رغم التحديات والمخاطر التي تحيق بمستقبل الدولة وسلمها الأهلي إلا إننا لا زلنا نرى من يدعو للتمسك بالإعلان الدستوري كمرجعية لأي حوار مرتقب بين الفرقاء الليبيين ويعتبره المرجعية الوحيدة التي تجمع أطياف الشعب.

هذا الإعلان الذي تم إصداره من قبل المجلس الوطني الانتقالي بعد أشهر من انتفاضة شباط/فبراير تحسّباً لسقوط نظام القذافي، كان مجرد خارطة طريق الغرض منها تنظيم مراحل العملية السياسية في المرحلة الانتقالية، والتي تعثرت وخرجت عن سياقها المفترض. فلماذا توضع العربة أمام الحصان من خلال الدفع بالإعلان الدستوري المؤقت أمام أية عملية سياسية قادمة؟ وما الغرض من إعادة إحياء الوثيقة كلما لاحت في الأفق دعوة أو مبادرة للحوار؟

الأصوات الداعية لاستمرار الإعلان الدستوري كقاعدة للعمل السياسي –رغم تهاوي المسار السلمي– يستندون على فكرة أن الثورة أو الانقلاب لهما الأحقية في إلغاء أي شرعية دستورية، ويدّعون أيضاً بأن انقلاب القذافي أسقط الشرعية الدستورية الليبية بشكل نهائي، وبالتالي فإن كل المواثيق والعهود والحياة الدستورية ما قبل انقلاب القذافي لا تعني شيئاً.

وسواءً قالوا ذلك صراحةً أم لا، فهم ضمناً يقرّون بانقلاب القذافي من خلال القبول بآثار ونتائج هذا الانقلاب الذي قطع مستقبل الدولة الليبية المعاصرة عن جذورها ومرجعيتها.

نعود مجدداً لطرح بعض التساؤلات بخصوص مرجعية الدولة الليبية التي تبوأت من خلالها ليبيا مكانتها بين دول العالم، لنتبين حقيقة هذا الموقف المتشبّث بالإعلان الدستوري وتداعياته على مستقبل مشروع الدولة في ليبيا، فما هي مرجعية الدولة الليبية تحديداً، وهل تعود هذه المرجعية إلى عام 1951 وترتبط بمواثيق ودستور الاستقلال الذي كان شرطاً لنيل الاعتراف من الأمم المتحدة، أم تبدأ هذه المرجعية من عام 1969 بانقلاب القذافي، أم أن هناك كياناً سياسياً جديداً سينشأ في ظل تسوية بين مراكز القوى التي تختزن الأسلحة والذخائر؟

هنا نطلق لأنفسنا العنان في تصور ماهية هذه الدولة، ومدى ارتباطها بتاريخ وهوية الدولة الليبية. فالحقيقة الواضحة أن الدول تتشكّل وتتأسس مرة واحدة وأن مواثيق وعقود التأسيس لا يمكن أن تكتب إلا مرة واحدة أيضاً، وما هو ممكن وطبيعي واعتيادي في تاريخ الدول هو إجراء تعديلات دستورية في مراحل زمنية مختلفة، ووفق آليات ديمقراطية توافقية تعكس إرادة الشعب وتحافظ في الوقت ذاته على حقوق الأقلية من دكتاتورية الأغلبية.

كما أن الظروف التي تتاح في فترة ما لإنجاز تعاقد اجتماعي عن وفاق واتفاق وتراضي، قد لا تتوفر في ظروف زمنية أخرى، ما يجعل من الحكمة والصواب التمسك بالعقود التي أنجزت في حالة الوفاق بدلاً من محاولة طمسها والجري وراء السراب في ظروف الاقتتال والتشظي والمغالبة، فأي حكمة من وراء استبدال دستور الاستقلال بالإعلان الدستوري؟

لست بصدد تفسير دوافع الحرص على الإعلان الدستوري من قبل البعض واستمراره كقاعدة لبناء كيان سياسي جديد، ولكن يبدو أنهم  قد تغافلوا عن طبيعة هذا الإعلان وكونه مجرد خارطة طريق، كما أنهم يتغافلون عن الطبيعة التعاقدية للدولة الليبية المعاصرة، والتي كما ذكرنا سابقا أنها أنجزت دستورها قبل نيل استقلالها بناء على مواثيق وعهود تمخضت عن مشروع دولة وطنية، ودستور يمثل عقداً اجتماعياً ينظم العلاقة بين فئات المجتمع.

في المقابل فإن الإعلان الدستوري المُستنزف بالتعديلات والطعونات المتعددة والذي أصبح محلاً للجدل والخلاف، لن يكون أبداً أساساً صالحاً لإنجاز تعاقد اجتماعي جديد أو بناء كيان سياسي متماسك، بل إن النتائج العملية للمسار الانتقالي أبانت لاحقاً على أن النسج على منوال الإعلان الدستوري سيكون مجرد تقنين لحالة الفوضى العامة التي تسود البلد في ظل انهيار فعلي للدولة.

بل إن المضي في مسار الإعلان الدستوري في ظل الأوضاع الراهنة وسيطرة مراكز القوى، سيفضي في أحسن الأحوال إلى صياغة دستور سيكون مجرد تسوية بين أقطاب الصراع الفكري أو الجهوي، وسيؤسس لاحقاً لنظام المناكفات والصراعات طويلة الأمد على حساب بناء عملية سياسية مستقرة تكون أساساً لبناء دولة وطنية حديثة، خاصةً في ظل وجود كتائب مسلحة على الأرض لها توجّهات سياسية أو لديها مطامح أو مخاوف سياسية، وهي جزء من الطبقة التي تحتكر المال والسلاح والنفوذ داخل مؤسسات الدولة.

أي أن التسويات والتفاهمات ستكون عبارة عن شرعنة لواقع مشوه، سينتقل بكل علاته وعثراته للأجيال اللاحقة التي لن تجد بهذه الطريقة وطناً تنتسب إليه وجدانياً وتتنافس في حبه وخدمته. بينما العودة لدستور الاستقلال ستلغي امتيازات هذه القوى ولا تترك لها ثغرات تتغوّل من خلالها، سواء في الجانب الحقوقي أو السياسي أو الاقتصادي إلا بما تقتضيه صفة المواطنة التي تساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات.

فلماذا يتم الإصرار على التمسك بقاعدة هشة ويتم التغاضي في نفس الوقت عن وثيقة ميلاد الأمة الليبية التي تسعى للنهوض من سبات طال خمسة عقود من الزمن؟ ولماذا لا تتاح الفرصة لهذا الشعب للعودة لعقده الاجتماعي ولإحياء مواثيقه في السلم والتعايش ولتكون مدخلاً لمرحلة العدالة الانتقالية ومحفزاً لإيجاد الأسباب للحياة المشتركة، بدلاً من المقامرة بسلمه الأهلي والقذف به في مغامرات سياسية ينتج عنها تدوير حالة الفوضى واستمرار دوائر العنف التي تستنزف مقدرات البلد البشرية والمادية وتنتهي بها إلى كيان أو كيانات سياسية جديدة مرتهنة مادياً وسياسياً؟

لو أتيحت الفرصة لعودة دستور الاستقلال فإن إرادة الليبيين ستحدد مستقبل الدولة الوطنية التي وضع غرسها الآباء المؤسسون، وإلا فإن هذه الأرض القابعة بين مصر وتونس ستتقاذفها مشاريع متعددة لا يجتمع الليبييون على شيء منها، ولن تحقق لهم مصلحة ولا استقرار.