الديمقراطيّة مفهومٌ ثوريٌّ أكثر من الثورة نفسها. الديمقراطية تعطي الجميع الحق في تقرير المصير، والجميع هنا هم المواطنين جميعاً، من يملكون رأياً ومن لا يملكون الاهتمام بأن يكون لهم رأيٌ، والذين ستجعلهم الديمقراطيّة يتبنّون رأياً في نهاية المطاف. أما الثورة فهي تحتكر هذا الحق عند جانب المنتصرين فقط، فقط من أصابعهم دائماً على الزناد دونما سببٍ مقنعٍ لسواهم.

الديمقراطيّة مفهومٌ ثوريٌّ أكثر من الثورة نفسها. الديمقراطية تعطي الجميع الحق في تقرير المصير، والجميع هنا هم المواطنين جميعاً، من يملكون رأياً ومن لا يملكون الاهتمام بأن يكون لهم رأيٌ، والذين ستجعلهم الديمقراطيّة يتبنّون رأياً في نهاية المطاف. أما الثورة فهي تحتكر هذا الحق عند جانب المنتصرين فقط، فقط من أصابعهم دائماً على الزناد دونما سببٍ مقنعٍ لسواهم.

ثوار اليوم لديهم الحق في تحديد مساحة الحريات العامة وتحديد المسموح وغير المسموح به، ليتحول المجتمع إلى أداة في يدهم يحصلون من خلالها على مكاسب أكبر من الثورة نفسها، ولتكبر مساحة المسكوت عنه، وهنا مكمن خطر الدولة الثوريّة الثانية.

وإن كان لا بد لليبيّين أن يفعلوا شيئا، فلن يكون سوى الوقوف بقوةٍ أمام من نصبوا أنفسهم أوصياء على الشعب، ومنع أولئك من احتكار الحقوق العامة، وذلك من خلال الاستمرار في المسار الديمقراطي، رغم رداءة نتائجه اليوم والتي لا بد من أن تتحسن مع مرور الوقت، حيث ستتغير النتائج بتغير أنماط التفكير الساذجة.

الاستمرار في الخيار الديمقراطي والوقوف بحزم أمام “ثوار” اعتقدوا أنفسهم أصحاب الحق وسحبوا البلاد خطواتٍ إلى الوراء نحو تكريس ديكتاتوريّة ثوريّة بدلا عن تلك التي قامت لأجل إنهائها الثورة نفسها هو ما ينبغي أن نفكر به اليوم ونقوم به.

فالثورة كما نعلم ليست وعدًا ولا إكتمالاً إنّها تنتهي فور حدوثها، وما يحصل بعد ذلك هو المأمول منها، بعكس الديمقراطيّة التي تبدأ فور حدوثها وتتطور مع الزمن.

ما حدث في ليبيا هو أن تياراً بعينه قرر الاتجاه بالثورة والثوار -في حال استطعنا تمييزهم داخل فوضى التسلح- نحو تحويلهما في اتجاه أصبح شيئاً مماثلاً لعصابات (بوكو حرام)؛ جماعةٍ بأسلحةٍ حقيقيّةٍ بمشروعٍ غير حقيقيٍّ، جماعاتٍ مسلحةٍ لا ضوابط لها سوى أنها تريد قتل الجميع لإثبات وجهة نظرها فوق كومةٍ من الجثث.

ليبيا اليوم دولةٌ مليئةٌ بالمقاتلين الذين يمتلكون كل الأسلحة، لكنهم لا يمتلكون شيئاً هاماً ألا وهو المعركة. وهنا تكمن المعضلة، حيث سيطر هؤلاء لخلق معركة مع أي شيءٍ كان، حتى لو كان الأمر يتطلب خلق طواحين الهواء غير موجودة أصلاً.

إن دور الدولة هو حماية حقوق المواطنين بالدرجة الأولى ومنع هؤلاء من الاعتداء على حقوق مواطني الدول الأخرى. وأكثر أشكال التجلي الواضحة لها هو الدولة الدستورية. أما حكومات السلطة المطلقة كالقومية أو الدينية أو الاشتراكية أو الفاشية أو الثورية فهي تحمي حقوق الجماعة الأوليغارشية المكونة للطبقة الحاكمة وأذنابها فقط، بمعنى أن الحقوق ليست حقوق جميع المواطنين.

هذا هو الفرق بين دولة الدستور ودولة الثورة. الأخيرة تتجه في نهاية المطاف نحو تكوين حالة فضفاضة ما بين الدولة الموناركية أو دولة حكم الفرد التي تسيطر عليها حكومة الظل كحركة الإخوان المسلمين نموذجاً، أو الدولة الأناركية وهي الدولة التي لا يحكمها أحد، حيث يقتنع الشعب أن المشكلة في الأساس هي في وجود الحكومة.

ليبيا اليوم بعد انهيار المؤتمر الوطني وحكم الإخوان دولة أناركية بامتياز، تحول فيها الثوار إلى مجرمي حرب والساسة إلى لصوص، وهؤلاء هم من سبّب المشكلة ويعتقدون أنّ بيدهم الحل، ليقودوننا في نهاية المطاف نحو دولة أوليغارشية أخرى، قذافي آخر، لأربعين أو خمسين عاماًُ أخرى.

هنالك من الأصنام أكثر مما يمكن تحطيمه، لكن أن يتجه شعبٌ ناحية تحريم الحزبية وحرية التعبير للمرة الثالثة على التوالي في أقل من نصف قرن -وهذه هي القصة في ليبيا اليوم والبارحة- فإن الأمر نتيجة صراع في عائلةٍ واحدةٍ على الميراث.

وعندما تكبر سلطة الدولة تتضاءل مساحة حرية الأفراد. وقد جربنا في ليبيا تطاول ذراع السلطة لدرجة أنها استطاعت انتزاع ملكية البعض لمنحها لآخرين، وهو ما حدث في عصر اشتراكيّة قيصر ليبيا القذافي ورأسماليّة إبنه فيما بعد، ليضطر الشعب في نهاية المطاف لبيع الحريّة مقابل الأمن.

إن مبدأ الحريّة الأساسي هو تحديد دور السلطة،  لننتقل من فكرة: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} غافر 29، إلى فكرة: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}النمل 32.

وليس هنالك مفر لدى أبناء هذا البلد سوى أن يقفوا صفاً واحدا يدافعون عن حقوق الجميع، لا أن يراهن كلٌّ منفرداً على أنّه سينجو من غرق السفينة، كونه ابن عم القبطان.