ساد في السنوات القليلة الأخيرة اختزالٌ للحراك الشعبي المصري في ميدان التحرير، لا سيما في عامي 2011 و2012، قبل أن تعرف الجماهير استقطاب الحشود بين محيط قصر الاتحادية وبين ميدان رابعة العدوية. أدّى الإعلام دوراً كبيراً في تهميش الحراك الجماهيري في المدن والمحافظات المختلفة في يناير وفبراير من عام 2011 قبيل إسقاط حسني مبارك، وكذلك في نوفمبر من العام ذاته تضامناً مع الحراك الثوري في شارع محمد محمود، الواصل بين ميدان التحرير ومقر وزارة الداخلية، حيث تم انتزاع جدولٍ زمنيٍ واضحٍ ومحددٍ لتسليم السلطة من المجلس العسكري عبر انتخابات رئاسية مباشرة في 2012.

ساد في السنوات القليلة الأخيرة اختزالٌ للحراك الشعبي المصري في ميدان التحرير، لا سيما في عامي 2011 و2012، قبل أن تعرف الجماهير استقطاب الحشود بين محيط قصر الاتحادية وبين ميدان رابعة العدوية. أدّى الإعلام دوراً كبيراً في تهميش الحراك الجماهيري في المدن والمحافظات المختلفة في يناير وفبراير من عام 2011 قبيل إسقاط حسني مبارك، وكذلك في نوفمبر من العام ذاته تضامناً مع الحراك الثوري في شارع محمد محمود، الواصل بين ميدان التحرير ومقر وزارة الداخلية، حيث تم انتزاع جدولٍ زمنيٍ واضحٍ ومحددٍ لتسليم السلطة من المجلس العسكري عبر انتخابات رئاسية مباشرة في 2012.

كنت سعيد الحظ بتجوالي في العديد من المحافظات الشمالية والجنوبية لتوثيق بعض جوانب المشاركات الثورية فيها، فضلاً عن مشاركتي الشخصية وتغطيتي الإعلامية لأحداث الثمانية عشر يوماً الأولى من الثورة (25 يناير – 11 فبراير 2011) في مسقط رأسي، مدينة الإسكندرية. رأيت بعيني كيف أن جموعاً غفيرةً قد زحفت في شوارع مدينتي عشرات الكيلومترات يومياً بدون اعتصامٍ مقيمٍ في طقس مطير بارد، على عكس اعتصام ميدان التحرير المركزي الدافيء قليل المطر، الذي كان بؤرة ثابتة لالتقاء الثوار المنضمين إليه، والخارجين منه، أفراداً لا حشوداً.

قضيت ثلاث سنوات أرفض الاختزال المركزي السطحي لحراك الجماهير في صنع أسطورة أحادية السردية اسمها “ميدان التحرير”، وكنت ميّالاً لاستخدام تعبيرات أكثر رحابة، مثل “ميادين وشوارع التحرير”، بإدخال صيغة الجمع على “الميدان” وإضافة الشوارع التي شهدت احتجاجاتٍ زاحفةً لا مجرد تجمعاتٍ ساكنة، وبذلك تعود كلمة “التحرير” لأصلها اللغوي وتترجم بالإنجليزية إلى libration، عوضاً عن معاملتها كعَــلَم على اسم مكان يكتب بالحروف اللاتينية Tahrir.

كنت ممن يرون اختزال المشهد الثوري في ميدان التحرير سلوكاً محافظاً رجعياً غير ثوري، أي سلوكاً يعيد إنتاج متلازمة المركزية وتهميش الأطراف وكل ما هو خارج مركز الحكم، وما يعنيه ذلك من احتكار نخبة العاصمة ورموز مشهدها السياسي والإعلامي الحديث باسم 90 مليون مواطن، بينهم من التنوع والاختلاف الاجتماعي والاقتصاي والثقافي والفكري والعرقي والديني والمذهبي ما تعجز عن استيعابه وفَـهْمِه عاصمةٌ يتركز فيها الزحام والضوضاء والتلوث والصراع اليومي والاكتئاب وضيق الصدر، أو ما أميل لاختصاره بالتعبير عن استحقاقها اسم “القاهرة” لأنها “عاصمة القهر”.

