1

1

اختفت السلالم الخلفية. لم يلاحقها في الاختفاء حيوانات البيوت. تنتشر صحبة الكلاب والقطط حسب نبضات العقل الجمعي الخائف من غياب الامن او الباحث عن طاقة ايجابية او صداقة مع الطبيعة.الحيوان اصبح مصدر قوة و تميز كما كان السلم الخلفي تمييز داخل هيراركية طبقية مستوحاة من مجتمعات هي التي هندست المدينة لتكون اوربية او متميزة عن المدينة الفاطمية ذات الهندسية الدائرية التي لا تتعرف فيها علي موقعك الطبقي بهذا الوضوح. لكنك يا من تري القاهرة عبر زجاج منتظم لن ترى إيقاع الاختفاء والظهور. سترى أنها مدينة مجنونة. أو سرايا مفتوحة لفاقدي عقولهم. وهنا يمكنك تقسيمهم إلى درجات حسب تعاليم الانثربولوجيا المضمرة في أدبك المفرط. هل تعرف ماذا يعني اختفاء السلالم الخلفية؟ أو أن بعضها مازال مستعملا من قبل سكان السطوح التي أصبحت طبقة معلقة علي طبقات القاهرة  بعد هجرات اضطرارية للملاك. عمارات لم يعد يسكنها “ شعب واحد” يسير علي ماكيت الطبقات التقليدية. الشعب الساكن في الاعالي اختار السلم الخلفي طريقة في الاتصال او الانفصال. لكن “الهندسة الصارمة “اختفت تحت غبار التحولات التي لم تقف عند حدود احتلال الفراغات العلوية، ولكنها امتدت لتحيل الشوارع نفسها الي فراغات تنتظر الالتهام. والعضعضة.الدولة تركت المدينة لحروب غريزة البقاء والبحث عن “ انا “ تائهة في الجغرافيا الضيقة للعشوائيات أو مناطقها التحضيرية إلى ملعب تتبادل فيه الطبقات مواقعها في حرب يومية.

أنت عاشق مؤجل. أسير أنظمة المدن. وتصدمك وحشية القاهرة. لهذا لن تعرف سر الحنان المفرط الذي شهدته العتبات المختفية اليوم…بحكاياتها.والاشواق الطائرة عابرة الطبقات بين اسياد و خدم.او اسرار خلف الستائر البرجوازية المطرزة بفنون “العقادين”.

  لن تدرك هندسة ضائعة في مدينة تتراكم الأزمنة في بنيتها متوازية أو متراكمة أو لعلها تسيل على الأطراف وتترك المنتصف خشنا لصراعات يومية.

السنتمنتال المنتظر لمدينة قديمة سيضيع منك تماما مع أول إطلالة. ستعتبر نفسك في الجحيم. وبما أنها الزيارة الأولى لن تفهم كيف ننصهر ونروض ما يسمي في أعراف المدن جحيما. نروض المدينة وتروضنا. هذه حكمتنا التي لا تساوى طرق التواصل التي اخترعت بعد تحول السلالم الخلفية إلى زائدة في البيوت، فالهندسة ابنة وفية لسكانها الاصليين. وعندما مرت على المدنية مفرمة الطبقات تشارك الجميع في حياة واحدة. شراكة لاتنقصها نزعة طبقية. لكن كل طبقة لا تكتمل إلا باشتهاء عالم الطبقات الأخرى. شهوة فانتازية لايمكن فهمها ببروتوكول علمي ولا علم عمران المدن. لا أعرف طريق “ حسن” الآن…لأقدمه لك نموذجا لكائنات خارجة من المفرمة بفانتازيات لا ترضي الباحثين عن مقتنيات بشرية. ولم اعرف اذا فعلت به تحولات مابعد ٢٥ يناير ؟

هل تدرك كم طبقة لابد أن تحفر أيها العاشق المؤجل لكي لا تختصر الحكايات في دهشتها السطحية؟

هل تعرف ماذا يعني تجول عاملات المنزل علي السلم الرئيسي لتدخل بيوت اصحابها يهبون حياتهم للهاث وراء “علامات التميز . . ”؟

هل تعرف كيف تتحول الشوارع إلى غابة وانت فيها فريسة محتملة وليس مامك الا ان تنقذ نفسك ولو دمرت المدينة؟

