لم يكن رمزي وسلاتي يتوقع أن تقريراً سوف يعده حول وضع المرأة الريفية، سيقلب حياته رأسا على عقب ويكلفه حكماً بقرابة نصف قرن من السجن.

لم يكن رمزي وسلاتي يتوقع أن تقريراً سوف يعده حول وضع المرأة الريفية، سيقلب حياته رأسا على عقب ويكلفه حكماً بقرابة نصف قرن من السجن.

في تشرين أول/أكتوبر 2000 كلف رمزي، في إطار وظيفته بوزارة الشؤون الاجتماعية، بإعداد تقرير رسمي حول وضع النساء في الوسط الريفي، ليقدمه فيما بعد في إطار احتفال رسمي يحضره الرئيس آنذاك زين الدين بن علي. “كانت فرصة نادرة بالنسبة لي لتقديم معاناة النساء في الارياف، وما يتعرضن له من استغلال على كل المستويات، هكذا اعتقدت” يقول رمزي، الأمر الذي جعله يقوم بمسح ميداني لمدة أشهر في القرى الحدودية المعزولة.

“في قرى فرقصان والمواجن والصريا وعين السنوسي والفجة وأحواض القرع وسوق الجمعة وغيرها من القرى الحدودية المعزولة والنائية، عاينت أوضاعا لا تليق بالكرامة الانسانية”. وبعد أشهر من المعاينة صاغ رمزي تقريرا نقديا ” لكنه موضوعي وعلمي” كما قال.

شيكات من دون رصيد  

حضر الرئيس السابق بن علي الاحتفال بمناسبة اليوم الوطني المخصص للمرأة الريفية واستغل رمزي حضوره ليقدم تقريرا واقعيا كشف من خلاله عن معاناة المرأة في بلده: ظروف السكن في الأكواخ المعششة بالحشرات التي تنهش أطفالها وتتقاسم فيها السكن مع حيواناتها، والمشي لعشرات الكيلومترات لجلب الماء، والعمل في حقول مالكي الاراضي الكبار لعشرة ساعات بمقابل مالي زهيد، ثم العودة للعمل في المنزل.

استغل رمزي حضور الرئيس وغاص في وصف حال تلك المرأة على أمل أن يأذن “سيادته” بتخليصها من تلك المعاناة، ولم يكن رمزي يعلم أن ممثلين عن منظمات دولية سيحضرون للاطلاع على الصورة الوردية التي قدمها لهم موظّفو الرئيس حول المرأة ومكاسبها الرائدة كما يحلو لهم وصفها، ومساواتها بالرجل.

ساعات بعد عرض التقرير أمام الرئيس “داهم منزلي رجال الشرطة وأخذتني سيارة إدارية ليلا إلى مقر عملي  حيث كان أعوان أمن الدولة ينتظرونني”.

اقتيد رمزي إلى إحدى المخافر في تونس العاصمة وظل أيام تحت التعذيب عقابا له على ذلك التقرير، ليعرض بعدها على النائب العام وفي حوزته حزمة من التهم، منها تدليس شيكات وصرفها. “لقد اخترعوا لي قضية من العدم، شيكات أراها لأول مرة، كانت مسرحية محكمة الاخراج، وانتهت بالحكم علي بثمان وأربعين سنة!”.

أيام السجن

يتذكر رمزي وهو يتحدث عن سجن المسعدين أو سجن الناظور أو سجن بلاريجيا أو سجن سليانة (الأسوأ في نظره) تلك الحياة داخل تلك الغرف المظلمة والأسوار الشائكة. يتذكر الغرفة التي تعج بعشرات المساجين ينامون بالتناوب لضيق المكان.

يتذكر دورة المياه الكريهة التي تحولت إلى مصدر للتعذيب ورائحة المكان التي كانت سبباً لتقيؤ كل الوافدين الجدد. “كانوا يستعملون مواد متعفنة ويضعونها في أنوفنا، في البداية كان ذلك قاسيا ثم تغلبت على الأمر بفقدان حاسة الشم”. يتذكر كيف يقف السجين مسنداً ظهره إلى أحد الجدران عله يخفف آلام مرض الجرب الذي أصابه.

يستعيد جيدا أيام التعذيب وغمس الرأس في برميل الفضلات الممزوجة ببول المساجين، يتذكر جيدا لسعات الكهرباء ولسعات الماء البارد شتاء والحار صيفا، يتذكر ساعات وأيام “السيلون”  في ساعات الفجر الأولى وقطرات المياه العفنة  التي تصله عبر الشقوق وعبر فتحات خصصت لذلك الغرض.