ساقتني الأقدار في ربيع 2013 إلى الانتقال للسكن في حي “الظاهر” العريق، الذي يستحق عن جدارة أن يُلقّب بعاصمة التنوع الديني في مصر. سُــمــّي الحي باسم القائد المملوكي الشهير الظاهر بيبرس، الذي تدور السيارات الآن في ميدان واسع حول جامعه الفسيح، ذلك الذي بني قبل أكثر من خمسة قرون، ويعد ثاني أكبر جوامع القاهرة مساحةً بعد جامع عمرو بن العاص. في محيط عشرات الأمتار من جامع الظاهر، ذلك الذي ينفرد عن جوامع القاهرة جميعاً بافتقاده القبة والمئذنة، تشهد أربعةُ معابدَ يهوديةٍ مغلقةٌ وعددٌ من المباني الأثرية الأخرى على تاريخ الطوائف اليهودية المصرية من القرّائين والربـّـانيّيــن. وفي محيطٍ أوسعَ قليلاً، تنتشر العديد من الكنائس والأديرة والمدارس والجمعيات والمنشآت الدينية المسيحية، ما يجعل الحيّ جامعاً لطيْفٍ واسعٍ من التنوع المذهبيّ والإثنيّ غير الموجود في أي مكانٍ آخرَ في مصر. ففي مساحة بضعة كيلومترات مربعة، يتجاور الأقباط والأرمن واليونان والسريان والكلدانيون والموارنة بطوائفهم المتنوعة، جنباً إلى جنب مع الرهبنات الكاثوليكية الأوروبية، مثل الجزويت والدومينيكان والفرنسيسكان. وقد صار عملي الجديد في شارع طلعت حرب في قلب القاهرة الخديوية، المعروفة باسم حي “وسط البلد”، ما اضطرني للمرور يومياً على ميْدانيْ “باب الشعرية” و”العتبة”، أو سلوك الطريق الآخر لأمــرّ بميدان “رمسيس”، حيث محطة القطار الرئيسية، “محطة مصر”.

بالدمج بين التجوال والمشاهدات الميدانية، والقراءة المتنوعة في تاريخ القاهرة وشوارعها وميادينها، وبين التأمل الطويل في خريطتها، وجدت نفسي أقل رفضاً لفكرة اختزال مليون كيلومتر مربعاً، هي مساحة جمهورية مصر العربية، في ميدانٍ واحدٍ في عاصمتها، أو حتى استساغة اجتزاء تنوع 90 مليون شخص في بضع مئات آلافٍ قد يشغلون هذا الميدان أو ذاك في لحظةٍ استثنائية. لا أزال أرفض المركزية القاهرية، سياسياً وإدارياً واقتصادياً وإعلامياً، لكني تراجعت قليلاً عن عدائي للمركزية القاهرية على المستوى الرمزي، ووجدت نفسي أكثر تصالحاً مع تقبل الاختزال المؤقت المشروط، بغرض الدراسة والاستماع لقصة شعب يمكن أن يحكيها ميدان واحد..

