التغير في السياسة الخارجية القطرية ربما عزز تحليلات السياسي اللبناني غسان سلامة الذي تنبأ في إحدى محاضراته بمزيد من “أقلمة السياسة”، أي تراجع نفوذ الدول الكبرى مقابل تصاعد نفوذ الدول الإقليمية.

ففي الوقت الذي تحظى فيه قطر بدعم أمريكي كبير جعلها ذراعاً سياسياً ومنفذاً لوجستياً للبنتاغون في المنطقة، الأمر الذي تبوأت من خلاله موقعاً استراتيجياً في السياسات الخارجية، مدعومة بالفائض من مقدراتها المالية الضخمة، كان التقدم المتسارع في السياسة والنفوذ القطري الذي هو صورة للنفوذ الأمريكي موعوداً باصطدام حتميّ مع النفوذ السّعودي.

التغير في السياسة الخارجية القطرية ربما عزز تحليلات السياسي اللبناني غسان سلامة الذي تنبأ في إحدى محاضراته بمزيد من “أقلمة السياسة”، أي تراجع نفوذ الدول الكبرى مقابل تصاعد نفوذ الدول الإقليمية.

ففي الوقت الذي تحظى فيه قطر بدعم أمريكي كبير جعلها ذراعاً سياسياً ومنفذاً لوجستياً للبنتاغون في المنطقة، الأمر الذي تبوأت من خلاله موقعاً استراتيجياً في السياسات الخارجية، مدعومة بالفائض من مقدراتها المالية الضخمة، كان التقدم المتسارع في السياسة والنفوذ القطري الذي هو صورة للنفوذ الأمريكي موعوداً باصطدام حتميّ مع النفوذ السّعودي.

السعودية التي تتلمذت سياسياً واستخباراتياً على المدرسة الإنجليزية ذهبت ومنذ عقود في مسارات سياسية شبيهة بمسارات قطر اليوم، غير أن سلوكها لتلك المسارات كان بطريقة مختلفة تماماً، إذ أسست علاقاتها الدولية قبل ما يناهز نصف قرن من استقلال قطر والإمارات وعمان وغيرهما، على تصدير نفسها كشريك للقوى الكبرى.

شراكة في القيم المادية المتمثّلة في تعاملات النفط، وفي هذا الجانب كان لأمريكا الحظ الأوفر منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وشراكة في قيم الاصالة والطبقية وهي القيمة التي لعب عليها الأمراء الجدد مع بريطانيا، من خلال تكوين صورة ذهنية مبنية عَلى صداقات طبقية بين العائلتين الملكيتين، جسدتها مباريات البولو وسباقات الخيل ورحلات الصيد المشتركة، الأمر الذى لمح لنوع من الندية والتشابه في العراقة بين المملكة والمملكات الغربية، وهي صورة غير واقعية تعززت في ذهنيّة المجتمع الغربي، وانعكست أكثر من مرة على العلاقة السياسية بين المملكتين، فكان آخر تجلياتها في ضغوط الأمير تشارلز على كاميرون للتحقيق في أنشطة جماعة الإخوان المسلمين في بريطانيا، بعد زيارة له للسعودية شارك فيها أمراءها رقصة “العرضة” في افتتاح مهرجان الجنادرية، مرتدياً الزِّي السعودي وملوحاً بالسيف.

وهذا الموقف يقودنا إلى القيّمة الثالثة وهي قيمة التأثير الدولي والنفوذ الإقليمي، فالسعودية لم تكن تابعة كلياً للقوى الكبرى، رغم تقديمها لبعض التنازلات والخدمات لتلك القوى في إطار التوازنات السياسية والعسكرية، لكنها استطاعت أن تنشئ أتباعاً لها من دول المنطقة، وهذه القيمة خسرتها مصر في الوقت الذي نمّتها السعودية.

