1

اختفت تلك الفيلا اللطيفة إلى الأبد. ابتلعتها أحلام مجنونة بالاستطالة وهوس بناء الأبراج العالية. يختفي الافق، وتمتص الأبراجُ المدينة في كائنات تنتصب تجسيدا مخففا لاساطير نهاية العالم، حيث تساوي تلبية حاجات سكان مدينة الاختفاء التدريجي لها مصحوبا بنشيج لا ينقطع ولا يستحوذ على الانصات الكافي.

1

اختفت تلك الفيلا اللطيفة إلى الأبد. ابتلعتها أحلام مجنونة بالاستطالة وهوس بناء الأبراج العالية. يختفي الافق، وتمتص الأبراجُ المدينة في كائنات تنتصب تجسيدا مخففا لاساطير نهاية العالم، حيث تساوي تلبية حاجات سكان مدينة الاختفاء التدريجي لها مصحوبا بنشيج لا ينقطع ولا يستحوذ على الانصات الكافي.

تسيرُ في شوارع مدينة يصاحبك النشيج. مثل الخوف الذي لاحق ابنتي “فرح” بعد مشاهدتها فيلم “وحدي في المنزل” وهي طفلة. الخوف من نسيانها في البيت. فالبيت ليس امانا بدون عائلة. والاشرار المتربصين بك في الخارج هم رسل أشباح الغربة.

ولدت “فرح “ اصلا في لحظة غربتنا. المدينة آنذاك في مطلع التسعينات لم تعد لنا. نحن سلالة الطبقة الوسطى في نسختها الهاربة من جحيم الانفتاح وتحلل الدولة من مهامها الأبوية مع احتفاظها بسلطة الابوة كاملة.

كيف كان يمكن أن نجد لفرح مكانا في عالم بلا أب يفتح لنا المدارس ويوفر البيوت ويمنحنا على كراسات المدرسة تعليمات بناء “اسرة حديثة“؟ لكننا سلالة عاشت باحساس “طريد الفردوس“. وبعد قليل انتهت إلى بكائيات للفردوس المفقود، قبل أن تكتشف هذه السلالة وهم “الفردوس“ الذي تختصره صور أو ذاكرة لعوب تعزل الحياة في صور منتقاة بعناية ساحر ماهر يلغي الحياة لتبقي بروباجندا فردوسية مثل افلام بورنو تختصر الجنس في استعراضات اجساد اسطورية معزولة في استوديوهات ضيقة.

انقذتني الفيلا في لحظة من لحظات فقدان الفردوس، ووجدت مكانا في الحضانة الموجودة فيها لابنتي. تجتاحني مشاعر مشاء غريب في مدينة تنسحب تدريجيا من حنانها الفردوسي، كيف تصنع الامان لابنتك وأنت مجرد فرد ضمن الهاربين من جحيم طبقتك، أو ما يسميه ركام الوعي “طبقة ..”؟ كيف تصنع ذلك وأنت عاجز عن الانضمام إلى العالم السحري لمعجزات صنع الثروة، ولم تلبِي عائلتك من الموظفين نداء السادات التخيلي “من لم يصنع ثروة في عهدي…لن يصنعها ابدا” فالرحلة إلى ليبيا عندما كانت جنة بترولية في اخر السبعينات انتهت بسلع معمرة من الاسواق الحرة وسيارة مستعملة وطلاء جديد لجدران البيت؟

وعندما أصبح لي بيت انتاب ابنتي خوف نسيانها في المنزل، رهينة مؤامرات الاشرار، ومغامراتها للعودة إلى أمانها العائلي، أو عالمها الذي يحمها من الغربة.

حشرجة في الذاكرة ذلك الخوف. وبالنسبة لي لم يكن الفقدان يخيفني. كنت مطمئنا إلى مكان ما. اطمئنان لا يقل رعبا لانه يعتمد على ألفة مع الغربة. ومع ذلك الفقد التدريجي للفردوس المتخيل. وربما أيضا مع نشيج يتجمع كنقطة ماء متسرب ببطء في مبني ترك لإله الاهمال يرعاه.

اختفاء الفيلا لم يكن رهن ندرة العرافين الوجوديين ولا الرومانتيكيين الذين يقطعون الابدان العليلة من البكاء.

تتذكرها مثلا حين ترقص المدينة كلها على اوجاع الصعيدي الذي يتأسى مناديا حبيبته التي هجرته “بتناديني تاني ليه”…كأن المدينة تتحول إلى كورال ضخم لمعهد القلب، من مجاريح تنفجر جراحهم كطوفان غامض.

مازوخية لا تلتفت إلى فعل صغير مثل بيع الفيلا التي شهدت فيها ”فرح“ ايامها  الاولى، حين بحثنا (نحن عائلتها) لها عن مرافىء صغيرة لا عن سفينة نوح.