أيّ الميادين أحق بالحَكــْي؟

أثبتتْ الشهور المتعاقبة أن مثالية ميدان التحرير في اعتصام الأيام الأولى من الثورة لم تكن راسخة بجذورٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ تضمن لها الاستمرار وصولاً إلى يوتوبيا مصر المنشودة في ثورة يناير. ثم لعب الاستقطاب السياسي دوره في مسخ الميدان، الذي كان حاضنةً لأحلام المصريين الطامحة إلى التغيير نحو الأفضل للجميع، من دون إقصاء لأي طرفٍ مهما كان ضعفه أو قلة عدده. في غضون أسابيع وشهور قليلة، صار الميدان مسرحاً لاستعراضات القوة التنظيمية والتعبوية للإسلاميين في صيف 2011، وامتطت صهوتَه حشودُ 30 يونيو 2013 المعارضة لحكم الإخوان بعد سنةٍ واحدةٍ من شهوده الاحتفال بفوز محمد مرسي. وأخيراً، تحوّل إلى علامةٍ بارزةٍ في حوادث الاعتداء الجنسي العنيف والغوغائي في الاحتفالات بتنصيب عبد الفتاح السيسي، بعد شهور من شهوده على العبث المتمثل في عزف فرقة الشرطة الموسيقية ألحانها وسط الجماهير، التي قتلتهم قوات مشتركة من الجيش والشرطة في الميدان نفسه قبل سنتين. والآن، يجري العمل على قدمٍ وساقٍ في تجميل ميدان التحرير بسبب اقتراب افتتاح أحد الفنادق الكبرى المطلة عليه، بعد أن صار مغلقاً في وجه الجماهير، ومحظوراً فيه التظاهر والاحتجاج، وألغيت محطة مترو الأنفاق فيه منذ أكثر من سنة. ففي أقل من ثلاث سنين، انتهت أسطورة ميدان التحرير، الذي لم يكن الحراك فيه معبراً عن ثورة شعب، بقدر تعبيره عن الاضطراب والتردد وغياب الرؤى.

مترجلاً على قدمي، ومتجولاً بدراجتي، ومتأملاً من نافذة السيارة وعبر زجاجها الأمامي، رأيت في حركة الناس تحت أعين المباني العتيقة ومرافق الشوارع ومنشآتها قصةَ شعبٍ لا يمكن أن تروى من أعلى إلى أسفل، أي من منظورٍ يبدأ بأنظمة الحكم المتعاقبة وصولاً إلى قواعد المجتمع. لذلك، فإن مركزية ميدان التحرير، المرتبطة بكونه قلبَ مركز الحكم، وقريباً من المجالس النيابية ومجلس رئاسة الوزراء وأغلب الدواوين الوزارية المهمة، قد تعتبر مدخلاً مناسباً لفهم تطور نظام الحكم في مصر، لكنها لا يمكن أن تعبر عن المجتمع المصري. وفي الناحية المقابلة، فإن الحركة زائدة النشاط في ميدان رمسيس تفقد تركيز الناظر إليها الذي يحاول فهم ما يجري. صحيحٌ أن محطة قطار السكك الحديدة الرئيسية استحقت اسم “محطة مصر” لأن مندوبين عن جميع أنحاء مصر يزورونها يومياً، بين وافدين ومغادرين، إلا أن الزحام الزائد والفوضى العارمة والضوضاء المستعرة تجعل من التفكير في محاولة التأمل أو الاستماع ضرباً من العبث.

وحده، ميدان العتبة استطاع أن يقنع متمرداً على المركزية القاهرية بأن العاصمة التي همّشت أطرافها بصوت نخبتها الزاعق يمكنها أن تحوي سردية شعبية معبرة عن أصوات المهمشين في صراعهم الأزليّ مع مركز الحكم والهيمنة. لا يفعلها ميدان العتبة بتاريخه وشواهده المعمارية ومساحاته الخضراء المتآكلة، بل يفعلها بحركة الناس فيه وحوله، في شوارعه المحيطة، وفوق جسوره، وخلال أنفاقه. فهو الميدان الذي تستطيع أن تأخذ موقعك من أحد أركانه فتستمع وتشاهد تاريخ القرون حيّاً يتحرك مع حركة المارة والسيارات والدواب والحمّالين والباعة الجائلين.

يجمع ميدان العتبة بين السرديتين، الاجتماعية والسياسية، فهو ليس مركز الحكم ونخبته كميدان التحرير ذي الصيت الذائع وأسطورة السنوات الثلاث الأخيرة، وإن كان قريباً منه، وهو ليس ميداناً شعبياً خالصاً مثل ميدان “محطة مصر” وميادين الأحياء العتيقة مثل “باب الشعرية” و”باب الخلق” وساحات الجوامع والأضرحة، التي تقام فيها الموالد السنوية للصالحين وآل بيت الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – وإن كان قريباً منها جميعاً.