2

لو كنت معنا في تلك الليلةمن ليالي احدس سنوات ماقبل ثورة يناير لفهمت أيها العاشق المؤجل كثيرا عن القاهرة وحسن يحكى لنا  قصصا و مغامرات. و كلما كان يلحظ بفطرته أننا ننصت له شعر بمتعة أوصلته فى نهاية السهرة إلى الإحساس بأنه فيلسوف وألقى علينا بحكمته كأنها فواصل بين كل حكاية وأخرى. إنه عشريني يعرف مصلحته تماما يتحرك تجاهها بغريزة وحش متوسط فى غابة يعرف قوانينها. أدمن الشارع والتقاط كل مايحتاجه بمنطق البحث عن فريسة.  شعاراته : ” . . . يلعن ابو الدنيا . . . ” ( قالها بتعبيرات مكشوفة هذه صيغتها المهذبة). . و ” انبسط فى اللحظة دى. . لان انت جيت فى لحظة و ها تموت فى لحظة . . المهم عيش اللحظة و لا يهم أى شىء اخر . . ” . . و” المهم اقفش الانبساط . . . واللى يقف قدامى ممكن افرمه . . ” .

المدهش أننا لم نستغرب من فلسفته. ربما لأننا كنا نتوقع طريقة التفكير. لكن هناك من كان يشعر بالراحة . . وكلما قال “حسن ” شعاراته بنبرة عنيفة استعراضية . . تنفس البعض براحة و كأنه ينوب عنه . . ومع بعض الاندماج من طول الوقت. . أصبح حسن يقول . . و خلفه تأييد من أشخاص آخرين على مسافة كبيرة من عالمه و ثقافته وكانت ذاهبة للتفرج على “شطار” الشوارع. كأن “حسن” تحول إلى قائد مظاهرة للمجاريح الصامتين. وهذا ماسيقوله سينتمنتالي من المنتظرين عند حواف الطبقات أو انثربولوجي خائب . . لن يفهم تضاعيف التاريخ الشخصي لحسن. . ولا عائلته المقيمة علي المشارف الاولى من الطبقة الوسطى. . الحكاية ليست في اهتزاز الطبقة الوسطي أو زلازل “الانفتاح وماتلاه من فترات تأسيسية للمافيا” والتي أحدثت هبوطا في مكانة تلك العائلات…إنها ليست ماسأة سياسية بل كشف وجودي …هل كانت تلك الطبقة تعرف ذاتها؟ أتكلم عن الشرائح التى حصلت على اخر فتات من احلام ثورة يوليو 1952 . . حين كان التعليم يمكن أن يفتح المجال للوظيفةفى مؤسسات الحكومة وكان هذا أول خطوة للانتقال من الفقر إلى الاستقرار تحت مظلة الدولة.

حين قابلنا حسن كان أبوه يعمل رئيس قسم فى مطابع مؤسسة صحفية كبيرة. يملك بيتا فى منطقة الاميرية يعيش فيه مع زوجته وأربعة ابناء كان يريدهم جميعا “افندية” لهذا أنفق اغلب ميزانيته ليحصل كل منهم على “شهادة عالية”. . وهكذا بعد دبلوم المعهد المتوسط دفعه إلى معهد آخر خاص للكمبيوتر . كان هذا فى مرحلة البحث عن الاوهام . هذه الشرائح من الطبقة الوسطى تفتت أحلامها منذ السبعينات و لم يبق أمامها إلى التعلق بالشكليات. أصبحت “بلد شهادات“ ووعي البقة بذاتها كان هشا إلى درجة أن الاصول الريفية وعلاقات التابع والمتبوع وفق أصول التكوينات القديم(عائلات او قبائل) ظهرت كحقائق مدببة نشرتها البرجوازية بحثا عن أمان في الغابة.  

هذا الوضع خلق نوعيات من معاهد لا تهمها الكفاءة أو الدراسة بل الأموال التى تمنح فى مقابلها شهادة. المهم تخرج ” حسن ” بشهادة. وحصل على تأجيل من الخدمة العسكرية. عرض عليه الأب أن يجد له وظيفة معه فى نفس المؤسسة رفض. . “سأصبح موظفا . . وأستيقظ مبكرا وأظل مربوطا حتى الساعة الثالثة. ستحسب على وظيفة و تقيد حريتى وبالتاكيد لن أفلح فيها و سأضيع فرصة يمكن أن يمنحها أبى إلى شخص اخر. وهو له فرصة واحدة لتعيين أحد أقاربه كما تعلمون”.

“حريتى قبل كل شىء. . ” هذه هى قاعدته فى الحياة . رفض المصروف الذي سيضطره للعودة قبل الحادية عشر إلى البيت. . و يكتفى من ابيه بمصاريف شحن كارت تليفونه المحمول. . والاب يدفع التكاليف ليمنع حسن من استقبال المكالمات النسائية على تليفون المنزل . . لماذا؟!

