الباحث اللبناني الماركسي جلبير الأشقر صاحب “الشعب يريد” (2013) و”الشرق الملتهب” (2004) و”صدام الهمجيات” (2002) يؤكد أننا أمام مفترق طرق تاريخي بالغ الخطورة في سيرورة ثورية طويلة الأمد، مما ينبغي أن يدفعنا إلى التصميم على بناء قيادات وصياغة استراتيجيات ملائمة للتغيير. أما تفادي الكارثة المحدقة، فعن طريق قوى منظمة تنتهج استراتيجية تسعى وراء تشييد قطب ثالث ثوري على مسافة واحدة من النظام القديم والرجعية الدينية.

الباحث اللبناني الماركسي جلبير الأشقر صاحب “الشعب يريد” (2013) و”الشرق الملتهب” (2004) و”صدام الهمجيات” (2002) يؤكد أننا أمام مفترق طرق تاريخي بالغ الخطورة في سيرورة ثورية طويلة الأمد، مما ينبغي أن يدفعنا إلى التصميم على بناء قيادات وصياغة استراتيجيات ملائمة للتغيير. أما تفادي الكارثة المحدقة، فعن طريق قوى منظمة تنتهج استراتيجية تسعى وراء تشييد قطب ثالث ثوري على مسافة واحدة من النظام القديم والرجعية الدينية.

الاخفاقات والهزائم المتتالية في البلدان التي شهدت انتفاضات منذ ما يقرب من الأربع سنوات ألا تجعلك تعيد النظر في مفهوم “السيرورة الثورية طويلة الأمد” الذي شرحته في كتابك “الشعب يريد” ؟
ثمة إخفاقات وانتكاسات بالتأكيد، لكن الحديث عن هزائم، بمعنى القضاء النهائي على السيرورة، يبدو لي غير دقيق. لقد أكدت منذ عام 2011 على أن ما بدأ آنذاك إنما هو سيرورة ثورية طويلة الأمد ستستغرق سنوات عديدة، بل عقود، ومراحل عدة. وتشهد السيرورة الآن في بعض البلدان مرحلة جزر بعد المد الأول، مع هجوم شامل للثورة المضادة على أنواعها.

وهذا يحيلنا إلى مسألة القيادة. فإن الموجة الثورية الكبرى التي انطلقت شرارتها من وسط تونس في ديسمبر 2010 ولم يبقَ بلد عربي واحد إلا وتأثر بها، قد نتجت عن ظروف موضوعية – اجتماعية واقتصادية وسياسية – انفجارية للغاية. لكنّ مسار الثورات يعتمد على تفاعل الظروف الموضوعية مع حالة وسلوك القوى الذاتية المرشحة لقيادة التحول الثوري. وهنا مكمن الضعف الرئيسي : نواجه ظروفا ثورية، لكن بغياب قوى ثورية منظمة تنتهج استراتيجية ثورية قادرة على دفع التغيير الثوري إلى الأمام. وينطبق ذلك على كافة بلدان المنطقة، فإذا نظرنا إلى تونس أو مصر أو سوريا، نجد أن القوى التقدمية الموجودة لم تقم بالدور المطلوب في السعي لتشكيل قطب ثوري مستقل عما أسميه قطبي الثورة المضادة.

وما هما تحديدا قطبا الثورة المضادة؟
هناك ثورة مضادة أولى متمثلة بالنظام القديم وثورة مضادة ثانية متمثلة بقوى المعارضة الرجعية للنظام القديم والتي تتاجر بالإيديولوجيا الدينية. أما مشكلة القيادات التقدمية الموجودة في بلداننا فهي أنها طمست هويتها التقدمية في تحالفها مع قطب من قطبي الثورة المضادة ضد الآخر، أو في انتقالها من التحالف مع قطب إلى التحالف مع الآخر، بدل أن تشقّ طريقا ثالثا على مسافة واحدة من القطبين.

هل ثمة أمل ما في تجاوز العقبات واستعادة المسار الثوري من جديد؟
الأمل مبني على ادراكنا أن السيرورة الثورية طويلة الأمد حقا، وقد تستغرق عشرات السنين. فحين نتكلم عن ثورة فرنسية أو انجليزية أو صينية، نتحدث عن سيرورات ثورية امتدت عقودا من الزمن بدءا من الانفجار الأول وحتى وصول المجتمعات المذكورة إلى استقرار جديد مديد. والسيرورة الثورية لدينا محكومة بالاستمرار ما دامت الظروف الموضوعية تولّد الأزمة والانفجار بغياب حل للمشكلة العميقة، وهي انسداد آفاق التنمية الاقتصادية وما تولده من مستويات هائلة من البطالة في ظل النظام الاجتماعي المرتبط بالدولة الريعية والميراثية.
هذا ولا تسلك السيرورات الثورية خطا تصاعديا مستقيما، بل مسارا متعرجا يمر بمراحل مدّ وجزر في جدلية ثورة وثورة مضادة. ومن يغفل ذلك يقع في انطباعات قصيرة النظر، كنشوة “الربيع العربي” في 2011 المبنية على التوهم بأن انتفاضات “سلمية” يمكنها أن تفضي بسرعة إلى إشاعة الديمقراطية وتحسين الأوضاع الاجتماعية، وعلى تناسي خطورة العقبات التي تعاني منها مجتمعاتنا والتي سيكون ثمن إزالتها مرتفعا لا محال. ونحن مقبلون بالتأكيد على انفجارات ثورية أخرى في بلداننا في المدى المتوسط، إن لم يكن القصير.