لماذا ميدان العتبة؟!

حسناً. يجمع ميدان العتبة بموقعه الفريد بين تناقضات عاصمة الحكم وحشود المحكومين، وترى فيه الممر بين القاهرة القديمة والعاصمة الحديثة. فَعَلَى مسافة أمتارٍ من مبنى المطافيء، ذلك الذي كانت ساعته تشير إلى توقيت القاهرة قبل نقلها إلى قبة الجامعة، يمكنك أن تقف على ناصيةٍ واحدةٍ لشارعيْن يلتقيان في العتبة؛ أحدهما يصل الناس بجامعي السلطان حسن والرفاعي في محيط قلعة صلاح الدين الأيوبي بجبل المقطم، والآخر يقودهم إلى ميدان قصر عابدين، حيث نقل الخديوي إسماعيل مركز الحكم من القلعة إلى قصره الجديد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لكنك حين ترمي ببصرك إلى مآذن السلطان حسن والرفاعي في نهاية شارع محمد علي، ثم تلتفت إلى شارع السلطان عبد العزيز متطلعاً إلى الطريق نحو القصر المنيف، لن ترى انتقال مركز الحكم السياسي من القلعة إلى القصر منفصلاً عن موقعك من حركة الوافدين والذاهبين إلى الموسكي وباب الشعرية ومنطقة الجامع الأزهر وجامع الحسين في القاهرة الفاطمية. ومن هنا تبدأ الحكاية..

ماذا يقول ميدان العتبة؟

ليس للميدان معنىً إلا لكونه ملتقىً لحركة الناس القادمين من اتجاهات شتى، والقاصدين نواحٍ متعددة. فالميادين عموماً شهودٌ على ما تقوله حركة الناس ذهاباً وإياباً ودوراناً، وميدان العتبة خصوصاً سِجّلٌ مفتوح تخطّ فيه أيادي الجماهير المتحركة سطوراً لم تعبأ بكتابتها رواية السلطة الرسمية. أما عبقرية ذلك الميدان فتكمن في صموده كشاهد وموثّق لأحداث التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبرى، من دون أن يتورط كفاعل رئيس في أيٍ منها، بل كان في الحقيقة– ولا يزال – مفعولاً به، كساحةٍ خلفيةٍ للصراع بين السلطة والشعب، وبين العاصمة المركزية ومندوبي الأطراف المترددين عليه، وبين الأغلبية والأقليات المتنوعة.

لا يحتاج زائر الميدان إلى القراءة عن تاريخ الميدان وتطور اسمه من العتبة الزرقاء إلى العتبة الخضراء والتدهورات التي مـــرّ بها كي يكتشف أنه في قلب نفائس معمارية ذات رونق وجمال، يرزحان الآن تحت ركام الغبار والأتربة والفوضى، ومحاصران بأبنية حديثة قبيحة أشبه بالصناديق المرصوصة. شهد ميدان العتبة على زحف أحمد عرابي وجنوده إلى ناحية قصر عابدين، الذي كان محيطه محرماً على المصريين، وبلغت ثورته مداها بتجوالهم وترجلهم في حديقة القصر. وفي مقهى البوسطة، “متاتيا” لاحقاً، على طرف الميدان، جلس جمال الدين الأفغاني وحوله قامات الفكر في نصف دائرة يتتلمذون على يديه ليلاً حتى مطلع الفجر.

يمكنني أن أرى محمد عبده وسعد زغلول ومحمود سامي البارودي وأن أتخيّل حركتهم اليومية المنتظمة داخلين إلى المقهى وخارجين منه في تحدٍّ للإشاعات التي أراد أعداؤهم أن ينالوا من مصداقيتهم الشعبية بها، فروّجوا أن الأفغاني وتلاميذه يتعاطون الحشيش والمسكّرات بعد منتصف الليل في المقهى، ثم ينتقل الخيال فيجد المقهى خالياً، والجمْعَ منفضّاً، بعدما اعتقلت الشرطة الشيخ الأفغاني وخادمه منه، واقتادتهما إلى السويس، حيث تم نفيهما إلى الهند بأمر الخديوي توفيق بن إسماعيل.