حجم التأثير السعودي مكّن المملكة من اللعب مع كل الأطراف الدولية كبريطانيا وأمريكا، وفِي البنك الاحتياطي لسياستها الخارجية روسيا التي تكن لها السعودية تقديراً تاريخياً، كونها أول دولة تعترف بها مُنْذ عام 1926، إضافة إلى العلاقات الأوربية التي اتسمت أيضاً بموازنة المواقف خاصة مع فرنسا التي توترت علاقاتها مَع السعودية حتى عززها شارل ديغول في نهاية الستينات، وألمانيا التي استمرت في علاقاتها المزدهرة مَعَ المملكة منذ توقيع البلدين معاهدة الصداقة عَام 1929، ووُظّفت كل هذه العلاقات للحفاظ على التأثير في المنطقة العربية، تأثيراً ناعماً على المدى الطويل وخشناً أحياناً، تمتد مساحته من لبنان إلى اليمن ومن مصر إلى المغرب مروراً بليبيا.

هذه الأدوار من الصعب أن تلعبها دول فتية، فقد يكون للدول الصغرى نشاط قوي في السّياسة الخارجية، لكنّها من الصعب أن تضطلع بدور إقليمي مستدام. فَلَو ركزنا على الدول الإقليمية مثل تركيا والسعودية وإيران وفي الماضي مصر، سنجدها تشترك في عدد من الركائز، فهِي في أغلبها دول تمتد على رقعة جغرافية كبيرة وتعدادها السكاني كبير قياساً بالدول المجاورة لها، وهي على الأغلب نالت استقلالها وانضمت إلى المجتمع الدولي في مرحلة مبكرة، ولديها خبرة وتراكم كبير في السياسة الخارجية سلماً أو حرباً.

ومن هنا من المهم تصحيح رؤية البعض بأن هناك صراع إماراتي-قطري في المنطقة ولاسيما ليبيا، لأن الحقيقة هي وجود صراع أمريكي-سعودي، صراع دولة كبرى مَعَ دولة إقليمية، ظهرت أبرز ملامحه على المشهد المصري، وأبرز تصفية حساب له تمت في كواليس مجلس التعاون الخليجي، والتغيير في السياسة الخارجية القطرية يعطي نتائج أولية بأن القوة الإقليمية كسبت المعركة أمام القوة الدولية.

بالإضافة إلى أن أمريكا اُنهكت من لعب الدور الدولي الذي أدخلها في دوامة استنزفت الموازنة وهزت صورة شرطي العالم، فتنازلت عن بعض نفوذها العالمي وعززت دورها الإقليمي في الأمريكيتَين، وكان من أهم نتائج الدور الجديد التقارب الأمريكي الكوبي، الذي سيقضي علَى آخر ملامح الشيوعية في أمريكا اللاتينية.

لقد كانت بَعْض دول الخليج تحسد قطر على مكانتها في مجلس التعاون، غير أنها اليوم لا تجد لقطر ما تُحسد عليه، وبالتالي أتوقع تراجع النزعة السياسية مقابل النزعة التنموية في قطر، هذا إذا سلمنا جدلاً بأن أمريكا عبر قطر لم تتخذ من التيار القومي بديلاً للتيار الإسلامي، فقد كان الفكر القومي طيلة الفترة الماضية رصيد الظل في الخطاب الإعلامي القطري الذي كان متنه دعم تيارات الإسلام السياسي، كما أن صعود نجم عزمي بشارة مع دعم مؤسساتي قطري في السياسة والإعلام، وحصوله على دور استشاري متقدم في الديوان الأميري وهو القومي العربي، على حساب هلال يوسف القرضاوي المحرك الوجداني السابق للمهمة القطرية، يثير تساؤلات عدة، فهل تعيد قطر تجربتها الدرامية ليكون حليفها بالأمس ضحيتها في الغد؟ إذا صح ذلك، من السهل التنبؤ بالحلفاء الجدد في المنطقة العربية، لكن السؤال من هو الحليف القومي المأمول في ليبيا؟