تخاذُل المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته في الإعلان عن العدو الأول الذي يمثل خطراً محتملاً على كيان الدولة وأمن المواطنين هو السبب الأهم الذي جعل اللواء المتقاعد حفتر يتجرأ على الوظيفة الأولى للسلطة السيادية، وهي إعلان الحرب على العدو الداخلي وفقاً للمصلحة العليا المستقرّة في وجدان الشعب.

هذا التخاذل من مؤسسة السلطة جعلها تقع في فخ إنكار وجود هذا العدو جملةً وتفصيلاً، وزاد من عزلتها عن المواطنين الذين كانوا ينتظرون من نوابهم الإشارة للخطر الأول الذي يحيق بأمنهم ومستقبل دولتهم، وهو التيار الديني المتشدد الذي يعد العائق الأساس أمام قيام الدولة.

الشعوب والأمم تتفنن في إيجــاد الأسباب للعيش المشترك تحت مظلة سياسية جامعة وهي (الدولة الوطنية) تحقق من خلالها مصلحتها وتستجمع قوتها وتدرأ عن نفسها المخاطر، وهذه من البديهيات التي تضمن لأي شعب مكانته اللائقة في منظومة الأمم. بينما تخاذل أقطاب السياسة والقرار في ليبيا عن بناء مفهوم للأمن يجمع أطياف الشعب الليبي ويوحد مصلحتهم ويحقق وحدتهم، حد أن يصبح “العدو” الذي يهدّد وجود طرف ما هو صديق وحليف لطرف آخر، زاد من المتناقضات التي تحول دون قيام كيان سياسي جامع.

قيام الدولة الوطنية لا يكون بمجرد الأماني والشعارات، فالشعوب تنتظم في كيانات سياسية وفق مجموعة من الثوابت تشكل عوامل وحدتها وتماسكها داخل فضاء أو كيان جامع، وبالتالي فإن الوظيفة السيادية الأولى لأي سلطة مركزية ستمثل هذا الكيان السياسي، هي تحديد المخاطر التي تهدد الدولة والمجتمع وإعلان المواجهة معها. وهذا قرار سيادي يتوجب على السلطة القيام به وتحمّل مسؤوليته وتبعاته، ولكن إذا تغافلت مؤسسة السلطة عن وظيفتها الأولى فإنها ستفقد مكانتها ومشروعيتها وستضع الوطن في موضع رهان داخلي وخارجي.

ما عجز عن إدراكه المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته هو أن التحدي الأمني في برقة يختلف عنه في طرابلس، وهذه ليست دعوة للتقسيم وإنما هي من طبيعة الأشياء، فبينما كانت برقة تواجه خطر توطين التطرف الممتد إقليمياً، وتتعرض لموجات متصاعدة من الاغتيالات والتفجيرات كان التحدي الأمني في طرابلس في تلك الفترة مختلفاً تماماً.

ولكن مع الأسف عالج المؤتمر الوطني المسألة بالتي هي الداء، فاعتبر برقة خصماً وأن معاناتها ومطالبها الأمنية أو الاقتصادية جزءاً من “مؤامرة”، بينما في الواقع هي جزء من الوطن له خصوصيته التي لم يسعَ المؤتمر لاستيعابها وتحمّل المسؤولية تجاهها. وبدلاً من ذلك حشّد لبرقة الفتاوى والقرارات والسياسات الخاطئة فساهم في زرع الفوضى بها والاقتتال وعدم الثقة بين أبناءها وتركها فريسة لأي مشروع عابر أو أجندة صالحة أو غير صالحة.

وعوضاً عن الإيفاء بواجباته والتزاماته أغرق المؤتمر في تصوير المشهد من منظور المؤامرة والثورة المضادة، بينما البلد كانت تعاني من تفكك واضح وتغرق في مستويات حادة من الفوضى العامة، وتواجه تحديات كبيرة ومحققة تهدد إمكانية قيام الدولة الوطنية في ليبيا أساساً.

وعند انهيار الأوضاع منتصف 2014 لم يكُ ينبغي لمن أخذ على عاتقه مسؤولية القرار الوطني أن يلقي بالمسؤولية على عاتق الشعب، بعد أن فشل في إدراك المخاطر والتحديات فضلاً عن الإشارة إليها أو مواجهتها، فمن ترك الجرح مفتوحاً والنزف مستمراً لا يمكن له أن يلقي باللوم على الجراثيم إذا أفسدت جسم المريض، ولا ينبغي أن يلوم المريض إذا لجأ للكي أو البتر أو حتى لجأ للمشعوذين.

المشكلة الأكبر حقيقة أنه بنفس الآلية تقريباً يعجز البرلمان المنتخب في حزيران/يونيو 2014 عن اكتساب أرضية واسعة في المنطقة الغربية، التي تواجه تحديّات وتعقيدات ومخاطر مختلفة عنها في الشرق، وهذا يعني أن الكيان السياسي الليبي يعجز حتى الآن عن الوقوف والنهوض فوق أرضية صلبة من الثوابت، وإيجاد تعريف محدد للمصلحة العليا المشتركة ومفهوم عام للأمن – شرقاً وغرباً وجنوباً – يضمن بقاء واستقرار الكيان السياسي الجامع.

القضية الأمنية هي من أهم القضايا التي نحتاج إلى صناعة ثوابت قاطعة حولها، ومن ثم يمكن أن تتحوّل هذه الثوابت إلى مشروع لدولة وطنية جامعة، فوجود الثوابت هو السبب والمبرر لوجود المشروع المشترك، والمسألة ليست بالأماني، فلا وجود لكيان سياسي يضم مجموعات تتنافر أولوياتها الأمنية، وهذا الاختبار سيحدد إمكانية بقاء هذا الكيان من عدمه.

لكي تتمكن السلطة السيادية في ليبيا من قطع الطريق على أية مشاريع أو أجندات شخصية أو إقليمية تهدد الكيان الوطني، لا بد لها من أن تمتلك رؤية أشمل للمخاطر الحقيقية، مراعية فيها الخصوصية المناطقية لليبيا، ووضع استراتيجية قابلة للتطبيق لمواجهة تلك المخاطر، كي تكسب ثقة الشارع وتعاونه وتمهد لقيام الدولة.