سعدت مثل كثيرين بأحكام محكمة جنايات القاهرة في تموز/يوليو الماضي بالسجن المؤبد والسجن لعشرين عاما في ثلاثة قضايا وقعت في 8 حزيران/يونيو الماضي وقت الاحتفالات بتنصيب السيسي رئيسا وقضية أخرى تعود لـ25 كانون الثاني/يناير 2013 وشملت تسعة متهمين بينهم متهم مشترك في الواقعتين، مع تحويل متهم قاصر لمحكمة الطفل.

كما سعدت أيضا بالحكم الصادر في السابع من آب/أغسطس من محكمة أخرى في واقعة أخرى حدثت في اليوم نفسه، أي يوم 8 حزيران/يونيو، على ثلاثة أشخاص اثنين منهم بالمؤبد والثالث بعشرين سنة حبس. سعدت لأن القصاص أمر باعث على الأمل لكن الأمل يشوبه الكثير من القلق والحذر.

سعدت مثل كثيرين بأحكام محكمة جنايات القاهرة في تموز/يوليو الماضي بالسجن المؤبد والسجن لعشرين عاما في ثلاثة قضايا وقعت في 8 حزيران/يونيو الماضي وقت الاحتفالات بتنصيب السيسي رئيسا وقضية أخرى تعود لـ25 كانون الثاني/يناير 2013 وشملت تسعة متهمين بينهم متهم مشترك في الواقعتين، مع تحويل متهم قاصر لمحكمة الطفل.

كما سعدت أيضا بالحكم الصادر في السابع من آب/أغسطس من محكمة أخرى في واقعة أخرى حدثت في اليوم نفسه، أي يوم 8 حزيران/يونيو، على ثلاثة أشخاص اثنين منهم بالمؤبد والثالث بعشرين سنة حبس. سعدت لأن القصاص أمر باعث على الأمل لكن الأمل يشوبه الكثير من القلق والحذر.

العنف الجنسي ضد النساء ظاهرة معقدة ومتعددة الأشكال منها ما يقع في المجال العام كالشوارع وأماكن العمل ومؤسسات الدولة العقابية ومنها ما يقع في المجال الخاص كالأسرة وفي سياق العلاقات العاطفية. لكنني أود هنا التركيز على استباحة أجساد النساء في الطريق العام وخاصة على أيدي مواطنين (استباحة مجتمعية) وليس على أيدي ممثلي الدولة أو المأجورين منها.

ورغم التشابك بين الاثنين فإن استباحة أجساد النساء من قبل مواطنين تحتاج تأملا خاصا وهي تبدأ بالتحرشات اللفظية اليومية التي تواجهها كافة النساء إلى الاغتصابات الجماعية العنيفة التي ارتفعت حدتها ووتيرتها مع سنوات الثورة. 

الكارثة قديمة فأول انتهاك معروف مجتمعيا وإعلاميا لجسد امرأة في الطريق العام يذكره جيدا أبناء جيلي هو حادث فتاة العتبة عام 1992 حيث اعتدى عدة أشخاص (من أربعة إلى إحدى عشر حسب الروايات المختلفة) على فتاة عشرينية تركب أتوبيس للنقل العام، وقد تدخل أمين الشرطة الأقرب للواقعة وقُبض على اثنين.

وسائل الإعلام حينذاك كانت تتناول مسألة بكارة الفتاة وهل فعلا تم فضها وقت الحادث وبسببه كما تدعي أم كانت مفقودة من ذي قبل، وهي النقطة التي جعلتني أسأل وأنا في بداية المراهقة هل لو كانت مفقودة من ذي قبل يصبح اغتصاب تلك الفتاة في الشارع أمرا عاديا؟!

نوقش الأمر في مجلس الشعب ومؤسسات أخرى وتحول أحيانا لمحاكمة أخلاقية للناجية وتهوين من ذنب الجاني مثلما صدر من اللواء حلمي الفقي مدير الأمن العام. وبعد جولات مختلفة حُكم على هذين الشخصين بالبراءة على اعتبار أنه لا يوجد دليل على ارتكابهما الواقعة.