أتخيل عينيّ مثـبّــتّـــتــين أعلى قبة Tiring ككاميرا المراقبة التي ترصد حركة الميدان صباحاً ومساءً، ثم أجمع شرائط التسجيل كلها وما فيها من توثيقٍ لحركة الناس في الميدان عبر العقود الممتدة لأكثر من قرن من الزمان. أضع محتوى الشرائط جميعاً على جهاز المونتاج، وأقوم بتسريع الحركة بلا توقّف، لتمرّ الأسابيع والشهور سريعاً في ثوانٍ معدودة…

أرى البسطاء يتجمعون، بجلابيبهم الشعبية وأقدامهم الحافية، ليشاهدوا عروض فرقة رجال الإطفاء، كما أرى خطوط الترام تتلاقى، والركاب يبدّلون أماكنهم فيها لينتقلوا من شرق القاهرة القديمة وجنوبها إلى إمبابة غربي النيل، مــارّين من فوق جزيرة الزمالك النيلية عبر جسر أبو العلا قبل أن يُزال.

أرى في الميدان دورياتٍ من الجيش الإنجليزي والشرطة المصرية في الصباح، ثم يفترق الإنجليز والمصريون على طرفيْه في حياة الليل اللاهية، فينتشر جنود الاحتلال في دور البغاء في شارع “كلوت بك”، ويهرع المصريون إلى خمّارات شارع محمد علي ومراقصه. كما أرى زحاماً يملأ العتبة قادماً من “محطة مصر” بالتزامن مع موالد آل البيت والصالحين، تلك التي يقصدها القاصي والداني من أنحاء مصر فيزحفون فرادى وجماعات إلى باب الحديد، أو ميدان رمسيس، ومنه إلى ميدان العتبة، حيث يتجهون إلى جامع السيد الحسين أو السيدة زينب أو غيرهما.

وفي ناحية الموسكي، أرى الرهبان الفرنسيسكان يدخلون إلى الدير، وقليلاً ما يخرجون. وفي المساء، أرى السيارات الفارهة تنقل المعازيم إلى حفل زفاف تقام شعائره في المعبد اليهودي الكبير في شارع عدلي المتفرع من الميدان. ولا يمكن أن أغفل عن المساحة الخضراء الكبيرة في حديقة الأزبكية، التي يستنشق منها وسط المدينة هواءه النقي. وفي الليل، أرى سيارات النظافة ترش الماء لتترك الميدان لامعاً في الصباح، حيث يرتاده الموظفون وكبار التجار وأكثر الزبائن ثراءً.

أرى في ميدان العتبة من البشر ألواناً من الأوروبيين، النازحين من بلادهم بسبب الحروب العالمية، يسيرون جنباً إلى جنب مع الأفندية من الموظفين المصريين ذوي البشرة القمحية، وحولهم ينتشر النوبيون والسودانيون ذوو البشرة السمراء. يمكن لعيني أن تميّز بين الناس ووظائفهم من ملابسهم، وليس من لون بشرتهم، فالجميع ملتزم بكود الملبس. العمال في الحانات، والحراس في العمارات، والجنود، والطلاب، والباعة، والموظفون، لكلٍ هيئته وملبسه.

يأتي المساء فأرى ملابس السهرة الأنيقة تترجل من السيارات المكشوفة على باب الأوبرا القديمة. وفي ثوانٍ قليلة، أرى الحشود الغوغائية تزحف عبر الميدان متجهةً إلى حرق متاجر اليهود المصريين، أولئك الذين دفعوا ثمن الشحن الديني والوطني من جماعة “الإخوان المسلمين” وحزب “مصر الفتاة” من دون تفرقة بين الأيديولوجية الصهيونية وبين الديانة اليهودية، ومن دون تمييزٍ بين الاستعمار الاستيطاني في فلسطين وبين اليهود المصريين أحفاد موسى بن ميمون، طبيب صلاح الدين الأيوبي. وبعد لحظات، أرى حريق القاهرة يأتي من ناحية عابدين ليَلْــتَهِمَ الفنادق والشركات والمطاعم والمقاهي، كما أرى حشوداً غفيرة تهتف للزعيم جمال عبد الناصر ألّا يتنحى عن الحكم بعد هزيمة يونيو 1967، ثم حشوداً أضخم تنعاه وتشيّعه إلى مثواه الأخير.