هل يمكن إذن تجاوز تلك العقبات مستقبلا؟
في بعض بلدان منطقتنا قوى تقدمية لها من الوزن السياسي ما يكفي موضوعيا لأن تطمح إلى قيادة العملية الثورية. وهي حال تونس حيث تمتلك الحركة العمالية القدرة الموضوعية على قيادة المجتمع. أما في مصر فلا يوجد طرف واحد منظم بمثل تلك القوة، غير أن هناك طاقة ثورية عظيمة، شبابية على الأخص، يمكن استقطابها من خلال ائتلاف القوى التقدمية الثورية. هذه الطاقة ظهرت في التصويت لحمدين صباحي في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية سنة 2012 : خمسة ملايين رفضوا النظام القديم المتمثل بشفيق والمنافسة الرجعية له المتمثلة بمرسي.

غير أن المشكلة هي غياب الاستراتيجية المناسبة. ففي مصر، سلك حمدين للأسف مسارا سياسيا متعرجا بل متقلبا، انتقل من التحالف مع الاخوان في الانتخابات البرلمانية سنة 2011 إلى التحالف مع قوى النظام القديم في 30 يونيو / 3 يوليو 2013 مع كيل المديح للمشير السيسي. وقد دفع حمدين ثمن ذلك غاليا، إذ خيّب آمال الحركة الشبابية وكل المتحمسين للتغيير الثوري التقدمي في قيام قطب ثالث، وخسر القسم الأعظم من المصداقية التي حققها في ذروة شعبيته سنة 2012 عندما وقف على مسافة واحدة من شفيق ومرسي.

وبغياب الاستراتيجية المناسبة، يهددنا انحطاط الأوضاع في كل مكان. فعندما تغيب قيادات قادرة على دفع التغيير الثوري إلى الأمام، يتضاعف خطر الردة الرجعية الشرسة. وطالما بقيت أوضاعنا سجينة الاستقطاب الثنائي بين النظام القديم والقوى الرجعية المتاجرة بالدين، تفاقم احتمال الانزلاق نحو ما أسميته “صدام الهمجيات” في كتاب سابق.
بعيدا عن التفاؤل والتشاؤم المطلقين، علينا أن نعي أننا أمام مفترق طرق تاريخي بالغ الخطورة في سيرورة ثورية طويلة الأمد، مما ينبغي أن يدفعنا إلى التصميم على بناء قيادات وصياغة استراتيجيات ملائمة للتغيير، إذا أردنا تدارك الكارثة المحدقة.

