إثر تدهور الأوضاع الأمنية في بنغازي بعد انطلاق “عملية الكرامة” في 15 تشرين أول/أكتوبر سنة 2014، أغلقت جميع مدارس المدينة أبوابها، وحتى حين عادت بعض المدارس للعمل بمبادرات بعض المعلمين في المناطق الهادئة نسبياً، لم تحل المشكلة وحُرم آلاف الطلاب ممن بقوا داخل المدينة من الحصول على حقهم في التعليم.

مسؤولية توفير فرصة تلقي الدروس لهؤلاء الطلبة كانت تشغل المدرّس أحمد الساحلي الذي توفي عن عمر 34 عاماً، بينما كان في طريقه إلى أول يوم من تنفيذ مشروعه بتصوير الدروس وبثها عبر الإنترنت كي يتلقاها الطلبة عن بعد.

كان حلماً

“كان دائم التفاؤل، يحلم بوطن لا سلاح فيه إلا القلم، وكان من أوائل من تنبهوا للأمر، فصار يطرح حلولاً ويناقش زملاءه وأصدقاءه المفتشين، حتى تحولت جلساتهم المسائية بالمقهى إلى اجتماعات تُطرح فيها وجهات النظر لحل مشكلة توقف الدراسة” يقول سالم النيهوم مفتش مادة الرياضيات، وأحد المشاركين في تنفيذ عملية التعليم عن بعد.

كانت فكرة المدرّس الراحل الأولى أن يقوم مكتب التفتيش بتصوير منهج ملخص للطلاب حتى يتمكنوا من الدراسة في الوقت المتبقي من العام الدراسي، ولكن نتيجة قلة الإمكانات المادية صارت الفكرة مستحيلة، فطرح فكرة التعليم عن بعد على مجموعة من الأصدقاء.

وبعد عدة محاولات تمكن من الاتصال بمبادرة “نورني” وهي إحدى مؤسسات المجتمع المدني التي تعهدت له بجلب كاميرا تصوير على أن يجهز مقراً للتصوير، فتحمس للأمر واتصل بمدير مدرسة الوحدة الوطنية الذي جهز له فصلاً دراسياً ليستعمله في التصوير.

بدأ الجميع التحضير لهذه التجربة الجديدة، فأقام الساحلي مع زملائه دورة تدريب على جهاز العرض المرئي (Data Show) في مكتب التفتيش التربوي وكل ذلك كان بمجهوداته الشخصية، استعداداً للمرحلة التالية التي شهدت تصوير الدروس.

كلمة القدر

“للقدر كلمة لا تُعصى” هكذا بدأ المفتش التربوي فتحي الرياني حديثه عن مشواره مع صديقه الراحل أحمد الساحلي، “كنا متفقين على أن نلتقي في مدرسة الوحدة الوطنية التي سنصور في أحد فصولها، ومن عادة المرحوم ألا يتأخر عن موعده ما اضطرنا للاتصال به لمعرفة سبب تأخره، ففوجئنا بصوت ينتحب يخبرنا أن أحمد وقعت عليه قذيفة عشوائية وهو الآن بمركز بنغازي الطبي في غرفة العناية الفائقة، كان الخبر كالصاعقة هرعنا إليه مسرعين، ولكنه ما لبث أن فارق الحياة بعد أن أوصانا باستكمال المشروع”.

توفي الساحلي إثر إصابته بقذيقة عشوائية سقطت قرب منزله في منطقة الليثي، وهو يجهز نفسه للذهاب إلى مدرسة الوحدة الوطنية بتاريخ 25/1/2014 تاركاً وراءه زوجة وأربعة أطفال.

بحرقة يقول صديقة مفتش مادة الجغرافيا محمد الزيداني “أحمد ترك كل شيء، حتى حلمه الذي كان يحلم أن يراه يتحقق أمام عينه، لكن الأحلام لا تموت وقد كان حلمه أطول عمراً منه”، حيث أكمل زملاؤه المشوار بعده.

