حتى لو حاولت الصحافة صادقة أن تنقل الواقع كما هو، فإن ما تنقله  يبقى صورة للواقع أو انعكاسا له، لا الواقع نفسه. يدرك رجل الشارع البسيط هذه الحقيقة، فيستخدم عبارة “كلام جرايد” ، كلما أراد أن يصف حديثا بأنه مبالغ فيه، أو محرّف، أو حتى كاذبا تماما، ومع ذلك فإنه لا يتوقف عن قراءة الصحف ، بل وإكساب ما بها – في تناقض عجيب- قدسية ما لمجرد رؤية الخبر منشورا بالأحرف المطبوعة.

يعبّر الكاتب المصري الراحل حسين أمين (1932 – 2014 ) عن هذه المعضلة بأطرف ما يكون في كتابه “شخصيات عرفتها”.

حتى لو حاولت الصحافة صادقة أن تنقل الواقع كما هو، فإن ما تنقله  يبقى صورة للواقع أو انعكاسا له، لا الواقع نفسه. يدرك رجل الشارع البسيط هذه الحقيقة، فيستخدم عبارة “كلام جرايد” ، كلما أراد أن يصف حديثا بأنه مبالغ فيه، أو محرّف، أو حتى كاذبا تماما، ومع ذلك فإنه لا يتوقف عن قراءة الصحف ، بل وإكساب ما بها – في تناقض عجيب- قدسية ما لمجرد رؤية الخبر منشورا بالأحرف المطبوعة.

يعبّر الكاتب المصري الراحل حسين أمين (1932 – 2014 ) عن هذه المعضلة بأطرف ما يكون في كتابه “شخصيات عرفتها”.

كان حسين أمين في شبابه المبكر أحد العاملين العرب بهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” في لندن، حين قرر الإنجليز الاشتراك – مع فرنسا وإسرائيل – في الهجوم الكبير على مصر الناصرية، فيما عرف آنذاك باسم “العدوان الثلاثي” 1956، وبمجرد إعلان الحرب اجتمع العاملون العرب بالإذاعة البريطانية، وناقشوا اقتراحا يدعو إلى استقالتهم جميعا احتجاجا على مشاركة بريطانيا في العدوان.

يقول حسين إن الحماسة  انتهت بعد نقاش طويل إلى لا شيء تقريبا، فقد تمسك العاملون بـ “أكل عيشهم” ، ولم يستجب للاقتراح سوى شخصين فقط ، هما حسين نفسه، ومحمود مرسي، الإذاعي الذي صار –حين عاد إلى مصر-  ممثلا سينمائيا وتلفزيونيا كبيرا، وأثناء عودتهما إلى مصر في الطائرة، إذا بهما يقرآن تغطية الصحافة المصرية “لاجتماع عرب البي بي سي”، وقولها إن “جميع الإعلاميين  العرب في الإذاعة البريطانية قد استقالوا غضبا واحتجاجا على الحرب”.

يقول حسين أمين، إنه على الرغم من أنه هو شخصيا كان جزءا من الخبر، وشاهدا على مدى التحريف الذي وقع فيه حين انتقل إلى الصحافة، إلا أنه نفسه ظل يشتري الصحف “كي يعرف ما يجري في العالم”!

لكن إذا كان هذا مفهوما في العام 1956، قبل 4 سنوات من تأسيس التلفزيون المصري، فإن من الغريب أن “كلام الجرايد” يظل قادرا على التحريف والفبركة في زمن الشاشات المفتوحة. هذا ما حدث مؤخرا حتى مع حدث شاهده العالم كله أثناء زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى الأمم المتحدة.

في منتصف تشرين أول/أكتوبر الماضي، اتهمت “نيويورك تايمز” جريدة “الأهرام” المصرية بتحريف مقال كاتب الأولى ديفيد كيركباتريك في 7 من الشهر نفسه بعنوان “بينما يتمسك المصريون بالاستقرار، يحصن السيسي رئاسته”، متناولا خطبة الرئيس السيسي في الأمم المتحدة.

كان كيركباتريك يقارن بين خطبة السيسي التي “لقيت الصمت في قاعة الأمم المتحدة” و”التصفيق  والامتداح من الوفد والإعلام  المصريين فقط”، لكن ترجمة الأهرام للمقالة نسبت التصفيق إلى “الوفود الأجنبية” و”قادة العالم” في الأمم المتحدة، وهكذا بدا أن “نيويورك تايمز” – كما ترجمتها “الأهرام” – هي أيضا تمتدح الرئيس المصري الذي “لقي تصفيقا حارا من قادة العالم المجتمعين بعد هتافه: تحيا مصر” على حسب الترجمة المحرفة.