وقعت الكثير من الاعتداءات الجنسية ووصل بعضها للمحاكم لكن الحالات التي يكون فيها الجرم علنيا وجماعيا لها طبيعة خاصة ويلزم لكي يكون للقضاء دور فعال فيها أن تنضبط كافة الاجراءات منذ لحظة وقوع الجريمة والتعامل معها مرورا بالنيابة والطب الشرعي حتى قاعة المحكمة وتتطلب تضافر جهود أجهزة كثيرة وتوافر إرادة لديها لكي تقوم بدورها.

ورغم أن بعض الناجيات من تلك الحوادث لجأن للقضاء، لم يحدث أن انصف القضاء أي من تلك النساء. حدث ذلك مثلا في شكوى المتظاهرات الناجيات من اعتداءات بلطجية مدفوعين من أعضاء الحزب الحاكم للتحرش الجنسي بهن في مظاهرات الاحتجاج على التعديلات الدستورية عام 2005 والتي حفظها النائب العام وقتئذ ولم يتم القبض فيها على أحد بالطبع. أما الاعتداءات التي يقوم بها مواطنون فأيضا لا يعاقب عليها أحد ببساطة لأن لا أحد يقبض عليه وإن قبض لا تتوفر أي أدلة كافية لإدانته ولا يبذل أحدا الجهد الكافي لتوفيرها، ومن ذلك حادثة اعتداء جماعي شهيرة وقعت في وسط القاهرة في عيد الفطر عام 2006.

من هنا تأتي أهمية االأحكام الأخيرة. فرغم أن الكثيرمن الوقائع الشبيهة حدثت في محيط التحرير بدءًا من صيف 2011 حتى خمسة أيام فقط على يوم التنصيب الشهير (أي في 3 حزيران/يونيو وقت الاحتفال بالتصويت على الرئاسة) لم تصل أي منهم لمرحلة شبيهة في التقاضي.

فلأول مرة تقريبا لا ندخل في مهاترات حول ما إن كان الحدث قد وقع فعلا، غالبا بسبب الفيديو الذي رآه الملايين، رغم أن الوقائع الأخرى بعضها تم تصويره ورغم أن بعض الناجيات تقدمن بشكاوى عما حدث للجهات المعنية. وكذلك لأول مرة لا تركّز أجهزة الدولة جهدها في تشويه الناجيات بدلا من التحقيق في البلاغات. لنتذكر مثلا مناقشة لجنة حقوق الإنسان في مجلس الشورى السلفي الإخواني يوم 11 شباط/فبراير 2013 للاعتداءات الجنسية التي وقعت في محيط ميدان التحرير في وقت فعاليات الذكرى الثانية للثورة في كانون الثاني/يناير 2013 والتي تحولت لجلسة تحريض وتشفي في المتظاهرات. 

للمرة الأولى لا نصارع البديهيات وفقط. ولا نصرخ بلا مجيب أن معتدين يهاجمون الفتيات ويجب الإمساك بهم وأن أحدا يجب أن يسمع هؤلاء الناجيات ويحقق في الواقعة. الاهتمام المجتمعي والإرادة السياسية هذه المرة أحدثا فارقا كبيرا. ففي الحوادث السابقة منذ بداية الثورة، كانت الدولة غائبة تماما عن المشهد في أحسن الأحوال أو محرضة ومتشفية في أسوأها. وكان الشباب والشابات المتطوعين ومنظمات المجتمع المدني يركزون الجهود على مساعدة الناجيات أما الملاحقة والعقاب فخارجة عن إمكانياتهم أصلا. 

لنتذكر أن أمين الشرطة في حادث فتاة العتبة تدخل لكن إجراءات القبض والأدلة كانت غير منضبطة فخرج المتهمون براءة بل وتحول الرأي العام للتعاطف مع المتهمين خاصة أن أحدهما كان شخص صاحب إعاقة جسمانية.

