطنا في العمل النضالي لا تقدّر بأيّ ثمن وآمالنا لا تنقطع ولكن خيبة أملنا في حكومات جاءت بعد ثورة الحرية والكرامة كبيرة تخلّف المرارة لاسيما إذا كانت الانتهاكات تحدث باسم دولة القانون والأخلاق والدين وباسم فهم محدّد لما يجب أن يكون عليه الفرد، وتُسلّط على شباب الثورة أكثر من غيرهم…

يبقى سؤال الحرّية ومعركة تحرّر الفرد من هيمنة الموروث الاجتماعي الدينيّ، مسارا طويلا  يتجاور مع معارك أخرى تشنّ ضدّ الفقر والجريمة المنظمة ومأسسة الجهل والفساد والتطرّف والعنف. ويبقى على عاتق المجتمع المدني خلخلة الوعي ومواصلة النضال من أجل انتزاع حقوق الفرد، وخاصّة منها الحقوق الطبيعية. وليست المقاربة القانونية الإصلاحية وحدها الكفيلة بترسيخ الحريات إنّما نحن بحاجة إلى مقاربات مختلفة: الاجتماعية والنفسية والدينية وغيرها حتى نلغي صور الشطب في حياتنا وما أكثرها.