مراحل المشروع

يروي الزيداني لـ”مراسلون” ما مر به المشروع من عقبات حيث لم تنجح فكرة التصوير داخل المدرسة، لكن أحد أفراد المجموعة المفتش أحمد كبلان تبرع بقاعة داخل مبنى مركز البريق الذي يملكه، وتم التنسيق مع مخرج في تلفزيون الوطنية ومصور لتصوير ومونتاج الدروس، كما تبرع مدير قناة الوطنية أحمد بركات بالمعدات والكاميرات اللازمة لتجهيز مقر التصوير، وبذلك بدأ العمل.

يقول فرج الفرجاني الذي يتولى الجانب الفني لمونتاج الدروس وتسجيلها في أقراص مرنة “فترات التصوير كانت تبدأ يومياً من الساعة التاسعة صباحاً وحتى الخامسة مساءً، بمعدل نصف ساعة للدرس الواحد، ويشارك في اليوم الواحد 10 مدرسين لتصوير المواد بمختلف التخصصات، وبجهد تطوعي دون مقابل”.

المراحل المستهدفة من فكرة التعليم عن بعد هي كل المراحل الدراسية للتعليم الأساسي والمتوسط، إلا أن تصوير الدروس للمراحل من الصف السابع إلى الصف الثالث الثانوي بشقيه العلمي والأدبي كان أكثر تطوراً باستخدام السبورة الذكية.

وهكذا أصبح الأمر واقعاً وتم توزيع الدروس على أقراص مرنة، كما بثتها بعض القنوات الليبية منها قناة الوطنية.

تبنٍّ متأخر

بعد فترة من تنفيذ المشروع أصدرت وزارة التعليم قراراً بتبني الفكرة، إلا أن ذلك كان بعد فترة طويلة من البدء في التنفيذ وكل الإمكانيات كانت تطوعية، كما لم تقدم الوزارة أي دعم للقائمين على المشروع لا هي ولا وزارة الإعلام التي كان يؤمل منها مخاطبة القنوات التابعة لها لبث الدروس لضمان وصولها لأكبر عدد من الطلبة.

غياب الدعم دفع القائمين على العمل إلى التواصل مع قناة نادي الأهلي الليبية ومقرها في عمان، التي وافقت على بث الدروس وتم إرسال المادة مع أحد المسافرين إلى الأردن، وذلك قبل أن توافق قنوات أخرى على البث.

يقول خليفة شيوي مدير إدارة الامتحانات على مستوى مدينة بنغازي إن الامتحانات في هذا الوضع السيء الذي تمر به بنغازي ليس بالأمر السهل، وكان من الصعب تحديد مستوى الطلاب بدقة، خاصة وأن نسبة النجاح كانت 100%، وكان عدد الطلاب المتقدمين لامتحانات الصف الأول والثاني والثالث الابتدائي 1032 طالباً وطالبة نجحوا جميعاً.

آية شتيوي الطالبة في الصف الثاني إعدادي تؤكد أنها استفادت كثيراً من الفكرة لولا انقطاع التيار الكهربائي باستمرار، “فكرة التعليم عن بعد رائعة وأعطتنا فرصة لحضور الدروس من بيوتنا، ما كان ينقصني هو الالتقاء بصديقاتي كل صباح”.

في حين ترى فاطمة حسن أنه رغم استفادتها من الفكرة إلا أنها لم تحبها، لأنها كانت تعشق الذهاب للمدرسة كي تكون قريبة من معلماتها.

إذاً الفكرة اكتملت في حجرة لا تتعدى مساحتها 16 متراً، جُهزت بمجهودات ذاتية لتكون مسرحاً مفتوحاً على كل الطلاب، يتلقون منها تعليمهم دون التعرض لمخاطر الخروج للمدارس، وتجمعهم الذي قد يجعلهم هدفاً سهلاً للقذائف العشوائية أو المقصودة كالتي استهدفت صاحبها.