تمر الثواني سريعاً، فأسمع الزغاريد وأرى الأواني تحمل شراب الاحتفال بانتصار أكتوبر عام 1973 بعد إفطار اليوم العاشر من رمضان، ومن ناحية شارع نجيب الريحاني في طرف الميدان أسمع أجراس الكنيسة المرقصية تدق ابتهاجاً. كما أرى المحامي اليهودي المصري شحاتة هارون يمر بميدان العتبة في طريقه إلى شارع عدلي ليصرّ على دخول المعبد أثناء زيارة إيجال يادين، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي، ويعلن في حضور الرئيس السادات رفضه لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979. أتحول بنظري إلى الناحية المقابلة فأجد الفوضى تعج في شارع عبد العزيز بآلاف الأجهزة الكهربية إيذاناً بدخول الدولة عهد الانفتاح الاقتصادي الفاسد، وغضها الطرف عن المخالفات التجارية واعتداء التجار على حق الناس في الرصيف والشارع.

أُوقِفُ شريط العرض التخيّلي، وأنزل إلى ميدان العتبة مترجّلاً أجاهد كي أرى موقع الكاميرا المفترضة أعلى قبة “تايرينج” الباهتة تحت أكوام من الغبار، وبالكاد أستطيع رؤياها من بين حوامل فرش الباعة الجائلين. لا يزال في إمكاني أن أنتقي موقعاً من الميدان كي أنظر وأتأمل، لكنّ دخول الميدان بالسيارة مخاطرةٌ بتضييع أوقات مديدة يمكن استثمارها في التجوال. وفي جولتي، يخبرني الميدان بحركته الدؤوب كثيراً مما عاصرتُه شخصياً في عهد حسني مبارك وسنوات الثورة الفاشلة والانقلاب الناجح.

لا يزال ميدان العتبة عنواناً لمصر الحائرة بين الأزهر وبين القاهرة الإسماعيلية / الأوروبية، وشاهداً على التاريخ الحديث كله، سياسياً واقتصادياً وعمرانياً وريفياً وحضرياً. تطوف بين أرجائه الآن لترى تغيير أسماء الشوارع كي تتوافق مع تغيير نظام الحكم من أسرة محمد علي الملكية إلى جمهورية الضباط العسكرية، فشارع “عابدين” صار شارع “الجمهورية”، وشارع “محمد علي” أصبح شارع “القلعة”. ولا تخطيء عيناك رؤية زحف الجموع المهمشة من الأطراف الريفية إلى وسط المدينة راكبين مترو الأنفاق، الذي حل محل الترام السطحي القديم، منتزعين حقهم في المدينة وحقهم في العمل بفرض الأمر الواقع على الرصيف من دون نضالٍ مؤسسيّ يطالبون به السلطة بحقوقهم.

تقرأ في صورة ميدان العتبة الثابتة والمتحركة التعايش مع الفساد وبالفساد في المشروعات الحكومية في إدارة المجال العام، فتجد القبح متمثلاً في كوبري الأزهر الجاثم فوق شارع جوهر القائد، والعشوائية متجسدة في نفق الأزهر الآيل للانهيار، والفوضى غير الخلاقة في مداخل الموسكي وشارعيْ “محمد علي” و”عبد العزيز”. يمكنك الآن التجوال لترى بعينيك وتسمع بأذنيك سرديات المهمشين والأقليات، التي لم تروها السلطة، ولم يلتفت إليها الحراك الثوري المختزَل في ميدان التحرير، فكان من أهم أسباب فشله اجتماعياً واقتصادياً.