لا ينسى أيضاً الجرائم التي كانت تحصل داخل السجن نفسه. “كنت أنام على ظهري لسنوات خشية أن يتحرش بي أحد مساجين الحق العام وخاصة منهم الذين حوكموا في قضايا اللواط”.

أربعة عشرة عاما قضاها رمزي خلف جدران السجون، جاب فيها سجون تونس من الشمال إلى الجنوب وذاق فيها لوعة الفرقة والتعذيب والحرمان، أبرزها حرمانه من حضور جنازة والده، رغم محاولة والدته المسنة إحضاره في تلك الجنازة. ويستدرك رمزي بتهكم: “فترة السجن لم تكن كلها معاناة فقد تعرفت فيها إلى عديد المساجين ومنهم من تولوا وزارات بعد الثورة، وتنكروا لي، وأيضا على شهادة في الإعلام في السجن سنة 2009”.

أريد أن أعود لعملي

علاقة رمزي بالسجن تعود إلى سنة 1997 حين كان طالبا يساريا، حوكم بستة اشهر سجن نافذة بسبب تعليقه منشوراً يدعو الى التضامن مع العراق والتنديد بالحرب التي تعد له.   

لكن دخوله السجن سنة 2000 كان مختلفا عمن حوكموا في قضايا سياسية. فقد كشف بتقريره عن شبكة من الفساد المالي والإداري الذي كان ينخر منظمات غير حكومية وظفها النظام السابق لاستدرار الأموال من الداخل كما من الخارج تحت عنوان “دعم وتمكين المرأة التونسية”.

ولأن من ساهم في كشف أمرهم من الفاسدين “لازالوا متنفذين في الإدارة حتى بعد سقوط نظام بن علي” بحسب وصفه، لم يشمله العفو التشريعي العام الذي صدر بعد الثورة في 2011 ليظل رمزي تائها بين الانتظارات والمراسلات المتعلقة بإعادة النظر في ملفه. وعندما اشتكى إلى مدير السجن أقنعه بان يراسل هياكل وزارة العدل في الموضوع وان يلتجأ للمنظمات إن استطاع لذلك سبيلا .

إعادة النظر في الملف كانت تحتاج من رمزي وثائق كثيرة كان يصعب على والدته المسنة جمعها وإحضارها، لذلك اختار أن يراسل عبر البريد الإداري الخاص بالسجن، الأمر الذي كلفه الكثير من الوقت.

وبسبب هذا الاختيار، وأمام الواقع البيروقراطي للإدارة التونسية فقد ظل معلقاً بين الأمل أحياناً واليأس، إلى درجة التفكير في الانتحار كما فعل العشرات أمامه قبل أن يطلق سراحه بموجب عفو خاص صدر أخيراً عن رئيس الجمهورية في آذار/مارس الماضي .

يوميا وبعد أن أطلق سراحه، يتنقل رمزي بين قريته وبين مدينة بوسالم ( 150 كلم بالشمال الغربي لتونس) التي درس فيها مرحلته الثانوية واقتيد منها إلى السجن المدني بالكاف ليقضي ستة اشهر سجن نافذة بتهمة توزيع مناشير من شأنها تعكير صفو النظام العام.

حرقة على سنوات مهدورة مضت داخل السجون. كل خطوة تذكره بوالده الذي يستفيق باكر ليتوجه إلى عمله دفاعا عن حق أبنائه في حياة كريمة. ينظر رمزي إلى السماء والى الخلف كما الأمام. يتحسّر ويبتسم أحياناً.

تسأله لماذا الحسرة، يجيب: “مظلمتي كانت طويلة وكانت مضاعفة. كنت أحلم وفق مؤهلاتي بأن أصبح مدرّساً في الجامعة ولكن قوة الظلم فاقت حلمي وأحالتني على البطالة”. هو يطالب بالعودة إلى سالف عمله في بوزارة الشؤون الاجتماعية طبق ما يخوله المرسوم عدد 1 لسنة 2011.

ويعلق “من قضى معي سنوات في السجن أصبح عضوا بمجلس نواب الشعب بعد أن تمتع بشهادة في العفو التشريعي العام وهي ذات الشهادة التي حصلت عليها قبل مغادرتي السجن، وبين قضيتي وقضيته فوارق، ربما للعدالة الانتقالية نواميسها وللعدالة الاجتماعية نواميسها، لكن سأنتصر”.