“لان خالتى تركت بناتها عندنا و سافرت للخليج . . وعيب ان تاتى لى مكالمات الغرام و البنات موجودة فى البيت”.

لفت نظرى ان حسن دائما شارد. عقله فى مكان آخر. ربما هى حيلة للتركيز فيما يحدث حوله.  وربما هذه مشاعر حقيقية خاصة أنها تترجم ملامح وجهه غير المعبرة و نظرة عين تختزن جبلا من اهانات تشبه عساكر المراسلة او محترفى النوم فى حجز اقسام البوليس.

لم تتغير ملامحه حتى و هو يحكى عن مهاراته فى اصطياد الفتيات.  كان التغير فقط فى صوته وحركات اصابعه . . هذه هى حياته. . غزاوته. . انتصاراته . . . وكل شىء. ونحن كمستمعين أسرى ذلك الغموض وراء حكايات يحكيها صاحبها باستعراض ساحر.  هو بطل الحكايات الذى تحول إلى قوة جسدية جبارة يسوقها لسان جذاب و يديرها عقل فطرى يبيع متعته و يحقق بها مصالح و انتصارات : ليس المال فقط بل الطريق إلى مستقبل سهل . . وتعويض احساس مسيطر بفقدان القيمة .   

إنه ليس إلا “جوجولو ” من نوع قاهري خاص جدا.

3

حسن أمسك أول الخيط في احتراف العشق مع صديقه العائد من هولندا.  ” كان يشعر بالحرية. . وكان من السهل عليه التقاط البنات . . والأهم أنه أطلعني على عالم سحري من المجلات والافلام البورنو “.  عرف لأول مرة اكتمال لذة لم تتجاوز من قبل العادة السرية. كانت هذه أول الانتصارات وأسهلها.  فتى فى العشرين يحقق متعة تحرمه منها كل الأعراف والقوانين الاجتماعية.  كسر حاجز الخوف.  ظل وقتا طويلا بعدها يحاول اعادة شعور تلك اللحظة الغامضة المثيرة.

هرب من محاضرات المعهد. كان يشكر المدرسين لأنهم يطردونه. هذه فرصته للهيام على وجهه فى شوارع وسط البلد. حتى التقى بواحد من “جيل الاساتذة “. أيمن شاب فى أول الاربعين يقيم بصفة شبه دائمة فى ميدان التحرير يبحث عن صيد يقضى به يومه.  يجلس على مقعد فى السنترال يراقب ويتابع ويحاول حتى يقع على طلبه. رقم التليفون أهم شىء. بعد ذلك تبدأ مهمات من نوع آخر. لم يكن “الاستاذ الاول” يفرق كثيرا بين النساء لا في العمر ولا في مستوى الجمال.  كلهن أهداف تسير على الارض. أيمن اصبح صديقه الوحيد. ترك كل من الاصدقاء السابقين. وأدمن اللقاء اليومى معه.  تلقى دروسه و عرفه على بقية الشلة :” محمد الفنان ” ( محامى يعزف على الة موسيقية و يظهر فى الافلام كومبارس احيانا يتكلم . . ) و”مراد” ( ثرى يمتلك محلا فى وسط البلد لكنه يترك كل شىء من اجل جولات الصيد و القنص من الصبح الىالمساء) وعلى بطاطا . . . . وغيرهم.  هؤلاء هم شلة حسن الان . مازل يتعلم منهم .  يسمع الى كل عاشق و يلتقط منه لغة الايقاع بالفريسة. التقط خيطا من اسلوب كل واحد حتىاصبح له اسلوبه الخاص .  يسميهم ” اهل  الكار ” وهو بالفعل يشعر انها “حرفة ” يعيش من اجلها. .  لها بروتوكول و لغة خاصة. . :” اولها انه لا يجب ان تلصق لصاحبك طوال الوقت . . نحن شلة نعم . . لكن من المستحسن الا نرى بعضنا كل يوم . . والقاعدة الاهم انه اذا قابلت احد اصحابك و معه مصلحة ( يقصد امراة ) لا تدخل عليه بالسلام . . اتركه هو الذى يحدد هل يسلم عليك ام لا؟ “

ينهي حسن حكايته عن الشلة باحساس غريب لا تعرف إذا كان هو سخرية أم سخط أم اعجاب خفى بمهارات مازال يفتقدها؟!