في ممر ضيق يربط شارعيْ عدلي وعبد الخالق ثروت من ناحية ميدان العتبة، وقبيل أن تبلغ إحدى مدخليْ مطعم “جروبّــي” الشهير، ستكون سعيد الحظ بزيارة “مطعم السودان” ذي الطعام الشهي منخفض الأسعار في حارة “الصوّاف”. وعلى موائده، أو على كراسي المقهى المجاور، قد تتعرف على أحوال المهاجرين واللاجئين السودانيين، وقد ترى رجلاً بعمامة خضراء وملبس مميز، ثم تعرف أنه مصري الجنسية من قبيلة البشارية أو العبابدة في “شلاتين”، أو “حلايب” المتنازع عليها، وأنه أتى إلى القاهرة لإنهاء بعض المعاملات من أجل استخراج أوراق الجنسية السودانية. وسيزول استغرابك حين تعرف أنه سينعم في الخرطوم بمعاملة كريمة كمواطن من الدرجة الأولى، لا كما يُعامل في مصر، سواءً في عاصمتها أم في أقصى أطرافها. وإذا سرتَ قليلاً في شارع عدلي حتى تبلغ المعبد اليهودي، فإنك سترى التحصينات الأمنية المنيعة التي تحجب المعبد عن المارة، وبالتأكيد ستفاجأ إذا عرفت أن التفتيش المهين والإجراءات الأمنية المشددة يجري تطبيقها على ماجدة شحاتة هارون، رئيسة الطائفة اليهودية المصرية، أو بالأحرى رئيسة ما تبقى منها، كما تطبق على عضوات الطائفة كافة، على الرغم من أنهن لسن إلا مجموعة من العجائز اللائي لا يجتمعن إلا في الجنائز.

في ميدان العتبة، تمشيتُ جنباً إلى جنب مع أصدقائي من سيناء، الذين اختاروا التخلي عن زِيـــّـهم التقليدي أثناء زيارتهم للقاهرة تجنباً للتمييز السلبي والإساءات. وهم كما يتفادون سوء المعاملة بسبب كونهم من سيناء، سواءً كانوا بدواً من قبائل الصحراء أم حَضَراً من العائلات العرايشية، فإنهم أيضاً حريصون على تفادي سوء الفهم الذي قد يؤدّي للاستغلال والاحتيال إذا ظن الباعة ومقدمو الخدمات أنهم سياحٌ خليجيون، وهو ما حدث بالفعل مع صديقي الأمازيغي من واحة سيوة المصرية، الذي لم يتخلّ عن ملبسه الشعبي فظنه الباعة سائحاً من أثرياء ليبيا.

وفي نواحي الميدان جميعاً، يمكنك أن تتعرف على أحوال ذوي الإعاقة في مصر، الذين تبلغ تقديراتهم 15% من السكان، والذين التزمت مصر رسمياً بكفالة حقوقهم المتعارف عليها دولياً. لكن الواقع يشهد بالعكس تماماً، فلا يوجد رصيف واحد مهيأ لاستقبال ذوي الإعاقة الحركية، ولا إشارات مرورية مزودة بخدمة صوتية تيسر على ذوي الإعاقات البصرية. أما حقوقهم في المواصلات العامة، وعلى رأسها مترو الأنفاق، الذي يعد الوسيلة الرئيسية في وسط المدينة، فليس لهم فيه إلا بضعة كراسي مخصصة في كل عربة، لا يلتزم الركاب بتركها لهم ولا تتدخل شرطة المترو لحفظ حقهم فيها. أما النساء فهنّ في أمان نسبيٍ مقارنة بميدان التحرير، لكنهن لا يزلْن في قلب عاصمة التحرش البصري واللفظي.