الفيلا أحد هذه المرافئ عندما كانت تضم حضانة “النسور الصغيرة“ او كما كنا نسمها “حضانة علي بدرخان“ علي اسم مؤسسها المخرج السينمائي الشهير.

الحضانة استعانت بمنهج سويدي في التربية يعتمد اساسا علي “حقوق الطفل “…لا التلقين والتدجين وقص الريش لينخرط في “ماكينة المجتمع الكبيرة”.

الحضانة خلقت “جيتو“ من اجيالها المختلفة و “فضاء” أمامهم ليهربوا فيها من “الجحيم العمومي” ويكسروا غربتهم في المجتمع بسبب المسافة بين البيت والمدرسة.

كانت سلالة من نسور صغيرة تنمو في معسكرات نشاط اجتماعي وثقافي يتدرب فيه الاطفال ليكونوا هم المدربين والمعلمين في المستقبل. بينهم رأيت علاء عبد الفتاح أول مرة مراهقا يدرب الاطفال على أنشطة تعلم على فك الخيال من أسر القوالب، أو الاستمتاع داخل نفسيات مغلقة تنمو عليها أمراض الطبقة والطائفة والمحيط الاجتماعي.

لم أحب أسمها أبدا، ولا أعرف لماذا نربي نسورا، ولِمَ تذهب ابنتي إلى خيال يخص تحليق المحاربين، لم أستسغ رمزية تعارك عليها الفرسان من الطغاة ومنافسيهم من طغاة آخرين، واحترت لمَ تخضع مدينة يتراكم تاريخها لأحلام الفضاءات المفتحة في غابات وصحراء.

لكن الاسم ربما كان من قبيل اللعب، وأنا أحببت أن أقدم فرصة لابنتي لتكون لاعبة قبل أي ميزة أخرى وفي هذا اللعب والتكسير كانت تولد روابط بين “نسور صغيرة “. يمنحهم “الجيتو“ قوة تكسر الغربة والانطواء الذي يواجهه المختلف في مجتمع يقدس التشابه والتكرار، باعتبارها دليل الوحدة والانسجام و الاصطفاف.

ولم يكن مدهشا أن سلالات “النسور الصغيرة “ كانت حاضرة في الثورة. بل وتتقدم في جسارة ونزق احيانا. لتلمع اسماء: يارا سلام وسناء سيف وسلمى سعيد ومنال حسن وعلاء من بعده سناء. كلهم ليسوا زعماء كما قالت الكتالوجات التنظيمية القديمة/ولا قادة طبيعيين ولا تاريخيين بما يمثله من ثقل الادوار والمهام التاريخية. لكنهم محاربين من أجل الحياة، من أجل أن تنتصر الطفولة علي أفخاخ المومياوات. ”عيال مشاغبة“ لا يتحركون ببرامج شخصية ولا عبادة لهرم الهيراركية الخالد. لكنهم يشحنون بنزقهم طاقات حية تكاد أن تموت تحت ضربات جيوش الزومبي التي تصارع الاحياء الآن وعلى الهواء مباشرة.

2

اختفاء مساحة شخصية في هذا اللحظات الجحيمية لا يعني أكثر من أسى صغير. فالمدينة كلها ستختفي في لحظة من لحظات الكون النادرة حين تتحول الكوابيس إلى واقع، والخيال يتضاءل ليصبح تعليقا على أحداث يومية.

المدينة ستختفي كما حكي أحمد ناجي عن المستقبل في روايته “استخدام الحياة“. الخجول كما عرفته أول مرة، والقاسي كما رأيته يخبيء الرقة في حوافظ سميكة مما يتيسر من كوابيس الهجران والجفاف الانساني.

كيف لهذه الرقة أن تختار جحيمها لتحكي عنه؟ لن تسأل نفسك كما لن تعتبر أن اختفاء مساحاتك تلو الأخرى علامات هذا الجحيم. كما أن رواية ناجي وتقصيها لمسارات سلالة منقذي العالم وأصحاب مهامه الرسولية، ليست نبوءة بل هي تقرير حال لجزء منك ينام جانبك وتمنحه الحبوب المهدئة أو تذهب به إلى أصدقاء من أطباء نفسيين، ستسمع شكواهم آخر الليل مع تداول ايقاعي للزجاجات الخضراء من “ستيلا“ التي يعتبر طول عمرها (١١٥ سنة أي أكبر من تنظيمات مثل الاخوان المسلمين عاشت على الابتزاز و نشر الكآبة وتضييق المجال العام بلافتاته واعلاناته التجارية عن جنة الله) من دواعي الالفة مع المدينة.

ليست مرضا ذلك الذي تعانيه ولا وحدة من النوع الذي كان شعراء مثل ابراهيم ناجي أو محمود حسن اسماعيل يلعب به ليصنع رومانتيكياته الفادحة، ولا حتى كما صنع منها صلاح عبد الصبور اسئلته الوجودية في صيغ عراف صوفي أنيق يتجول بين مدن قديمة.

