في رحلتي لبعض القرى الواقعة جنوب محافظة الجيزة، لاحظت توغل مظاهر المدينة ومبانيها الاسمنتية للريف المصري، حيث المئات من المنازل المُشيّدة حديثا بالطوب الطفيلي والخرساني تختلط بما تبقى من المساحات الخضراء.

أرجع مواطنون هناك السبب إلى ما أطلقوا عليه “مافيا الأراضي الزراعية”،وهي- بحسب قولهم- ظاهرة ازدادت حدتها في تلك القرى عقب ثورة 25 يناير وما تبعها من انفلات أمني.

في رحلتي لبعض القرى الواقعة جنوب محافظة الجيزة، لاحظت توغل مظاهر المدينة ومبانيها الاسمنتية للريف المصري، حيث المئات من المنازل المُشيّدة حديثا بالطوب الطفيلي والخرساني تختلط بما تبقى من المساحات الخضراء.

أرجع مواطنون هناك السبب إلى ما أطلقوا عليه “مافيا الأراضي الزراعية”،وهي- بحسب قولهم- ظاهرة ازدادت حدتها في تلك القرى عقب ثورة 25 يناير وما تبعها من انفلات أمني.

تلك “المافيا” اعتمدت على ما يسمى بـ “الكَاحُول” وهو مواطن تُنقل له الحيازة الزراعية ورقيا من مالكها الأساسي مقابل مبلغ مالي بهدف تحمله العقوبة القانونية.

من هو “الكَاحُول”؟

ظهر مصطلح “الكَاحُول” لأول مرة في الإسكندرية بين مافيا الاستثمار العقاري، وما لبث أن انتقل إلى مافيا الأراضي الزراعية، كما يشير المستشار القانوني لمركز الأرض لحقوق الإنسان، المحامي محمد حجازي.

يوضح “حجازي” أن “الكَاحُول” غالبا من محدودي الدخل الراغبين في تحسين ظروفهم المعيشية، وتصدر ضده أحكام قضائية بالحبس والغرامة المالية.

مسؤولية قانونية  

“وائل” واحد من الذين وقّعوا على عدد من العقود الخاصة بنقل الحيازة، فتورط في 40 قضية، أدانته المحكمة في بعضها بالحبس 12 سنة، فيما يمكث بزنزانته منتظرا حكم القضاء في القضايا المتبقية.

داخل منزل ريفي متواضع يقع بمنتصف زقاق بقرية أبو النمرس، التقيت بوالدة “وائل”. قالت:” ابني كان عاطل عن العمل، وناس عرضت عليه يوقّع على عقود مقابل مبلغ مالي، ووعدوه بسداد أيّة غرامات مالية، إلا أن الشرطة بعد فترة ألقت القبض عليه”.  

الآن يقبع “وائل” داخل السجن، فيما يحاول محاميه ماهر الجبالي، البحث عن مخرج قانوني. يقول:” تقدمت بطعون على الأحكام بمحكمة النقض، ولكن القانون اشترط لوقف التنفيذ توافر سبب لاحق على الحكم، وإثباته أمام النيابة”.

يضيف:” عقوبة البناء على الأرض الزراعية تكون بالغرامة أو الحبس، أو كليهما، وتكون عقوبة الحبس من 24 ساعة حتى 3 سنوات بحسب تقدير المحكمة”.

تواصلت مع “وائل” هاتفيا من داخل زنزانته، كشف لي عن أن “مافيا الأراضي” تضم أصحاب حيازات، موظفين بالجمعيات الزراعية، محامي، سمسار عقارات، ومرشح سابق للبرلمان، نقلوا الحيازة له داخل الجمعيات الزراعية بقرى ترسا وشبرامنت والنزلة مقابل مبلغ مالي، ثم تخلوا عنه بعد حبسه.  

“كَاحُول” آخر

في قرية مجاورة تُدعى “نزلة أبو مُسلَّم” التقيت زوجة “كَاحُول” آخر يُدعى “محمد”.

تحكي الزوجة:” شخص يدعى طه كان يحضر إلى القرية بسيارة فارهة، أخد زوجي و3 آخرين، واتفق معهم على نقل حيازات زراعية مقابل 500 جنيه لكل فرد، ووقّع زوجي على 8 عقود على مرات مختلفة، رغم كونه أُميّا لا يعرف القراءة أو الكتابة”.