استُبدل مبنى الأوبرا القديم بعد حريقه وتهالكه بجراج للسيارات متعدد الطوابق، واختفى خَضَار حديقة الأزبكية تقريباً، وزحف الباعة الجائلون من الرصفان إلى نهر الطريق فأخفوا معالم الميدان وشوارعه المحيطة وأعاقوا حركة السير فيه. وحين تدخلت القوة التنفيذية المشتركة من الجيش والشرطة مؤخراً لإخلاء وسط البلد من الباعة الجائلين، بمدرعاتها وتشكيلاتها من القوات الخاصة وأسلحتها الحربية، فإنها لم تحل مشكلتهم ولم توفر بديلاً عادلاً، كما أنها فشلت في إعادة شعور الناس بملكية ميدانهم. اعتاد الناس أن يؤخذ منهم الرصيف، والآن تم إخلاء الرصيف، لكنهم لا يزالون يسيرون أسفله مزاحمين السيارات وفوضى الدراجات البخارية. لم تستعد الجموع ثقتها في السلطة، ولم تستشعر أحقيتها في رصيف غير مهيأ لسليمِهم أو لذي الإعاقة منهم.

رحل الحكام لكن آثار حكمهم باقية في ميدان العتبة. فتمثال إبراهيم باشا بن محمد علي، ووالد الخديوي إسماعيل، لا يزال ممتطياً صهوة جواده مشيراً ناحية دار القضاء العالي في شارع “26 يوليو”، أو شاراع “الملك فؤاد” سابقاً. أما جامع “العظام”، فلا يزال يحوي رفات الأولياء الذين أزال الخديوي إسماعيل مساجدهم كي يبني ميدان العتبة. والنوبيون المنتشرون في أطراف الميدان، ناحية وسط المدينة وحي “عابدين”، لا يزالون يحكون بلسانهم “الفادجيكي” و”الماتّوكي” قصة تهجيرهم من بلادهم القديمة لبناء السد العالي، وبقائهم في القاهرة، وبقاء عائلاتهم في هضبة كوم امبو شمالي أسوان، لعدم وفاء الحكومة الناصرية ومن تلاها بوعود عودتهم بعد استقرار منسوب مياه النيل وراء السد.

لا تزال حركة بيع وشراء الأجهزة الكهربية في شارع “عبد العزيز” شاهدةً على انفتاح أنور السادات الاقتصادي العشوائي الفاسد، كما تخبرنا شاشات التلفاز عالية الجودة المعروضة على رصفانه عن دور هذا الشارع في تغيير نمط حياة الفلاحين في الريف بالتزامن مع انتشار استهلاك التلفاز مع طفرة السيولة التي عاد بها العاملون في بلدان الخليج قبل حرب الكويت. أما الباعة الجائلون وحركة السيارات الفوضوية فوق كوبري قبيح وعبر نفق مهدد بالانهيار فهي العلامة الأبرز على أثر سياسات حسني مبارك في حياة الشعب المصري.

تكفّلت حركة الناس في ميدان العتبة بترجمة موقفه من مستجدات ما بعد يناير 2011، ففي الحقيقة، لم يكترث الناس في الميدان بحظر التجوال الأول، الذي سبق خلع مبارك، في مقابل التزام الميدان وحركة البيع والشراء فيه بالحظر الذي فرضه الجيش ابتداءً من مساء يوم فض اعتصامي رابعة العدوية وميدان النهضة في أغسطس 2013. هو ميدانٌ لم تقترب منه الثورة، فلم يتفاعل معها، لكنه تجاوب مع الدولة القديمة حين عادت في 3 يوليو 2013 على أمل أن تستمر التفاهمات والمساومات بينهما، وأن يبقى الحال كما كان عليه قبل الثورة. لكن الحكاية لم تنتهِ بعد، فطالما تحرك الناس في الميدان، ستبقى في الرواية صفحات لم تُـملأ، وسطور لم تكتب..

هذا المقال حصل على جائزة “هاني دوريش” الخاصة بكتابة المقال الحر، وهي جائزة تمنح سنوياً من قبل مؤسسة أم أي سي تي الإعلامية الألمانية. للمزيد من التفاصيل اضغط هنا