هذه المرة تدخل عدد من رجال الشرطة القريبين من المكان، وقامت النيابة بدورها فتم عرض المقبوض عليهم أكثر من مرة على الناجيات ومقارنة وجوه المتهمين بالفيديوهات المصورة، وقام الطب الشرعي بدوره وعمل التقارير الطبية دون الانغماس في الأسئلة المتشككة عن شرف الفتيات الناجيات، وأخيرا حرص القاضي على تغليظ العقوبة عن طريق تفعيل كل اتهام ممكن مثل الاحتجاز (تطويق فتاة بمجموعة رجال ومنعها من الحركة) واستعراض القوة (استخدام المطاوي والشماريخ لشل حركتها وتخويفها) وليس هتك العرض فحسب، لكي يخرج الحكم بأكبر عدد ممكن من السنوات، إذ أن الاغتصاب في القانون المصري هو المواقعة من الأمام فحسب أما الاختراق بالآيدي أو أدوات من الأمام أو الخلف فليس اغتصابا وبالتالي عقوبته أخف. بل أن هذه القضية حركت قضية أخرى من كانن الثاني/يناير 2013 كادت أن تنسى في أروقة النيابة رغم اتخاذ الناجية كافة الإجراءات فصدر الحكم فيها في نفس الوقت.

على أية حال، هذه الأحكام هي من الدرجة الأولى ورغم بدء التنفيذ يحق للمتهمين الطعن وسنرى إلام ستنتهي، لكنها بالتأكيد خطوة للأمام في محاربة ثقافة استباحة أجساد النساء في الطريق العام.

لكن علينا الانتباه لخصوصية اللحظة التي صدر فيها، فالدولة هذه المرة كان لها مصلحة مباشرة في تفعيل القضية للحفاظ على هيبتها وإرسال رسالة للجميع أن هذا العهد ليس كغيره، وأن زمن الفوضى انتهى، خاصة أن هذه الاحتفالات جاءت احتفالا بالزعيم الجديد وأن المجني عليهن من المواطنات اللاتي يرضى عنهن ولسن من أعداءه المخربات اللاتي يمكن تشويههن وإلقاء اللوم عليهن. كذلك القوى السياسية جميعها سواء المؤيدة أو المعارضة للنظام الجديد لم يكن لها مصلحة في إنكار ما حدث.

لكن لا توجد ضمانة لحدوث تغير منهجي في التعامل مع الأمر خاصة لو انتبهنا للخطاب الذي يتعامل مع الواقعة وكأنها حدث فريد دخيل لم يحدث من قبل. فلم تصدر بعد استراتيجية مواجهة العنف ضد المرأة وما زالت الإصلاحات تأتي مجزأة وعشوائية (بعض أقسام الشرطة بها وحدة مكافحة العنف ضد المرأة وبعضها لا، والمستشفيات ليس لديها مجموعة لعلاج الاعتداءات الجنسية وأطباء الطب الشرعي لا يفرقون كثيرا بين كشف العذرية والكشف عن اعتداء جنسي). 

ولم تتوقف الدولة عن معاداة المجتمع المدني والحركة المناهضة للتحرش في المجتمع رغم أن تلك الكيانات تستطيع أن تنقل خبرات هامة لأجهزة الدولة في مواجهة الكارثة وتستطيع نشر ثقافة احترام جسد المرأة وحقها في المجال العام لو تركت لها الفرصة بدون تخوين وملاحقة وتشويه، ولم يصدر التشريع المتكامل الخاص بالعنف الجنسي الذي بحت أصوات المنظمات النسوية مطالبة به، ولم يصدر حتى اليوم تقرير رسمي بوقائع الاعتداء الجنسي التي حدثت في نفس الميدان وبنفس الطريقة، بل لم يحدث تحقيق في الانتهاكات التي تمارسها أجهزة الدولة ضد النساء في أماكن الاحتجاز والتي ترسل هي الأخرى رسالة للمجتمع أن هذا الأمر ممكن حدوثه بلا عقاب.