هل غياب القيادة التقدمية هو ما أهّل داعش والحركات الجهادية لتطرح نفسها كقيادة بديلة في سوريا؟
تمثل الحالة السورية تعبيرا صارخا عن المعضلة التاريخية التي تواجهنا. ففي الأشهر الأولى من 2011، كانت الانتفاضة السورية تنم عن الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية نفسها التي كانت سبب الانفجار في كافة بلدان المنطقة، وكانت قيادة الانتفاضة بيد الشباب بصورة أساسية، يستخدمون وسائط التواصل الاجتماعي لتنسيق الانتفاضة. وقد قاموا بتشكيل “لجان التنسيق المحلية” على أساس برنامج ديمقراطي لا طائفي يعبر بوضوح عن الأماني التقدمية العظيمة لانتفاضة 2011. المشكلة في سوريا كمنت، أكثر حتى مما في مصر، في غياب طليعة منظمة تقدمية قادرة على قيادة المسار الثوري على المدى الطويل. فلم تسعَ لجان التنسيق لتشكيل قيادة منظمة على الأرض، فضلا عن الفضاء الالكتروني. وما حدث في غياب ذلك أن بعض القوى نصبت نفسها قيادة خارج البلاد وهي تحالف هجين ضمّ بعض التقدميين تحت هيمنة الاخوان. وارتكبت لجان التنسيق خطأ كبيرا لما اعترفت بتلك القيادة المرتهنة بتركيا وقطر والولايات المتحدة الأمريكية. وترافق ذلك باغفال تام لاستحالة تكرار سيناريو 25 يناير-11 فبراير في سوريا، أي استحالة اسقاط بشار الأسد على طريقة اسقاط حسني مبارك. ففي “جملوكية” كسوريا حيث تقع القوى المسلحة تحت سيطرة حرس العائلة المالكة الخاص، لا مجال لإسقاط رأس النظام بدون اسقاط النظام برمته بما فيه “الدولة العميقة”. وهذا يعني أنه لم يكن هناك مجال لانتصار الانتفاضة سلميا، غير أن تحولها إلى صدام مسلح تم بشكل تدريجي وغير منظم، بمبادرة ضباط وجنود انسلخوا عن الجيش رفضا لقمع الشعب.
والحال أن غياب قيادة تقدمية وارتماء التقدميين في أحضان الاخوان وقطر فسح المجال أمام قوى أكثر جذرية في عدائها للنظام لتحتل الصدارة، وإن كان عداء هذه القوى من وحي رجعي ديني طائفي. وفي الوقت نفسه قام النظام الأسدي بكل ما يستطيع ليعزز القوى الدينية على حساب الديمقراطيين بحيث يتمكن من اتهام المعارضة بأجمعها بالتطرف الديني وشيطنتها ودرء خطر دعم البلدان الغربية لها. هكذا دخلت المعارضة السورية في دوامة انحطاطية، من خلال المزايدة في التطرف الديني حتى قام تنظيم “داعش”.

إن صعود داعش وامتداده العسكري قد تما بسرعة فائقة، مما يشير إلى احتمال اندحاره بسرعة مماثلة. ولا يزال هناك أمل في المدى المتوسط أو البعيد في أن يظهر ائتلاف قادر على تمثيل الطاقة الثورية التقدمية التي بدت عظيمة سنة 2011 ويمكن استعادتها في المستقبل بعد أن تنتهي الحرب الدائرة في سوريا. بيد أن ذلك سيعتمد على قدرة الذين يطمحون في انجاز التغيير الثوري على تشكيل قطب بديل على مسافة واحدة من النظام الاجرامي والعصابات التكفيرية.

ألا ترى أن هناك نوع من الاستبسال لدى الأنظمة الحالية في الدفاع عن النظام القديم وعدم تقديم أي شيء ولو طفيف إرضاء للجماهير الغفيرة؟
المثال السوري بالغ الوضوح: هذا النظام، على غرار سائر الانظمة العربية، لن يترك الساحة طواعية، وكل من يتصور ذلك واهم. هذه الانظمة قائمة على استغلال طبقة حكامة لموارد الشعب بدرجة فاحشة يلزمها الاستبداد، وسيدافع الحكام عن امتيازاتهم حتى آخر جندي لديهم. إن محور المسألة الاستراتيجية يكمن إذن في أن هذه الأنظمة، ما دامت تسيطر على الأجهزة المسلحة، ستسعى للحفاظ على مصالحها بأي ثمن، سواء كان ذلك بالحرب الأهلية كما في سوريا، أو عن طريق تشديد القبضة الدكتاتورية كما في مصر.
وهذا يعني أن التغيير الثوري الجذري لا يمكن تحقيقه بدون شل القدرات القمعية لدى النظام الاجتماعي-السياسي القائم. وهذا يتم إما بالانتصار عليه في حرب أهلية مديدة كما حصل في ليبيا، وقد تكون لذلك كلفة باهظة كما نرى في سوريا، أو بكسب القوى الثورية للقسم الأهم من القوى المسلحة إلى جانب الثورة. فالجيوش تتشكل من أقلية من النخب المخلصة اخلاصا كاملا للنظام وأغلبية واسعة من أبناء الشعب. ومصيبة الثوريين السوريين أنهم عجزوا عن شق القوى المسلحة على نطاق أوسع، بل لم يحاولوا شقها طوال المرحلة الأولى من الانتفاضة.

وهذا يعيدنا إلى أن شرطا أساسيا للتغيير العميق يتمثل بالقيادة. فلا يمكن التأثير في الجنود والأجهزة المسلحة بغياب قيادة سياسية قادرة على “كسب قلوب وعقول” أبناء الشعب في القوات المسلحة واقناعهم بتأييد الثورة الشعبية.
العقدة الرئيسية في الانتفاضة العربية هي انعدام مثل هذه القيادات، أو انعدام الرؤية الاستراتيجية لديها عندما تكون موجودة. المطلوب هو قوى منظمة تنتهج استراتيجية تسعى وراء تشييد قطب ثالث ثوري على مسافة واحدة من النظام القديم والرجعية الدينية، قطبي الثورة المضادة.