تابعت:” الشرطة ألقت القبض على زوجي وأدانته في 12 قضية، فضلا عن الغرامات المالية، فلجأت إلى محامي الذي أخبرني أن زوجي مهدد بالسجن لمدة 30 سنة”.  

اعتراف حكومي

توجّهت لمديرية الزراعة بالجيزة، والتقيت وكيل وزارة الزراعة، المهندس محمد شحاتة، الذي اعترف بالظاهرة، وصرح بأن محافظة الجيزة في الترتيب رقم 16 بين المحافظات في التعدي على الأراضي الزراعية.

قال:” هناك إجراءات قانونية لوقف التعديات، وتُشكّل لجان ثلاثية تضم ممثلين عن الزراعة والمحليات والشرطة تشن حملات إزالة بشكل شبه يومي، وأي موظف بالزراعة يثبت تواطؤه يحال للنيابة العامة”.

أضاف أن نسبة إزالة التعديات في الجيزة بلغت 54%، موضحا أن “الكَاحول” شريك في الجريمة وتوقع عليه عقوبة البناء على أرض زراعية تبعا للقانون رقم 119 لسنة 2008، مشيرا إلى أن مُلّاك الأراضي يُحرر ضدهم قضايا تتضمن اتهامات تتعلق بتقسيم الأراضي والتهرب الضريبي.

يشير أخر تقرير للإدارة المركزية لحماية الأراضي بوزارة الزراعة، إلى أن إجمالي عدد حالات التعدي في الأربع سنوات الماضية بلغ مليونا و400 ألف حالة، بإجمالي مساحة تصل إلى 57 ألفا و300 فدان، بحسب تقارير صحفية.

غياب رقابي

انتقلت إلى مقر مركز الأرض لحقوق الإنسان بميدان رمسيس بالقاهرة، المهتم بالدفاع عن حقوق الفلاحين.

المستشار القانوني للمركز محمد حجازي، أشار إلى أن بعض الأشخاص يشترون مساحات من الأراضي الزراعية من المزارعين بأسعار منخفضة، فضلا عن كبار الملاك، ويحولونها إلى مبانٍ بالتحالف مع موظفين فاسدين في الجمعيات الزراعية.

يُحمّل “حجازي” المسؤولية لـ الأجهزة الرقابية التي يصفها بـ الغائبة، ويشدد على ضرورة تقدم أسرة كل “كَاحُول” ببلاغ للنائب العام تكشف حقيقة الأمر، وأوضح أن وزارة الزراعة لديها إدارة تتخصص في حماية الأراضي الزراعية، لكنها لا تقوم بالدور المنوط بها.

خسائر المزارعين

يرى محمد يوسف، أحد ملاك الأراضي الزراعية، أن سياسة الدولة الزراعية هي السبب الرئيسي في التعدي على الأراضي، ويوضح أن المزارع يتكبد خسائر سنوية بسبب تعثره في تسويق المحاصيل الزراعية.

يقول:” عندي أرض بأجرها لمزارعين بـ 6 آلاف جنيه للفدان في السنة، وسعر الفدان زراعي تصل لـ مليون جنيه، إنما لو بيعت المساحة نفسها كأرض مباني سيكون السعر ثلاثة أو أربعة أضعاف حسب طبيعة المنطقة”.

يضيف:” بعض الملاك بينتظروا لمّا تدخل الأرض الحيز العمراني، وبعضهم يتحايل على القانون وينقلون الحيازة لآخرين، لكن القانون يعطيني حق البناء على 10 أمتار من كل فدان لو امتلكت أكثر من 5 فدادين بحد أقصى 250 مترا”.

عضو تيار الاستقلال والملقب بالفلاح الفصيح محمد برغش، يرى أن الإجراءات القانونية التي تتخذها الدولة ضد الفلاحين غاية في الصعوبة وتبخسهم حقوقهم، فضلا عن التشريعات المنظمة.

ويوضح أن قانون البناء الموحد الصادر عام 2009 وما تبعه من قرار وزير الزراعة الأسبق أمين أباظة رقم 986، تسببا في التعدي على الأراضي الزراعية، لفرضهما رسوم قاسية في ترخيص البناء على الأراضي وأعمال المعاينة.

قضية المافيا الزراعية بحاجة إلى حلول بنيوية وإطار قانوني يحافظ على الأرض الزراعية، ويحفظ حقوق ملاك الأراضي. وإلى أن يحدث ذلك سيظل الكاحول هو من يدفع الثمن.