سوق “الحصايرية” في محافظة نابل (شمال) اسم على مسمى، فهي سوق جمعت أهل المهنة بنفس الركن، إذ لا تكاد تدخل أول الزقاق حتى تجد حزم السمار مكدسة هنا وهناك علامة على صنع الحصير والقفة “النابلية”.

ورغم اكتساح السلع الحديثة الأسواق التقليدية فإنّ هذه المنتجات من السمار بقيت محافظة على رونقها وبساطتها وجمالها الأصيل رغم أنها تعاني منذ فترة من الكساد التجاري خاصة بسبب تراجع السياح الأجانب.

“شقاوتني أدخلتني المهنة”

سوق “الحصايرية” في محافظة نابل (شمال) اسم على مسمى، فهي سوق جمعت أهل المهنة بنفس الركن، إذ لا تكاد تدخل أول الزقاق حتى تجد حزم السمار مكدسة هنا وهناك علامة على صنع الحصير والقفة “النابلية”.

ورغم اكتساح السلع الحديثة الأسواق التقليدية فإنّ هذه المنتجات من السمار بقيت محافظة على رونقها وبساطتها وجمالها الأصيل رغم أنها تعاني منذ فترة من الكساد التجاري خاصة بسبب تراجع السياح الأجانب.

“شقاوتني أدخلتني المهنة”

بأحد الدكاكين الصغيرة في هذا السوق المليء بشتى السلع التقليدية العتيقة المتميزة بطابعها الخاص يجلس الحاج محمد الحامي، أحد أقدم صانعي السمار في وضع القرفصاء وهو يصنع بإتقان كبير حصير من السمار.

وتحدث هذا الرجل عن قصته مع صناعة السمار لكن حديثه لمراسلون لم يدفعه لرفع رأسه عن الحصير الذي كان منهمكا في إنجازه، وكأنه كان يتسابق مع الزمن خوفا أن تمر الساعات دون أن يستكمل العمل بين يديه.

تبدو ملامح التعب ظاهرة على ملامح الشيخ محمد الذي تجاوز الستين لكن تصميمه وحبه لعمله يجعله يقضي يوميا ساعات طويلة جالسا يعمل في دكانه الذي زُيّن بمنتجات صنعها بيديه النحيفتين من حصير وقفاف وسلال.

وعن كيفية دخوله إلى هذه الصناعة التي أصبحت اليوم تصارع من أجل البقاء، يقول بمزيج من السعادة والحسرة “لقد تعلمت هذه الصناعة التي أصبحت في طريقها للاندثار عن طريق بعض المعلمين ولم أرثها من أبي أو جدي”.

ثمّ ينهمك قليلا في اختيار اللون الذي سيكمل به قطعته ليضعه بحركة سريعة ومتناسقة تدل على حرفتيه ثم يواصل ضاحكا “شقاوتي هي التي أدخلتني إلى هذه الصناعة، لقد كانت أمي تصحبني قسرا لدكان جارنا كي أتعلم هذه الصناعة ولا أسبب لها المشاكل بالتخاصم مع أبناء الحي”.

حنين الحرفة

يتذكر الشيخ محمد بأنه كان في صغره يتذمر من “حبسه” في دكان صغير مع رجل عجوز لساعات طويلة وهو يراقب بعينيه الصغيرتين والبراقتين أسرار صناعة السمار الدقيقة، لكن الوقت كان كفيلا أن يجعله يتعود على الذهاب بعد دراسته إلى ذلك الدكان الذي أصبح مكانه “المفضل”.

وقد مرت سنوات طويلة قبل أن يتحوّل هذا الرجل بدوره إلى حرفي متميز في صناعة السمار، لكن دخله الضعيف من هذه الصناعة لم يمكنه من تحمل نفقات عائلته الفقيرة فانقطع لفترة طويلة عن العمل ليعمل في أحد المعاهد الثانوية الحكومية في نابل.

لكن الحنين إلى حرفته الأصلية بقي يلازمه ويجذبه للعودة لجذوره فقرر العودة لعمله بعد الدوام الحكومي، ساعيا بذلك في نفس الوقت للرفع من دخله عله يتغلب على مصاعب الحياة في ظل وطأة غلاء الأسعار.

لكن الشيخ محمد الحامي “أخفق حيث أراد أن ينجح” ذلك أنه أصبح يواجه مصاعب كبيرة في مزاولة نشاطه في دكانه بسبب الارتفاع المشط للمواد الأولية وندرتها، قائلا “أصبح الحرفيون اليوم غير قادرين على تغطية مصاريفهم لارتفاع الأسعار”.

تراجع الإقبال

إلى جانب ذلك يواجه هذا الرجل مشكلة ندرة اليد العاملة بسبب عزوف الشباب عن الاشتغال بمثل هذه المهن اليدوية الشاقة التي تتطلب جلوسا لساعات طويلة وتركيزا شديدا في مكان مغلق وضيّق.

لكن الأهم من كل ذلك هو تراجع الإقبال عن شراء منتجات السمار التي طالما كانت في السابق تجد رواجا كبيرا. وقد عزا الشيخ محمد هذا التراجع خاصة بسبب انخفاض عدد السياح نتيجة الاعتداءات الإرهابية.

ويقول “بضاعتنا أصبحت تباع في بعض المناسبات والأعياد”، مشيرا إلى أنّ عديد المنتجات المصنوعة من السمار مثل الحصير وقع التخلي عليها بسبب التغير بنمط المجتمع وتوجهه للمنتجات الحديثة.

ويصرح “للأسف الشديد لم تعد ربة البيت العصرية تفكر في اقتناء الحصير بتعلة أنه لا يتماشى مع المنازل الحديثة لذلك أصبحنا لا نتعامل إلا مع الحمامات والمساجد التي بقي البعض منها محافظا على الصناعات التقليدية”.

غير أن ما يؤرق الشيخ محمد اليوم هو حيرته حول ما سيكون عليه حال المساجد في السنين المقبلة، قائلا “أخاف أن نجد مساجدا بلا حصير وأن يندثر حرفيو صناعة السمار بسبب اعتزال الكثير منهم”.