لست ممن يأخذون صورة “سلفي” مع الجثث أو مع الجرحى أو ممن يكتبون على صفحات التواصل الاجتماعي لحظة بلحظة ما يرونه من بشاعات فلا وقت في ذلك الزمن الرهيب لهذه الأشياء، أنت شاهد وناقل للأحداث وربما رهينة ومشروع قتيل، أنت في نفس الصف تقف مع فرق خاصة على درجة عالية من التدريب والتسليح (قوات مكافحة الارهاب وقوات الأمن الرئاسي) والتي سئمت الصراخ في وجهك للتراجع.

لست شجاعة أو جريئة أواجه الموت بصدر رحب أو أبحث عن تميز مهني، إنما هو شعور الارتباك وحب البقاء وحب الاطلاع والرغبة في أن أكون في الصفوف الامامية للخطر.

لست ممن يأخذون صورة “سلفي” مع الجثث أو مع الجرحى أو ممن يكتبون على صفحات التواصل الاجتماعي لحظة بلحظة ما يرونه من بشاعات فلا وقت في ذلك الزمن الرهيب لهذه الأشياء، أنت شاهد وناقل للأحداث وربما رهينة ومشروع قتيل، أنت في نفس الصف تقف مع فرق خاصة على درجة عالية من التدريب والتسليح (قوات مكافحة الارهاب وقوات الأمن الرئاسي) والتي سئمت الصراخ في وجهك للتراجع.

لست شجاعة أو جريئة أواجه الموت بصدر رحب أو أبحث عن تميز مهني، إنما هو شعور الارتباك وحب البقاء وحب الاطلاع والرغبة في أن أكون في الصفوف الامامية للخطر.

كنا وعدد من الزملاء داخل بهو مجلس نواب الشعب نحاور وزير العدل الذي هرول مغادرا المجلس على ما يبدو إثر مكالمة هاتفية من رئيس الحكومة في ذلك اليوم، 18 آذار/مارس. كانت الساعة تشير إلى منتصف النهار وثماني عشر دقيقة، أي دقيقتان إثر انطلاق إطلاق الرصاص.

نزلت إلى البهو السفلي رفقة زميلة أخرى إثر سماعنا إحدى الموظفات تتساءل عن طلق ناري في الجهة الخلفية للبرلمان. ما أن وطأنا البهو حتى لاحظنا أن قوات الأمن الرئاسي المكلفة بحراسة مدخل النواب تقوم بارتداء أسلحتها وتتصل بالسلطات الأمنية لإرسال التعزيزات.

عدنا، وأخبرنا من اعترضنا في إطار تحذيرهم من الخروج. التقطت هاتفي من جيبي وارتديت لباس الصحافة (جيلي الاذاعة الوطنية) وانطلقت نحو المتحف، تقدمت قليلا إلى أن منعني الأمن، ورأيت أشخاصا يجرون فارين من المسلحين. اتجهت نحوهم واستجوبتهم. ثم هرولت نحو الداخل بعد أن أكدت القوات الأمنية هروب أحد المسلحين نحو سطح المتحف وإمكانية نفاذه إلى سطح البرلمان نظرا لالتصاقهما.

دخل الذعر إلى نفوس النواب والموظفين وحاول الأمنيون التابعون للحرس الرئاسي غير المسلحين أو المزودين بواقيات رصاص حماية المدخل بصدورهم العارية. دقائق بعدها يصل الأمنيان المكلفان بحراسة باب البرلمان المشترك مع المتحف والمسجد. شهيدان حيان أنقذهما ظن العنصر المسلح بأنهما حارسان وليسا من “جند الطاغوت”.

يرويان كيف دخل الارهابيان حاملين سلاح “كلاشنكوف” وجهاه نحوهما وأمراهما بالتراجع واتجها جريا نحو الفريسة الثمينة، حافلات السياح، ليهرول الأمنيان باتجاه الجهة الخلفية لإعلام السلطات والعودة للتسلح.  

لم يكن الخروج نحو مكان العملية الارهابية سهلا خاصة مع إصرار القوات الخاصة بمكافحة الارهاب على أن يتم إجلاء البرلمان في أسرع وقت خوفا من أن يكون أيضاً مستهدفا ويتم الولوج إليه واحتجاز رهائن، لكن المعرفة بالمكان وكل ردهاته قادتني وثلاثة زملاء ومستشار رئيس البرلمان نحو موقع الخطر وتبادل اطلاق النار.

لبثنا هناك ساعة ونصف مباشرة وراء القوات الأمنية، التي ما انفكت تطردنا من المكان.. شاهدنا تبادل اطلاق النارا وإطلاق القنابل الصاعقة وقنابل الصوت، شاهدنا رهائن يطلون من الشباك، لكن في لحظات تحولوا إلى  قتلى.

هل يمكن أن نخاف الموقف، وعلى بعد متر فقط منا يوجد أمني لم يمض وقت قليل على إجرائه عملية جراحية في ساقه، يحمل رشاشه الثقيل ويؤمن خروج الرهائن ويرد الأذى عنهم؟ انتهت العملية الأمنية بقتل العناصر المسلحة. انتهى كابوس لينطلق آخر أكبر وأعمق، فبمجرد الدخول إلى باحة المتحف، وجدتني أتجول بين الجثث وأقفز بين برك الدم.

يواصل الأمنيون مسعاهم في منعنا من التصوير، ولكن كاميرا هاتفي صورت كثيرا من اللقطات المحرجة للإنسانية.

حال انتهاء العملية قفز سائح كولمبي نحو مسرح العملية، حيث سقطت زوجته وابنه برصاص الارهابي منذ إنطلاق العملية. جثا على ركبتيه وعانق زوجته ويد ابنه، كان يراوح بين العويل وبين البكاء. وكنت على المباشر أنقل صورة يتفجر لها القلب بنبرة باردة.

تأخر قدوم وكيل الجمهورية (النائب العام) وتواصلت عملية إخراج الجثث ووضعها في سيارات الاسعاف ونقل المصابين، دوامة من اللحم والرصاص والدم. مشهد يعري أكثر حجم المصيبة وينزع عني وعن المتوافدين على المكان أكثر فأكثر غشاوة الصدمة.

يؤجج الاحساس بالحزن والعجز عن التعبير عنه أيضاً مشهد السائح الذي يعانق عائلته التي قتلت، والأمنيين الذين يغالبون دمعا على زميلهم.

في تلك اللحظات التي كانت الحافلات السياحية التي تقل الناجين “بأعجوبة” من إطلاق نار هستيري نحو طريق العودة وفي مشهد لا يمكن وصفه، كان السياح يلقون علينا التحية، بعضهم كتب عبارات تشجيع، وآخر رفع شعارات انتصار. خامرني ساعتها شعور بالحرج والخجل والحزن ومشاعر أخرى لا يمكن تحديدها.

واصلت وزملائي العمل إلى ساعة متأخرة من الليل، وعدنا كل إلى بيته، تحت الصدمة دوما، لكن بزاوية نظر مغايرة لإنسانيتنا ووطننا.

في الزمن الموضوعي دامت العملية الارهابية ساعتين ونصف تقريبا، لكنها في الزمن الشخصي والوطني دامت عمرا وما زالت مستمرة.