انتهت الأزمة الصحافية باعتذار الأهرام باللغتين الإنجليزية والعربية. في كلا الاعتذارين نسبت خطأ الترجمة إلى الوكالة الرسمية “الشرق الأوسط” المترجم الأصلي للتقرير، لكن الاعتذار باللغة العربية تضمن اتهاما للصحفي الأمريكي بأنه “معادي لثورة 30 يونية”، وهو الاتهام الذي خلا منه بالطبع الاعتذار الانجليزي.

ومع عالم الانترنت والسوشيال ميديا، والتنافس المحموم على جذب انتباه المستخدمين وسط طوفان المادة الافتراضية، انتقل “كلام الجرايد” ليصبح “كلام مواقع”، وهو ما قد يكون أسوأ لأن الخبر الورقي قابل للاستخدام ليوم واحد، أم الخبر الإلكتروني فقد يعاد نشره و”تشييره / من share  ” ليدور في الفضاء الافتراضي إلى الأبد.

وبينما يبقى معظم مستخدمي الانترنت في مصر “مقيمين” داخل مواقع التواصل الاجتماعي، ومعتمدين على الصفحات الرسمية للصحف في تلقي الأخبار، فإن بوابة جريدة المصري اليوم مثلا –وعلى صفحتها الرسمية أكثر من 4 ملايين مشترك – تواجه منافسة شرسة من مواقع أخبارية تعتبر أكثر “خفّة” و”أقل مصداقية” ما يجذب “المصري اليوم ” أحيانا – وهي المعروفة بأنها  الأكثر مؤسسية في عالم الصحافة الخاصة المصرية-  إلى” تصرفات” إعلامية تتلقى بسببها اللوم، ومنها مؤخرا، كان خبر نشرته بوابة الجريدة وتناقله القراء والوكالات وصولا إلى الصحافة الأجنبية، بعنوان عجيب هو “القبض على طالب جامعي بتهمة حيازة رواية جورج أورويل الشهيرة 1984”.

كان الخبر واضح التحريف ولكن للعين الصحفية فحسب، ليس فقط لأن الشرطة –التي ضبطت الطالب- ليست جهة توجيه اتهام، ولا لأن رواية 1984 متاحة في المكتبات المصرية دون أن يقبض أحد على قرائها أو عارضيها و ناشريها، ولكن لأن متن الخبر يقول إن الطالب الذي ضبطته “الخدمات الأمنية” بمحيط جامعة القاهرة (حيث وقعت تفجيرات إرهابية متعددة هذا العام)، كان بحوزته  جهازيّ هاتف بلا بطاريات، وعدد من “الفلاشات” و”الريدر” وكراسة بها “شعارات إسلامية تطالب بالخلافة”، وصولا إلى نسخة من الرواية الشهيرة (التي يصفها محضر الضبط بإنها رواية تتحدث عن الأنظمة البوليسية).

هكذا، وكما يبدو، التقطت عين محرر الخبر عنوان رواية أورويل، فصاغ منها عنوان الخبر الساخن (القبض على طالب بتهة حيازة رواية 1984) الذي انتشر كالنار في الهشيم، ولكن الأغرب كان ما ترتب على ما سبق.

بعد هجوم من صحافيين وكذلك من مؤيدين للنظام القائم، تراجعت الصحيفة وغّيرت عنوان الخبر بأن حذفت منه كلمة “تهمة”، واكتفت بـ “حيازة الرواية”، كما اعترف بعض مسؤوليها بالخطأ، ولكن العجيب، أن جمهور القراء الذي احتفى بالخبر وتناقله على المواقع الإلكترونية، لم يلق بالا لتراجع الصحيفة واعترافها، بل استمر في الدفاع عن الخبر المحرّف، وسرعان ما بدأ الكثير من القراء، يحكون عن مواقف تعرضوا فيها إلى مضايقات أو حتى اتهامات من ضباط شرطة، بسبب كتب كانت بحوزتهم.

لقد بدا هنا، أنه في عالم الانترنت، صارت العلاقة “تفاعلية” أكثر من أي وقت مضى، بين الموقع/ الجريدة، والقارئ الذان يدركان مع الوقت “مزاج” كل منها، يلقم الصحفي آلة الانترنت بالخبر أو العنوان الأكثر احتمالا لإعادة التدوير، فينتظر منه القارئ هذا العنوان ليدوّره مثبتا به وجهة نظره المسبقة، إذ يبدو أن قارئ السوشيال ميديا على وجه التحديد، لا يريد “أخبارا” بقدر ما يريد حججا ودفوعات.