“ليس المهم أن نبدأ حياتنا أبطالاً ومناضلين، المهم أن ننتهي نهاية المناضلين وأن لا ننقلب على مبادئنا”؛ عبارة لطالما كان يرددها عمار الغول دائماً على مسامع زوجته آمال يوسف نوفل أو “وليد” كما كانت تناديه دوماً.

“ليس المهم أن نبدأ حياتنا أبطالاً ومناضلين، المهم أن ننتهي نهاية المناضلين وأن لا ننقلب على مبادئنا”؛ عبارة لطالما كان يرددها عمار الغول دائماً على مسامع زوجته آمال يوسف نوفل أو “وليد” كما كانت تناديه دوماً.

تميز الرجل عن رفاق دربه ببسالته وروح تضحيته العالية وقدرته الكبيرة على الثبات والصمود. تقدم الصفوف الأمامية للمقاتلين، كما يشهد له العدو قبل رفاق السلاح أنه أفضل من أتقن استعمال قاذفات آر.بي.جي الروسية (7-  RPG)، ولقب بـ “عمار آر بي جي” لأنه تصدى مع رفيقيه لرتل من الدبابات الإسرائيلية باستعمال قذائف الآر بي جي الشيء الذي أخّر اجتياح بيروت في الثمانينيات ليوم كامل.

ولد عمار الغول عام “نكبة” 1948 (سنة احتلال معظم الأراضي الفلسطينية من قبل إسرائيل وطردها لنحو 750 ألف فلسطيني من ديارهم)، وترعرع في محافظة قفصة في جنوبي غرب تونس. نشأ وسط قسوة الطبيعة وجفافها. جاب عدة دول عربية، ولكن المنية أبت إلا أن توافيه في مرتع طفولته ومسقط رأسه قفصة التي يعشقها، عن عمر ناهز 66 خريفاً لم يعرف خلالها راحة البال.

التحق الغول منذ منتصف السبعينيات بصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ولم يبلغ آنذاك عقده الثالث، إلى جانب المقاتلين العرب الذين انضموا للقتال في صفوف الثورة الفلسطينية عام 1982. وشارك في خوض معارك الدفاع عن الأراضي اللبنانية إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان لإجهاض الثورة الفلسطينية والقضاء على قواعدها المتمركزة على الأراضي اللبنانية.

“وليد التونسي”

لم تعرف آمال يوسف نوفل الفلسطينية المقيمة بمخيم عين الحلوة اللبناني طعم الغربة يوماً مع زوجها، وكانت دائماً تشد أزره في المحن. كل البلاد وطنها مادامت قدما عمار تطؤها. وبحرقة كبيرة تقول آمال لـ”مراسلون” إنها خبرت الغربة منذ خمسة أشهر فقط، منذ يوم وفاته.

هو صديقها وزوجها وأخوها ورفيقها في النضال، ذاك الغريب القادم من تونس نحو الأكاديمية العسكرية ببيروت لتلقي دورة لتكوين الضباط الملازمين والالتحاق بخط النار الأمامي ضد إسرائيل؛ وهي تلك البنت اليافعة العاملة بأرشيف الأكاديمية العسكرية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ورغم معارضة الأهل لأي ارتباط بينهما، تحدت آمال الجميع وتزوجت من “وليد” (الاسم الحركي لعمار الغول) المؤمن بالقضية الفلسطينية إلى درجة الرغبة في الشهادة في سبيلها. ولم تكن تلتقيه طيلة فترة مكوثهم ببيروت إلا مرة كل أسبوعين. وإذا ما تعذر كانت آمال تتنقل إلى الجبهة لتراه.

تقص آمال قصصاً وحكايات بطولية عن زوجها الراحل، تحدثت عن صموده أمام الاجتياح الاسرائيلي سنة 1978. وبإعجاب وفخر لم تخفته السنون. سردت كيف أوقف الاجتياح مع رفيقيه “غيفارا العراقي” و”صقر القدس” ست عشرة ساعة، حتى أن بطولته في هذا الموقف صارت محل إكبار رفاقه، وكرمه الحكيم جورج حبش (مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) آنذاك، فأهداه مسدسه الخاص عربون مودة وعرفان بقدراته ونضالاته.

تواصلت بطولات المقاتل التونسي في صلب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خلال الاجتياح الثاني لبيروت، فعمار الذي كان ممنوعاً من دخول تونس سافر إلى الجزائر ثم إلى ليبيا لزيارة والدته المريضة أثناء إجازته ليصله نبأ الاجتياح، ويعود على الفور إلى بيروت للالتحاق بصفوف المقاتلين. لكن زوجته الحامل آنذاك توسلت إليه أن يبقى إلى جانبها، إلا أنه فضل التوجه للمعركة فوراً. تقول أرملته: قال لي يومها وأنا أبكي رحيله لأول مرة “جئت لأقاتل لا لأختبئ. وغادر لتنقطع عني أخباره”.

اعتقال البطل

كما يرد في الملاحم والقصص البطولية، في الوقت الذي اختار مقاتلون كثر في صفوف المقاومة الفلسطينية التواري عن الأنظار وارتداء ملابس مدنية تفادياً للاعتقالات والأسر، لبس “الغول” بزته العسكرية وحمل سلاحه ملتحقاً بالخط الخلفي للمعركة ليضرب العدو في مقاتل عدة. لكنه وقع في الأسر، حيث ظل حاملاً رفيقه المصاب على كتفه إلى أن يئس من نجاته، فوضعه على حافة واد علّ أحداً يراه فيأتي لإنقاذه، واختبأ في الأجمة المحاذية للوادي. لكن دورية عسكرية قبضت عليه واقتادته للمعتقل.