الرومانتيكا غالية هذه الايام، ولها أقراصها المعلبة، وأكوانها التي تقتلها أحلام الخلاص المعماري، كما في رواية ناجي وكما قدمت رسومات ايمن الزرقاني في رسوماتها ما تحت الاغلفة البشرية التي تعيش داخلنا او بجوارنا وتحتل الشوارع.

الجحيم ليس بعيدا…وهذا ما لن يحله تكرار كلمات البهجة أو الذهاب إلى الرقص في علبة الليل “افتر ايت“، كأنها تعاويذ أسبوعية تُتلى في معابد تختصر الحياة في طقوسها الشبقية بدون شبق.

3

من النسور الصغيرة خرجت سلالة جديدة … يحبون أشكالهم الفردية. تسبقهم ابتسامات وقوة يتعجب المقربين منهم من مصادرها. ليسوا أبناء أدوار وقضايا بقدر ما هم أبناء حياة. يقاومون آلهة فرعونية يبدو الإنسان العادي في مواجهتها «قزماً»، لا تكاد العين المجردة تلتقطه. 
الشيخوخة لا تملك معدتها الرهيبة أدوات الهضم، وكلما ابتلعت شيئاً زادت ضخامتها. هكذا تضخمت صور المسؤولين في نظام مبارك لتصبح رموزاً تجريدية لا تشير إلى أشخاص بعينهم قدر ما تشير إلى كيان ضخم. ماكينة ابتلاع من الصعب إيجاد بديل لها أو إعادة تصنيعها من جديد.

والنسور الصغيرة بتربيتهم في “جيتو حفظ النوع“ يختلفون عن “أنبياء“ يتصورون أنهم اصحاب رسالة لانتشال المجتمع من جاهليته. هؤلاء كانوا لهم سحر في المجتمع المصري. سحر القادم بحلول سماوية/علوية…من خارج البحيرة التي يحتلها التماسيح.

فعندما نشرت صورة” شكري مصطفي”(سنة ١٩٧٧) كانت صدمة كبيرة.

لم يكن نجما من نجوم السينما أو بطلا من أبطال حرب اكتوبر التي انتهت ايامها قبل 4 سنوات. ولا حتى رجل سياسة من الموديل الجديد الذي استبدل به الرئيس السادات الطواقم القديمة من رجال لعبد الناصر.

كما أنه لم يكن مجرما من نجوم صفحات الجريمة في الصحف..سفاح ..قاتل أو بلطجي أو زعيم عصابة من عصابات السرقة المسلحة.

كان “بطلا” من نوع جديد. ملامحه لا تشبه النماذج السابقة. قاتل لكنه لا يشبه القتلة العاديين. وزعيم عصابة لكنها عصابة غير تقليدية…انه أمير “جماعة المسلمين” المتطرفة، والتي اطلقت عليها الصحافة اسم: “التكفير والهجرة”..وصورته نشرت عقب اغتيال الشيخ الذهبي وزير الاوقاف وقتها وحوكم هو و5 من اعضاء التنظيم و حُكم عليهم بالاعدام.

ابن موت..هذا ما تقوله نظرة “امير الجماعة” القادم من زمن مختبيء تحت السطح. بوهيمي لكن عكس موضة هذه الايام من السبعينات. ملامحه مخطوفة إلى شيء بعيد. على وجهه حفرت مشاعر غربة من نوع يشبه غربة الريفيين في المدينة أو البدو في قلب الحضارة الحديثة.

لا تعطي صورته انطباعا بالاجرام التقليدي. على العكس توحي بالتعاطف مع شخص يقف علي حافة الجنون. يثير التعاطف والخوف معا.

فى المحاكمة قال شكري مصطفي: “خطتنا أصلا تقوم عل الانسحاب من هذه المجتمعات وقلبها رأسا على عقب إذا صح التعبير حيث أننا لا نؤمن بسياسة الترقيع ولا نؤمن بتزيين الجاهلية بالإسلام‫”‬

انه هنا و هناك‫.‬

في قلب المجتمع و ضده‫.‬

و‫”‬النسور الصغيرة ‫“‬ موديل آخر‫. ‬ليسوا أنبياء‫. ‬ومن المجتمع‫. ‬ويكرهون الحس الرسولي‫. ‬ويتحركون من كتلة اجتماعية ‫“‬شاردة“‬ ‫‬لكنها تقاوم اغترابها.

هذا فعل من داخل التاريخ لا قفزة علوية من خارجه، وإيمان بقوة مكبوتة، تخفي شرها تحت أغلفة نبيلة تقدم وجبتها من الارشادات لتحويل الناس قطعانا مغتربة عن زمنها‫.‬