“حسن “الذى يحب أن يجلس فىبهو الفنادق الفخمة . . ” كنت حتى وقت قريب اترك شعرى طويلا . . واربطه على هيئة ديل حصان . . ارسم طابع الحسن اسفل خدى الايسر و اطلق لحية صغيرة ( سكسوكة) اسفل ذقنى . . كان شكلى اجنبى . . كما اننى احيانا كنت اتكلم باللهجة الخليجية . . لم يكن احد ممكن ان يتصور اننى لست من نزلاء الفنادق . . كانت هذه ادوات النصب “

يضحك وهو يعلق بالجملة الاخيرة .

فى طرف اخر من الحكاية كان حسن يصف بالتفصيل مشاعره و هو يجلس فى بهو الفندق الخمس نجوم . . “حولى ديكورات فخمة تمر عليه شخصيات ” نظيفه” تلبس ملابس غالية و رائحتهم تنعش كل من فى المكان.  شعور بالراحة كان يكفينى وحده . . “

ينتظر حسن موسم الخليجيات من يونيو إلى اكتوبر .  قبله يكون جاهزا عبر الاتصال بالتليفون ( يجهز ميزانية خاصة لمكالمت تاكيد العلاقات). وهو الآن محترف فى اقتناص الأموال التى يحتاجها يوميا.  يعمل في أي مهنة: طلاء البيوت .  نجار مسلح . . تهريب بضاعة من بورسعيد. . ” أحيانا لا يكون فى جيبى أي مليم اذهب واقف على فرشة الملابس في وسط البلد و أظل اصرخ على الزبائن وأخرج بعد ساعتين بعشرة جنيهات و تى شيرت. ويكون هذا كافيا ليومى . . “.

حسن معروف الآن فى شبكة الخليجيات. لكنه يبحث عن فرصة للانتقال النقلة الكبيرة: “خواجاية تحبنى وتتزوجنى و تنقلنى معها إلى هناك”.  جسده هو الطريق . . لهذا فهو يحافظ عليه: لا يشرب سجائر ولا كحول ولا مخدرات . . بل انه ترك كرة القدم التى كان من الممكن أن يحقق فيها شيئا كبيرا حسب تقديره.  الجسد هو ثروته الوحيدة الان.  وهو يعمل من أجله وحسب رغباته في نفس الوقت يعمل به ليجد لنفسه مكانا . . لا يفكر فى الزواج: “أنا الان حر فماذا بعد أن يعلق فى رقبتى امراة و طفل. . ” ولا فى الاستقرار : “. . اعيش يوما بيوم حتى يتحقق السفر . . “.

قبل ايام استجاب الى رغبة قريبه الضابط و قص شعره . . عاد شابا عاديا لكنه استخدم تقنيات اللوك الجديد ” جيل الشعر ” . . ويفكر كثيرا فى التعرف على مجموعات من شباب الاغنياء يصطاد لهم بنات (مهارته). و يوفرون له مصاريف السهرة (امكانياتهم ). أنه يدخل كل يوم فى عمق الاحتراف.  الصيد هو الهدف.  لا يحب النساء ولا ينظر اليها.  يحب جسده.  هو الاثبات الوحيد فى العالم أنه موجود وأنه قادر على الحياة. يشعر بأنه ملك “لا احد يساويك فى هذاالعالم . . ولا احد يقدر عليك ” فى حجرة بالفندق ليست له. وإذا قرر البوليس التحرك باتجاه إنهاء الليلة سيدفع هو وحده الثمن “لا أحد  يستطيع الاقتراب منها. أنا الذى سادخل فى دوامة البهدلة”. وهذا منطق معكوس للرجولة العادية. رجولة تفخر باستعراضها فى الشوارع و الفنادق وعلى الشواطىء.  وتختفى أمام أي سلطة: نساء يمتلكن المال أو الفرص. الموظفين في الفنادق. الضباط في أقسام البوليس.  

رجولة مهددة بعمرها الافتراضى لكنها هى التى تصنع الشعور الوحيد بأن صاحبها موجود وله قيمة.

فكرت أن حسن خرج من هذه الحالة وأصبح “حكيم” السهرة.  لكن ما أن انتهت ليلة الحكايات حتى لاحقنا بالأمل فى الفرصة:”لا تنسى موضوعى يا أستاذ لو سمحت”.

وأكدت له: طبعا لن انساك.

اطلت عليك ياعاشقها المؤجل في حكاية الجوجولو القاهري، لكنها مفتاح إذا عثرت عليه ستدخل المستوي الثاني من العشق أو السحر الذي تسرقنا به القاهرة.