انقطعت أخباره منذ ذلك الحين عن رفاقه وعن زوجته، ليعلمها بعد بضعة أشهر الصليب الأحمر أنه تم أسره وتعذيبه.

وتستذكر آمال بحرقة وفخر في الحين نفسه كيف كان الجندي الإسرائيلي يضرب “عمار الغول” أسفل بطنه ويصر على ذلك تكراراً ومراراً ولا يوقفه النزيف الحاد للأسير، بل يردد في أذنه “لابد أن تنقطع سلالتك”.

يوم أفرج عن عمار الغول في إطار صفقة تبادل أسرى في نهاية عام 1985، وقفت ابنته الكبرى رانيا في طابور المنتظرين للمفرج عنهم، لكنها لم تجد أباها بينهم، فالرجل طلب أن لا يخرج إلا مع رفاقه الذين سجن معهم، وتوجب على العائلة الانتظار أكثر حتى يعود.

جور الوطن

الحرب والأسر والتعذيب ليست آخر حلقات الألم في حياة عمار وآمال، فما ينتظرهما كان أسوأ. اعتقل عمار لحظة دخوله الأراضي التونسية وتم الإفراج عنه بضغط من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومنظمات أخرى عابت على السلطات التونسية اعتقالها لأسير مفرج عنه. لكن النظام عزم على تطويعه ودفعه للاعتراف بمعلومات لم يقبل التصريح بها تحت التعذيب في الأسر.

غريباً أسيراً في وطنه هكذا عاش “عمار الغول” بقية حياته في تونس، حيث منعت عنه سبل العيش، وكلما ارتأى سبيلاً جديداً أغلق في وجهه.

شتت نظام بن علي آنذاك شمل عائلته، حيث رفض الاعتراف بعقد زواجه بـ”آمال”، الذي ورد فيه اسمه الحركي “وليد التونسي” بدل عمار الغول. وبالرغم من سهولة الإجراءات المطلوبة لتدارك الخطأ، فإن النظام هجّر آمال وهي حامل بابنتها الثانية، وأعادها لبيروت ليلتحق بها صهر عمار حاملاً توكيلاً قانونياً لإعادة إبرام عقد الزواج.

لم تنته المعاناة عند هذا الحد، بل تواصلت المضايقات داخل تونس على مدى عقدين من الزمن. مضايقات طالت رزقه وقوت أولاده بهدف دفعه للتخابر مع الشرطة السياسية، كما روى الغول لأحد المنظمات الحقوقية الدولية في آخر تصريحاته: “ذهبت إلى لبنان لأنني أردت الدفاع عن هذه الثورة وعن الظلم ضد الشعب الفلسطيني. كان ذلك واجباً بالنسبة لي، عند عودتي إلى تونس تعرضت إلى مضايقة وضغط من الشرطة السياسية بسبب ماضيّ وعلاقاتي مع المعارضين في منطقة قفصة”.

تم تحطيم المقهى الذي كان يمتلكه وتم منعه من العمل. وكان منزله يخضع للتفتيش بصفة منتظمة حتى عام 2011 . قال لزوجته إنه حاول قدر المستطاع أن تبقى عائلته وأطفاله بمنأى عن المضايقات، ومع ذلك “لم أندم على شيء، إذ كنت مدركاً للمخاطر، وأتمنى اليوم أن يكون القضاء مستقلاً وأن تكون وسائل الإعلام حرة وأتمنى أن يخدم كل ما تعرضت له حرية الشعب التونسي”.

نهاية مؤلمة

عاش عمار الغول البطل التونسي الجنوبي حالة صحية ونفسية صعبة للغاية تتالت عليه الأمراض منذ سنتين كانت بدايتها مع داء السكري وضغط الدم، مما أثّر على بصره واستوجب إجراء عدة عمليات جراحية التي لم يعد يجد لها قوة وجلد الشاب الذي عرف بصلابته وبأسه في السبعينيات.

لم يتحمل عمار ما ألم به من مرض خبيث، وأثر في معنوياته أكثر وحدته وهجر الأصحاب والرفاق القدامى ما عدا قلة قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة.

اشتد به المرض خلال الفترة الأخيرة وزادته الوحدة ألماً، فاستسلم لحتمية الرحيل بعد أن قاوم المرض لأشهر مودعاً يوم 23 أبريل/نيسان الماضي زوجته وأبناءه ورفاقه، ليرحل في نفس يوم رحيل رفيق دربه الشهيد عمران مقداد.

يروي صديقه الأزهر الضاوي، وهو فنان تونسي ملتزم، اللحظات الأخيرة للبطل كما شهدها فقال: “مع خيوط الفجر الأولى فاضت روح المناضل الكبير عمار الغول بعد صراع مرير مع المرض، عاش عمار رجلاً ومات رجلاً، لم يطأطئ رأسه لأحد ولم يطلب المعونة من أحد”.

ويضيف الضاوي أنه رغم ضنك العيش صمد وقضى السنين الطوال وهو يعيل أسرته من “نصبة خضار” في “سوق الفجر” بمدينة قفصة. جلس حذو نعشه ابنه الذي لا تكاد العين تخطيء فيه الملامح الفلسطينية، وفي لمح البصر أمكن لي قراءة شموخ الأب وعزة نفسه في ملامح الابن. وفي لحظة ما خيل لي أني في منزل أحد الفدائيين في نابلس أو جنين ولست في حي السرور بقفصة”.

هكذا عاش عمار الغول بطلاً وتوفي كذلك، ولد في قرية قاحلة بعيدة منسية ورحل تاركاً البطولات والنضالات أمانة ترويها زوجته وأبناؤه ذكريات تقارع بها النسيان.